تجربة جديدة في الإبداع الثّقافي الفكري، زهور ونيسي:

هكذا ألّفت كتاب “الإمام عبد الحميد بن باديس ونهضة الأمّة”

فنيدس بن بلة

أثرت الأديبة زهور ونيسي المكتبة الجزائرية بإنتاج ثقافي فكري، يضاف إلى سلسلة مؤلفاتها العديدة التي تشكّل متنفّسا للوزيرة السّابقة، التي تجد في الكتابة حرية الإبحار في عالم الأدب والثقافة الفسيح الذي لا يعترف بالحدود عدا حدود النّوعية والتألّق.

جاء صدور كتاب الأديبة ونيسي “الإمام عبد الحميد بن باديس ونهضة الأمة..قصة حياة”، في شكل موسوعة عن منشورات “الفا”، معطيا إضافة وثراء للصالون الدولي للكتاب في طبعته ال 20، مشكّلا باكورة عمل واجتهاد وبحث عن رائد الإصلاح في الجزائر صاحب المقولة الشهيرة “أعيش للجزائر..” والمجيب عن المشكّكين في الانتماء للوطن والهوية زمن الاحتلال الفرنسي البغيض. صاحب النظرة الاستشرافية والتعايش مع الآخر، المعترف به وبخصوصية تمايزه قائلا في إجابته على السؤال: “من أنا؟ أنا زارع محبة ولكن على أساس من العدل والإنصاف والاحترام مع كل أحد من أي جنس كان ومن أي دين كان..”.
قامت الأديبة زهور ونيسي بجهد مضني وتحري في إعداد مؤلفها، مدركة لما يحمله من قيمة معرفية عن أحد أكبر أعلام الجزائر، وأكثرهم تأثيرا وقوة في الدفاع عن الهوية الوطنية وانتمائها العربي الإسلامي الامازيغي غايتها اطلاع النشء برائد الإصلاح وما يمثله من قامة علمية تستدعي الاهتمام والعناية. وهي بذلك تقدّم رسالة بوجوب الاعتناء بعلماء الجزائر ودورهم الرائد في النهضة في وقت تتنكّر فيه نخب لمآثرهم وفضلهم، وتجري وراء التّرويج لآخرين في العالم الإسلامي. هي تقدّم رسالة حول وجوب الاعتناء بفكر رائد الحركة الإصلاحية، الذي يقدّم أجوبة كافية شافية عن بناء المجتمع السليم المتبع بقيمه المتفتح قابل للحداثة دون التنكر لأصالته.
«كنت دائما وأنا أتعرّض مع بعضهم في إطار خاص أو في بعض الندوات الفكرية والتاريخية إلى ضرورة إحياء مآثر بعض الاعلام الوطنية والرموز التاريخية بكتابة نصوص إبداعية حولهم، كان يشار إليّ وكل مرة من طرف إخوان كثيرين أعتزّ بهم وأحترمهم، إنّ أفضل وأصدق من يمكن أن يكتب نصا وإبداعا عن الامام عبد الحميد بن باديس، حياته وفكره ومسيرة حركته الإصلاحية هو أنت. وكنت أتساءل بدهشة وحيرة كبيرين، وكأنّني أحاول أن أبعد عن كاهلي الضعيف جبلا ثقيلا يكاد يقع عليه”.
هكذا قالت الأديبة زهور ونيسي عن سبب إصدار هذا المؤلف الضخم الثري بالمعلومة والمعرفة، أرادته أن يكون ثريا وذي وزن يليق بمقام العلامة.
خاضت ونيسي معركة التأليف متّخذة من تجربتها بكتابتها القصصية الواعية والمتأنية، وغيرها من الأجناس الأدبية التي تعالج قضايا المجتمع وهموم أبنائه وتركيباتهم ومعاناتهم اليومية  بأسلوب التفاؤل والرغبة في الحياة، موظفة أسلوب السهل الممتنع في الترويج لأفكار البناء ومبادرة التغيير. لخّصت كل هذا في تصريحها على هامش “سيلا” 2015 أثناء بيع بالتوقيع لكتابها: “همسات المساء” بالقول: “أنها تجربة كاتبة مبدعة في مرحلة الشيخوخة، وقفة تأمل حول المجتمع الثابت فيه والمتغير، نظرة مشبّعة بتجربة عمر تعترض اقتراحات حلول لتعقيدات الظرف ولا تتوقّف عند المرثيات”.
