السّـلام سيتحقـق لمّا تتوقـف التدخّـلات الخارجيـة
لا يكاد يمرّ يوم إلاّ وتزداد الأزمة الليبية تعقيدا خاصّة مع التلميحات التي تبديها بعض الأطراف لتنخرط هي الأخرى في الصراع العسكري الذي نراه يتصاعد ويعطّل كل محاولات التسوية السياسية ويزجّ بالمنطقة في أتون فوضى أمنية الرّابح فيها هي المجموعات الإرهابية ومنظمات الجريمة المنظمة وتجار السلاح والمخدرات.
«الشعب» تعود مع الدكتور رابح زاوي، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة مولود معمري، بتيزي وزو إلى تطوّرات المعضلة الليبية، لتقف معه على مستجدّاتها الميدانية وعلى جهود التسوية التي قال إنّها ستبقى معطّلة ما دامت هناك أطراف خارجية مصرّة على التصعيد، رغبة منها في فرض تصوّراتها لأجل هندسة المرحلة القادمة بما يضمن مصالحها وأطماعها.
-«الشعب» لا يكاد يمرّ يوم إلاّ وتزداد الأزمة الليبية تعقيدا بتدخّل هذا الطرف وتلميحات الآخر بالانخراط في العمل العسكري، كيف تقيّمون الوضع الليبي، ولماذا التّصعيد الذي نشهده؟
د. رابح زاوي: بداية، أعتقد أنه من الواضح جدا أن هناك العديد من الأطراف الخارجية أزعجها التقدم الذي أحرزته قوات حكومة الوفاق الوطني المعترف بها على أرض الواقع، في مقابل انحسار قوات الجنرال حفتر المدعوم خارجيا، ولعل تصريح بعض الأطراف بإمكانية التدخل العسكري يصّب في هذا الاتجاه وهو تأزيم الأوضاع أكثر. في مقابل هذا غاب صوت العقل والحكمة إلا من الجزائر التي ما لبثت تؤكد عن موقفها الداعم للمصالحة الليبية وحل الأزمة بما يتناسب مع الشرعية الدولية، وأيضا بما يكفل للشعب الليبي حقوقه ويحقق له أمنه واستقراره، وما يؤكد هذا هو الزيارات المتتالية للأشقاء الليبيين إلى الجزائر ولقاءاتهم المتكررة مع القيادة العليا فيها، وهذا التوجه تدعمه عدة عوامل، لعل أهمها هو الموقف الجزائري الثابت، والعامل الثاني هو وقوف الجزائر على مسافة متساوية من جميع الأطراف، وأخيرا وهو أن الجزائر لا تملك أطماعا ولم يسبق لها أن تدخلت في الشأن الليبي بأي شكل من الأشكال.
أما بالنسبة للتصعيد الحالي في الأزمة فيعود بحسب اعتقادي إلى رغبة بعض الأطراف في فرض تصوراتها من أجل هندسة المرحلة القادمة بما يضمن لها مصالحها وأطماعها، ومن جهة أخرى أثبتت الضربات المتتالية التي تلقاها أحد تلك الأطراف عجزا كبيرا في مجاراة النسق العام لحكومة الوفاق والأكيد أن المستقبل يصنعه المنتصر على أرض الواقع وليس من خلال المؤامرات والدسائس التي أثبت الواقع عدم جدواها في ظل تمسك الشعب الليبي بحقه في الأمن والاستقرار.
- لا يختلف اثنان في كون الأزمة اللّيبية هي نتاج صراع مصالح تخوضه دول بعينها للاستئثار بثروات ليبيا وبمواقع نفوذ فيها، ما تعليقكم، وإلى أيّ مدى يمكن أن يصل هذا الصراع؟
أتفق معك تماما في هذه النقطة، ما يحرّك تلك الأطراف جملة من الأهداف التي تتوزع ما بين الثروات النفطية وصراع المصالح الاستثمارية من جهة، ولكن من جهة أخرى هناك صراع محاور واضح جدا للعيان، والأكيد أن كل طرف يعمل على تعظيم مكاسبه المحققة على أرض الواقع، ومن جهة أخرى منع الطرف الآخر من تحقيق مكاسب مماثلة.
