لا مكان، اليوم، للحديث عن السياسة الدولية أمام الهجوم الشرس لفيروس كورونا، مؤجلا كل «الحسابات» الى إشعار آخر.
وجد الكبار أنفسهم أمام مستجد لم يدرجوه أبدا كاحتمال وارد في استراتيجياتهم الاستشرافية التي تتباهى بها أكبر الجامعات والمعاهد في التوقعات المتعلقة بكيفية إدارة الأزمات في حينها.
هذا التوجه المعنون «الكل سياسة خارجية» صاغه المنتصرون على النازية بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا بإعادة بناء العلاقات بين الشعوب وفق التقسيم الأديولوجي، المعسكر الشرقي ونظيره الغربي، وإقامة مؤسسات أمنية عسكرية واقتصادية. رافق ذلك تأسيس الأمم المتحدة، وما تفرع منها من منظمات حيوية كمنظمة الصحة العالمية تتكفل بضمان خدمات طبية للأفراد والجماعات في زمن السلم ومتابعة السياسات العمومية في هذا الشأن والمتوجهة للشعوب.
السياق الاستثنائي الذي نشأت فيه هذه المنظومة المؤسساتية جدير التذكير به، لمعرفة ذهنية الغرب الليبيرالي في تسييره لهذه الدوائر، انطلاقا من الإقصاء والتهميش وحتى تغييب هؤلاء من كل البرامج الصحية المعدة لهذا الغرض وعدم الاهتمام أصلا بهذا الجانب، بالرغم من الضرورة الملحة في هذا الإطار. وخير دليل، القارة الافريقية الأكثر عرضة للأمراض المعدية: إيبولا، الكوليرا، الملاريا وغيرها... التي فتكت بتجمعات سكانية بأكملها وأزالتها من الخريطة وماتزال تحصد الآلاف في صمت والى غاية يومنا هذا.
الإهمال العمدي المتبع من قبل الشمال نحو الجنوب، كان محل تنديد دائم من البلدان الطلائعية والتقدمية خلال سبعينيات القرن الماضي، والتي طالبت آنذاك بنظام دولي جديد لا يتعلق فقط بإضفاء العدالة والإنصاف والمساواة في العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية بين الضفتين، بل أن المطالب المتكررة، كانت حول الحق في العلاج كذلك وهو امتداد طبيعي لكل تلك النضالات الوطنية الصادقة للرعيل الأول من رموز الدفاع عن حقوق الشعوب التواقة الى قرارها السيادي في هذا المجال.
للأسف، هذا الخيار الوطني النابع من حرارة القناعات الفكرية الصائبة، اصطدم بجدار المقاومة من تلك الدول، رافضة إدخال أي تغيير يذكر على آليات التعامل بين الشمال والجنوب، بدليل لم تدرج التعديلات المقترحة في أدبيات تلك المنظمات.
ومرة أخرى يطرح الغرب ملف حقوق الإنسان، ملوحا بشتى التهديدات حيال تلك الشعوب ولم تنج من المضايقات العديدة، كحرمانها من الاستفادة من مزايا معينة وإدراجها في القائمة السوداء، وتحرير تقارير مغرضة عنها. ونسي هؤلاء بأن الحق في الخدمات الصحية يعد جزءا لا يتجزأ من مفهوم حقوق الإنسان وما على هؤلاء إلا الانصياع الى هذه الدعوة بعدم حرمان البشر من هذا الحق الأساسي، مهما كانت معتقداتهم ومشاربهم.
الأدهى والأمر هنا، هو أن امتدادات تلك المنظمات ذات التأثير القوي المتولدة عن مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية، بقيت جاثمة على صدور أنظمة هذه البلدان المحرومة، خاصة صندوق النقد الدولي، والبنك العالمي، هاتان المؤسستان فرضتا برامج تصحيحية قاسية عندما شددت على التحكم وتقليص النفقات في الشق الاجتماعي، خاصة قطاع الصحة وما كان على الحكومات المركزية إلا الإذعان الى تلك التوصيات، مقابل حفنة من الدولارات وهذا بالتخلي عن الرعاية الصحية لصالح شعوبها، مما أدى الى كل تلك الاختلالات الهيكلية الخطيرة المسجلة الى يومنا هذا، وزادت في كشف هذه «الأزمات» مع وباء كورونا.
كان الشغل الشاغل لتلك المؤسسات المالية الحد من بروز سياسات اجتماعية وصحية، بدعوى كبح جماح المصاريف في هذه الميادين الحساسة. وضمن هذا الإطار، عملت الكثير من الحكومات في الدول الغربية على تقليص المخصصات في هذا القطاع بنسب متفاوتة مشهود لها بالتفوق في هذا الميدان، مما أوقعها في هذا الفراغ. لا نتكلم عن إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وغيرها، بل فرنسا التي ستستورد مليار كمامة من الصين بقيمة 1،5 مليون أورو، ناهيك عن لوازم أخرى كالأسرّة، وأجهزة التنفس وعتاد آخر، نظرا لعدد الإصابات المرتفع الذي وصل الى سقف قياسي، تطلب الأمر فتح فضاءات استقبال مدنية جديدة.
واستنادا الى تلك النظرة الضيقة والمسيّسة، انهار النظام المالي العالمي بشكل سريع لم يتوقعه أحد. وأمام هذا الفراغ، لجأت تلك الدول المحتكرة للعلاجات الرفيعة، الى الحل الوحيد ألا وهو الوقاية ولم تستطع التفاهم حتى على فعالية الدواد، لأن نظرة المخابر ماتزال تجارية وليست إنسانية، بالرغم مما يقوله الأطباء.
فهل يراجع هؤلاء نظرتهم مابعد مرحلة كورونا؟ بنزع قناع الجشع كما هو معمول به حاليا في العلاقات الدولية والدوس على الصغار؟.