ينطبق هذا القول على مؤلّفها حول الامام بن باديس التي تعطي جملة من الأسباب التي تجعل منها أحق وواجب الكتابة عنه باعتبارها ابنة حي العلامة بقسنطينة، درست في مدرسة للغة العربية أسسها، تكوّنت على مبادئ أفكاره وقناعاته، ودافعت عنها بلا توقف قولا وتأليفا. وهناك أسباب أخرى وراء مبادرتها، تلخّصها الكاتبة في عدم نيل العلاّمة كغيره من الرموز الوطني في عالم الفكر والثقافة حقّه من التعريف والتقدير والاعتراف.
بهذه الطريقة خاضت ونيسي تجربة الكتابة عن بن باديس بإلحاح من الوطنيّين مسؤولي شركة “الفا”، فعادت تتبع آثار العلاّمة ومسيرته خطوة خطوة، حريصة على أدق التفاصيل معتمدة في تعقب حياة مؤسّس جمعية العلماء المسلمين النص الابداعي، الذي تراه أكثر تدفقا بالحياة من النص التاريخي الذي ينقل المتصفّح للكتاب إلى الماضي عكس النص الابداعي، الذي هو أكثر حركية وحرارة في نقل التاريخ إلينا وما يحتاجه الحاضر والمستقبل.
من هذه الزاوية نجحت الأديبة زهور ونيسي في تقديم العلامة بن باديس والتعريف به من مختلف الجوانب والمحاور، جاعلة منه عبر النص الإبداعي شخصية من الماضي القريب ليست جامدة، مأثرتها تتوقف عند مرحلة ثابتة من تاريخ الجزائر، لكن متحركة حبلى بالقيم التي تشكل نموذجا حيا وتمثل أفكارها مرجعية تعتمد عليها الأجيال في البناء الوطني في كل الظروف.
وتتجلّى هذه الخصوصية الجميلة لكتابات المرأة بصورةٍ أوضح في قصة “بدلة العيد”، حيث تنتظر “حورية” حبيبها الذي انضمّ إلى رجال الثورة مفضلاً الوطنَ على الحبيبة، فنقف على ما يعتمل في نفس الأنثى من عواطف بعد أن يصلَها نبأُ استشهاد حبيبها.‏
كما تتجلّى هذه الخصوصية في قصّة “القرية الصّغيرة” التي نقف فيها على أهواء الأنثى، ورغباتها وتطلّعاتها الخيّرة والشريرة من خلال زوجة أبٍ تستطيع بمكرها وكيدها أن تجعل ابنةَ زوجها الصبيةَ الجميلةَ تنحرف، وتدفع بها إلى مهاوي الرذيلة لتبعدها عنها وعن البيت الذي تعيش فيه.‏
وفي قصة “الاسم الحلم” تُبرز الكاتبة من خلال لقطاتٍ اجتماعيةٍ وضعَ المرأة البائسَ ومعاملةَ المجتمع الذكوري لها، وعدمَ القناعة بمساواة الجنسين، وتفضيلَ الذكور على الإناث، ونظامَ تعدّد الزوجات، واعتبار الأنثى مخلوقاً من أجل الرجل أو أنّها مجرّدُ واحةٍ يتبرّد في ظلّها عندما يرى في نفسه الرغبة دون أن يفطن إلى أحاسيسها ونوازعها ومعاملتها معاملةً إنسانية تليق بمشاعرها المرهفة. وواضحٌ أن القصة تنضج مادتها من الواقع الاجتماعي والنفسي للمرأة، ولأن الواقع ــ كما قلنا ــ مفتاح الكاتبة، وهي عندما تُعبّر عن الفكرة أو تلجأ إلى التجريد بغية الوصول إلى درجةٍ من المعاصرة، فهي لا تنسى الواقع الذي ينوء بكاهله عليها دائماً، ويتركها في الأعمّ الأغلبِ مقهورةً مسحوقة.‏
إنّ قصص المجموعة بمضمونيها الوطني والاجتماعي الأنثوي، تعبّر بصورةٍ عامةٍ عن ضياع الإنسان وغربته على المستوى المحلي، وترسم في كثيرٍ من المواضع الخطوطَ المتقاطعةَ والمتوازيةَ لذلك الضياعِ، وتلك الغربة، مبلورةً بأسلوبها التعبيري غير المباشر، رؤيتها الفكرية التي تتفهّم القضية بجميع أبعادها الحادة والمؤلمة، وقد ساعد السّرد القصصي حيناً والمنلوج الداخلي حيناً آخر على تجسيد لحظات التجربة مكونّاً شكلاً فنياً يتلاءم مع الصراع المحتدم فوق رقعةِ الوطن الجغرافيةِ المحدودةِ الأبعاد، والتي تتفرّعُ عنها رؤيا الحرية المفقودة حيث يفقد المواطن أحلامه.‏
ويقف وجهاً لوجهٍ أمام انقطاع خيوط الأمل، وانقطاعِ صلة الرحم، وتلوّثِ أيدي الأشقّاء ـ القتلةُ والقتلى بالدم.‏

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024