الأمر يمكن تشبيهه باللعبة التي يريد طرف معين جعلها لعبة صفرية وفق حسابات رابح – خاسر، ولكن الطرف الآخر يعتقد جازما أنها لن تكون كذلك بقدر ما يجب أن تكون لعبة غير صفرية يمكنها تحقيق مكاسب أوسع وتقليص المخاطر الناجمة عن ذلك. أما ما تعلق بالمدى الذي يمكن أن يصله هذا الصراع هو مرتبط بعاملين اثنين، الأول هو تحويل تلك الخطابات
الداعية للتدخل إلى فعل حقيقي لكن يجب أن يؤخذ في الحسبان موازين القوى الموجودة والرؤية الدقيقة والتقييم الجيد للحالة الراهنة، أما العامل الثاني مرتبط بتوجه الإخوة الليبيين إلى طاولة الحوار وتحكيم صوت الحكمة وتغليب مصلحة البلد، والأكيد أننا من موقعنا وقراءتنا للتاريخ ندرك جيدا أنه إذا تعلق الأمر بالوحدة الليبية ودفع التدخل الخارجي فالليبيون لطالما كانوا واعين بذلك وكلنا أمل أن يقطعوا الطريق أمام تلك الأطراف التي لا يهمها سوى مصالحها وفقط.
- حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دوليا لجأت إلى الدّعم العسكري التركي لتعزّز مواقعها، في حين يلوّح برلمان طبرق الذي يعتبر نفسه المؤسسة الشرعية الوحيدة في البلاد، بالاستنجاد بمصر، ألا يذكّركم هذا ببدايات الأزمة السورية التي انتهت إلى حرب دراماتيكية ؟
في التاريخ الكثير من القصص والروايات ولكن القراءة الجيدة له لطالما تعلمنا العديد من العبر والدروس، مشكلة بعض الأطراف أنها لا تحسن قراءة التاريخ أو ربما لا تلقي له بالا، لقد أثبتت التجارب أن عملية الاستقواء بالخارج على ابن البلد الذي يتقاسم معك نفس الأرض ونفس الهواء ونفس الانتماء مصيره معروف، ضياع للبلد وثرواته، وذل وانكسار لا يمكن للأجيال أن تمحوه بسهولة. هل حقق الدعم العسكري لحلف شمال الأطلسي في 2011 الديمقراطية والسلام للشعب الليبي؟ لا بكل تأكيد، هل حقق الدعم العسكري للنظام السوري نفس الأهداف التي رفعت من طرف السوريين؟ الأكيد لا وألف لا. وهنا نستذكر مقولة ماركس «إنّ التاريخ يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، وما نراه الآن هو المهزلة»، والأكيد أننا لا نتمنى أن تصل ليبيا إلى ما وصلت إليه سوريا، ولكن من جهة أخرى لا يجب أن ننسى أننا نتحدث عن تسع سنوات كاملة منذ سقوط النظام السابق، أليست فترة كافية لإعادة بناء الدولة، هي عمر مضى من حياة الدولة، لكن يبقى دائما أن ما بين التمني والواقع مسافات طويلة لا يمكن أن تطوى إلا بالفعل والعمل.
- أصوات كثيرة تدعو إلى السلام في ليبيا، لكن صخب المؤجّجين للصدام المسلّح يجعلها غير مسموعة، فمتى يعلو صوت العقل ويقبل الفرقاء الجلوس إلى طاولة الحوار؟
سوف يعلو صوت العقل عندما تكف الأطراف المؤججة للصراع والتي أصبحت معروفة للعام والخاص يدها عن ليبيا، وعن الاستمرار في تأزيم الوضع الحالي، وعندما تدرك نفس تلك الأطراف أنه مهما طال الزمن فإن ليبيا ستصل إلى الأمن والاستقرار طالما يوجد شعب ليبي متعطش للأمن ومستعد للحفاظ على ليبيا واحدة موحدة. وسوف يقبل الفرقاء الاحتكام إلى العقل وطاولة الحوار عندما يتلقفون يد الخير الممدودة لها والبناء على التوافق الموجود والمبادرات المستمرة والتي لن تنقطع لا من الجزائر ولا من أطراف أخرى.
