سحب المبادرة السّياسية من أطراف أخرى لتسوية الأزمة السّورية بإقامة حوار ثلاثي بين دمشق والمعارضة وموسكو، هو عنوان المرحلة القادمة في المنطقة بعد أن وجدت هذه الدّعوة صداها لدى القادة الرّوس، في حين أنّ الجهات المعروفة بتأثيرها على هذا الملف تلتزم الصّمت في الوقت الرّاهن، مفضّلة ما يفرزه الميدان.
مخرجات هذا الحوار تبقى غير واضحة بالنّسبة للرّأي العام، كون الإعلان عنه جاء من العاصمة الروسية عقب محادثات المعلم مع قادة هذا البلد، إلاّ أنّه لأول وهلة يتّضح بأنّ هناك مؤشّرات ملموسة على قرب الشّروع فيه، وهذا عندما صرّح وزير الخارجية السّوري أنّ الحوار قد يبدأ في موسكو ويتابع في دمشق، وهذا ما يؤكّد بأنّ التّرتيبات المتعلّقة بهذا الحدث قد استكملت وهو في لمساته الأخيرة.
هذا التّحرك الرّوسي ــ السّوري هو نتاج تقييم سياسي دقيق لما يجري في هذا البلد من أعمال عسكرية تجاوزت كل الحدود، والأخطر من هذا السّعي لعزل مناطق بأكملها عن الدّولة المركزية، وتحويلها إلى ساحات للقتال الشرس بين أطراف متصارعة هناك كالجيش الحر، عناصر داعش، جماعات جبهة النّصرة ومسلّحين آخرين ذوي انتماءات متعدّدة.
هذه الوضعية الحالية وصلت إلى حد لا يطاق من عمليات القتل والإبادة، ناهيك عمّا يجري في كوباني، ولا توجد في الأفق أي عوامل توحي بأنّ هناك عملا معينا يتّجه صوب توقيف هذا التّدميرالجماعي للمدن السّورية، التي وقعت تحت طائلة هؤلاء.
والخيار العسكري يفرض نفسه بقوة من قبل كل هذه الأطراف المسلّحة، التي ترى الحلول من وجهة نظر ضيّقة جدّا، خرجت عن النّطاق السياسي المتعارف عليه في مثل هذه الوقائع.
لذلك فإنّ الحوار المرتقب مع المعارضة التي وصفها المعلم “بالوطنية” هي بداية في الإنطلاق باتجاه تحييد كل الأطراف المتعصّبة التي بلغت نقطة الإنتحار الذّاتي، وسقف اللاّعودة في هذا الدّمار من أجل أهداف حقا تبقى غامضة، وحتى مجهولة، وهذا عندما يلاحظ ذلك التّلاعب بمصير بلد حوّلوه إلى ركام وأطلال بدون أي فائدة تذكر ماعدا خدمة من يقف خلفهم، ويزوّدهم بكل هذه التّرسانة من الأسلحة الفتّاكة.
ولن يكون الحوار أبدا لاقتسام ما تبقّى، وإنما إشعار الجميع بالمخاطر المحدقة والرّهانات القادمة التي تستدعي تصحيح الكثير من الأوضاع، باتجاه التّعقل والتّحلي بالحكمة من أجل إخراج البلد من هذه الأزمة التي استعصى حلّها، ووصلت إلى نقطة تتطلّب وقفة يعود فيها الكل إلى رشدهم وجادة صوابهم، وقد يكون حوار موسكو مدخلا إلى هذا المفهوم السياسي الواسع.
لذلك تمّ التّفكير جديا ومليّا في صيغة أكثر فعالية من قبل روسيا، وهذا بلمّ شمل البعض من المعارضة الوطنية التي لها قابلية في الحوار، وبالإمكان الوصول معها إلى تفاهمات معيّنة أو مبادئ أولية قد تكون منطلقات لاتصالات مستقبلية كاحترام وحدة وسيادة البلد ومقاومة مشاريع التّفتيت، والدخول في عملية سياسية تعدّ لهذا الغرض كالنتخابات وغيرها.
هذا التّوجه الجديد في الأزمة السّورية قد يوضّح الرّؤية أكثر نحو عمل مبني على الفوز، غير أنّ معطيات المنطقة معقّدة جدّا يسجل التّحكم في مجراها، أو التصرف وفق طرح معزول قد يكلّف أصحابه متاعب أخرى نظرا للخيوط التي تحرّكها الولايات المتّحدة، فرنسا، بريطانيا وقوى إقليمية أخرى التي لها مقاربة مخالفة لما ينوي البعض القيام به، من أجل استتباب الأمن بالمنطقة.
وتنتظر القيادة السّورية تبلور ونضج المبادرة الصّادرة عن المبعوث الأممي دي ميستورا بخصوص ما أسماه بالمناطق الجامدة، التي تتواجد بها المجموعات المسلّحة وفق المنظور الذي طرحته دمشق وهو عودة سلطة الدولة والهدوء واستئناف الحياة اليومية، وضمان وصول المؤن، وفي مقابل ذلك تلتزم تلك الفصائل بالبقاء في الشّريط الخاص بها، وهذا النّموذج يمكن تطبيقه بحلب مستقبلا.
لذلك يأتي الحوار السّوري ــ السّوري من أجل التّكفل بكل هذه الاشكالات الأمنية والسياسية، وهو مفتوح لكل النّوايا الخيّرة التي ترغب حقّا في تمرير الفرصة على الذين يضمرون الشر بهذا البلد، حتى وإن كانت المهمّة معقّدة فإنّ المبادرة في حد ذاتها بداية لمسار جديد قد تعطي الأولوية للقناعة السياسية التي توقف العمل المسلّح، عقب سقوط كل الخيارات الأخرى.