توشك قاطرة السلام المالية أن تصل إلى محطتها الأخيرة المتمثلة في التوقيع على اتفاق نهائي لمعضلة الشمال التي طالما شكّلت مصدر تهديد للوحدة الترابية لهذا البلد الشقيق وإرباكا أمنيا لدول الجوار سيّما وسط انتشار الجماعات الإرهابية التي تجد في المناطق التي تشهد حالات انعدام الاستقرار الأرضية الخصبة لتنفيذ أجنداتها الدولية والإقليمية، خاصة وأن هذه الأخيرة أصبحت أداة تستعمل لضرب وتهديد استقرار الدول والحكومات.
إن الماليين الذين تفطّنوا لما يحاك ضد بلادهم من دسائس ومؤامرات سارعوا إلى العودة بداية إلى الشرعية من خلال تنظيم استحقاقين هامين مكنّا البلاد من العودة إلى العمل بالدستور الذي علق إثر انقلاب جانفي 2012، والذي أدخل مالي في أزمة ببعدين: بعد سياسي تمثل في الانسداد المؤسساتي وآخر عسكري تمثل في سيطرة طغمة عسكرية انقلابية بقيادة النقيب سانوغو على دواليب الحكم وهو الشيء الذي أدخل البلاد في عزلة سياسية قارية ودولية.
في هذه الأجواء، ولدت ما عرف لاحقا بمعضلة الشمال الذي وقع تحت سطوة الجماعات الإرهابية التي لم تكتف بذلك وكشفت عن تطلعاتها الرامية إلى إقامة إمارة للإرهاب الدولي حين هدّدت بالزحف على العاصمة باماكو، قبل أن تتدخّل القوات الفرنسية في إطار عملية سيرفال استجابة لنداء استغاثة أطلقته الحكومة المالية.
إن هذا المشهد يمكن من خلاله إدراك الفارق بين مالي الأمس التي كانت مهدّدة في وجودها وكيانها، بينما عندما نتحدث عن مالي 2014، فإن التطلعات ليست نفسها فلم تعد باماكو تنتظر القشّة التي تنتشلها من الغرق فتلك مرحلة قد تجاوزتها بنجاح، حيث نجت مالي الدولة والمؤسسات من الاندثار والاضمحلال على يد آلة إرهابية وحشية لا تؤمن بمنطق الدولة وتعمل على خلق مناطق الفراغ لتملأه بوحشيتها وهمجيتها التي تدخل في إطار أجندات دولية مشبوهة ومبهمة هدفها التأثير على الرأي العام العالمي ورسم توجهاته وفق تلك الأجندات التي يزال من وضعوها يحاولون ضرب مفاوضات السلام الجارية بين الماليين من خلال عمليات إرهابية لا تؤكد في حقيقة الأمر إلا يأس مدبيرها ومنفذيها، مما حققته مفاوضات السلام بالجزائر.
إن مالي اليوم تعطي انطباعا مغايرا لما كان عليه الوضع بالأمس وهو أنها دولة بعثت من جديد تريد أن تبدأ المسيرة على الطريق السليم من خلال تفكيك كل ما يفخّخ مستقبلها القريب والبعيد الذي يجب أن يشارك فيه الجميع دون إقصاء ولا تهميش لمنطقة أو فئة أو تيار سياسي ... الخ يكون فيه لأولئك جميعا القسط نفسه من الحق ومن المسؤولية. وبناء هذا المستقبل المشترك يجب أن يكون خاليا من كل الترسبات والأحقاد التي فرضتها مرحلة معينة بل فتنة عابرة نفخ في نيرانها أولئك الذين لا يريدون لمالي ولا لإفريقيا أن تعرف السكينة والاستقرار لكي لا تخرج من دوامة التخلّف والصراعات والحروب في حين تعيش شعوب في قارات أخرى الرفاه والبذخ من خيرات هذه القارة التي لم ينل شعوبها، إلا الأوبئة والحروب التي يأخذ كل منها نصيبه من ديموغرافيتها، ولكن رغم ذلك تبقى نسبة الولادة فيها الأعلى في العالم، إنه سرّ هذه القارة التي لا تزال تقاوم وتقاوم...تقاوم.
إن صمود الشعب المالي أمام تلك المحن كلها وإصراره على البقاء، يؤكد أن الشعوب الافريقية من طينة خاصة من طينة أولئك الذين لا يستسلمون ولا يسلّمون والمرحلة الفارقة التي يعيشها اليوم المتمثلة في مفاوضات السلام التي بلغت جولتها الرابعة التي احتضنتها الجزائر على غرار الجولات السابقة ولعبت فيها دورا محوريا تؤكد أن مالي انتصرت بانتصار السلام ومالي الغد هي مالي المصالحة، مالي السلام، مالي الوحدة التي تزول فيها كل الحواجز الوهمية بين أوصال شعبها الواحد.