- جهود الجزائر المتواصلة، منذ سنوات، لم تتوصّل إلى إحداث اختراق في جدار الذين يدفعون باتجاه الحرب في ليبيا، ما تعليقكم؟
جهود الجزائر لم تكن لتصل إلى تحقيق المبتغى سابقا في ظل السياسات المعاكسة لمسعاها من عديد الأطراف، بدءا من تلك التي حاولت ومازالت تحاول إخراج الجزائر من الملف، أو تلك التي حاولت في مرات عديدة تشويه صورة الجزائر في عيون الإخوة الليبيين، لكن دعونا نقوم بمقارنة صغيرة بين ما قدمته الجزائر منذ اندلاع الأزمة إلى غاية الآن، هي وقفت على مسافة متساوية من جميع الأطراف، دعت باستمرار إلى عدم التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية، هي قدمت مبادرات مستمرة لجمع الفرقاء إلى طاولة واحدة، والأكيد أنها دفعت في اتجاه السلم أضعافا مضاعفة لما قدمته أطراف أخرى في طريق الحرب. الجزائر يمكنها إقناع الأشقاء في الجارة الشرقية بالجنوح إلى السلام من خلال جملة من الأوراق التي تملكها، لعل أهمها المبادرة الموجودة والتي تجمع أهم النقاط المشتركة ويمكن البناء عليها، وثانيا تأكيدها الدائم على دعوتها إلى حوار ليبي –ليبي في الجزائر، وهي تملك كل مواصفات وشروط الوسيط الحيادي بالنظر إلى اعتبارات ذكرناها سابقا.
- كثيرون ينظرون بتشاؤم إلى الوضع الليبي ويتوقعون قرب انزلاقه إلى حرب شاملة، ما قولكم، وكيف يمكن منع هذا المصير؟
بالنظر إلى الوضع الحالي أكيد أن التشاؤم هو السمة الغالبة، وتوقع انزلاق الأوضاع إلى حرب شاملة يعود بالأساس إلى تأجيج أطراف معينة للحرب وحجم الدعم العسكري المقدم إلى جانب المرتزقة القادمين من كل حدب وصوب.
في اعتقادي الأمر لن يصل إلى حرب تقليدية بقدر ما سوف تستمر العمليات العسكرية بالوكالة من خلال دعم هذا الطرف أو ذاك، والدليل موجود في عديد التقارير المتداولة والتي تشير إلى حجم المرتزقة الواصلين إلى ليبيا. منع هذا المصير في يد الليبيين أولا ويمر عبر نبذ التدخل الخارجي ورفضه رفضا تاما، وأيضا الاحتكام إلى الشرعية الدولية.
- ألا يعزّز الوضع الأمني الهشّ في ليبيا نشاط الجماعات الإرهابية في الجنوب والإقليم عموما؟
بكل تأكيد فرصة كبيرة أمام تلك الجماعات لتنفيذ عملياتها وتعزيز وجودها، مادام أن الدول منشغلة بالوضع الصحي مع أزمة فيروس كورونا، وكذا الوضع الأمني في ليبيا ومالي، كلها عوامل يمكن أن تجعلنا نشهد عمليات إرهابية محدودة العدد في قادم الأيام والأسابيع.
- في ظلّ الاستقطاب الخارجي والتجاذب الداخلي، أيّ مصير ينتظر ليبيا؟ وهل من ضوء في نهاية النفق؟
من الصعب جدا في ظل ضبابية المشهد وانعدام الرؤية الدقيقة الجزم بطبيعة المستقبل الذي ينتظر ليبيا، في اعتقادي الأمور قد تجد طريقها للحل خاصة مع دعوات دول متدخلة في الملف بالسلب على غرار فرنسا و إيطاليا إلى ضرورة وقف العمليات العسكرية والدعم العسكري، وبالتالي قد نشهد خلال الأيام القادمة بوادر ايجابية لحل الأزمة، والأكيد أن الجزائر سيكون لها دور كبير في هذا الجانب.