تثير العودة إلى نظام رخص الاستيراد جدلا واسعا في أوساط المال والأعمال بين مؤيد ومتحفظ في ضوء تخوف من انعكاسات سلبية محتملة قد تنجم عن ممارسات بيروقراطية. ولذلك تفضل السلطات العمومية المختصة مثلما عبّر عنه وزير التجارة، التريث من أجل اتضاح الرؤية جيدا بما يضمن التوصل إلى ضبط إجراءات عملية كفيلة بضمان شفافية التصرف في رخص الاستيراد.
واللجوء إلى العمل برخص الاستيراد ليس خيارا بقدر ما هو حتمية تفرضها مؤشرات التجارة الخارجية التي تعاني من اختلالات مالية في غير مصلحة الاقتصاد الوطني، بالنظر إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد بشكل ينذر بالخطر على الاحتياطات المالية، خاصة في ظلّ التراجع الكبير للموارد المالية بالعملة الصعبة إثر انهيار أسعار المحروقات.
ويشكّل الدفاع عن الإنتاج الوطني قناعة مشتركة بين السلطات والمتعاملين المنتجين المحليين لمواجهة هجمة استيراد غير مسبوقة لم يعد ممكنا تحمل ثقلها، ولذلك سطّرت الدولة خارطة طريق ذات معالم واضحة تجعل المؤسسة الاقتصادية المنتجة في قلب المعادلة، بحيث ترافقها بمنظومة إجراءات تحفيزية من بينها السعي إلى ضبط سوق التجارة الخارجية، وبالذات فيما يتعلّق بالاستيراد الذي أصبح ينخر الاقتصاد الوطني ويستنزف موارده.
ومن شأن منح وقت إضافي لصياغة آليات ومعايير واضحة لرخص الاستيراد بلورة المشروع لتفادي إنتاج صيغة بيروقراطية تذكر بما حصل في الثمانينات لما كانت تسيرها غرفة التجارة، وهو الانشغال الذي يلقي بظلاله على الملف من أجل التأكّد من ضمان الوضوح والتوازن بين المتعاملين ودون المساس بقواعد حرية النشاط التجاري. ولذلك، فإن رخصة الاستيراد المطلوبة لا تكون ذات طابع إداري، إنما تستجيب لجملة من المعايير الاقتصادية المتعلقة بالجودة والأمن والسلامة دون المساس بقواعد المنافسة.
وفي هذا الإطار، من المفيد أن يتم ضبط أرضية صلبة وقابلة للمراقبة للعمل بهذه الرخص من خلال التوصّل إلى بناء قاعدة بيانات تخص قدرات وفروع الإنتاج الوطني التي يمكن الرهان عليها، خاصة من حيث تمتعها بالوفرة وبمعايير الجودة والأسعار المنافسة وكذا شروط الأمن والسلامة. ويبرز هنا مدى استعداد المؤسسات الاقتصادية المحلية بكل أنواعها لتلبية هذه الشروط قبل اللجوء إلى كبح استيراد نفس المواد والمنتجات التي توّفرها السوق المحلية وهي ذات وزن قابل للنمو والإزدهار، إذا أبدى المنتجون بالدرجة الأولى حرصا حقيقيا وصادقا على ديمومة النشاط، ومن ثمّة جعل الربح المالي المباشر في درجة ثانية بعد المنتوج نفسه، بمعنى تحصيل الربح واسترجاع موارد الاستثمارات يكون في المديين المتوسط والطويل.
ولعلّ من أبرز الضمانات التي تحقّق نجاح هذا الخيار الحتمي، ضرورة التزام المؤسسات والمتعاملين المحليين بتموين السوق وبشكل منتظم كما ونوعا وبأسعار واضحة التركيبة، فلا تتعدى أسعار نفس المنتوجات عند الاستيراد والحرص بشكل جدي على معايير الجودة ومنع أي ندرة محتملة وذلك بإقامة مخازن كافية ومضاعفة حجم الإنتاج وتوسيع دائرة خدمات ما بعد البيع وتأهيل اليد العاملة باستمرار، علما أن منظومة التكوين والعليم المهنيين كما كشف عنه وزير القطاع لدى تنشيط منتدى جريدة “الشعب” قبل أسبوع جاهزة لتلبية حاجيات ومتطلبات المؤسسات الاقتصادية الجزائرية في مجال التكوين والتمهين من أجل ترقية الموارد البشرية ومواكبة التطورات التقنية والفنية.
لا يزال سعر المنتوج المحلي يرتبط بمستوى العملة الأجنبية مثل الدولار واليورو ولم يخف أحد المتعاملين قبل أيام توجهه إلى إعلان تطبيق زيادات لأسعار منتوجاته في وقت يروّج لشعار تشجيع الإنتاج المحلي في مواجهة المنتوجات المستوردة. ويتناقض موقف هذا المتعامل تماما مع مؤشرات تغيّر أسعار العملات الأجنبية في ظلّ تسجيل تراجع لقيمة اليورو والدولار دون أن ينعكس ذلك على مؤشرات الأسعار المعمول بها في السوق الوطنية. وتراجع الدولار الأمريكي في منتصف الأسبوع الأخير عن أعلى مستوى له في 11 عاما مقابل سلة عملات تأثرا بخسائر مقابل الين.
أمام تقلبات الأسواق والصراع المحموم على التجارة الخارجية، فإن اعتماد رخص الاستيراد لا ينبغي أن يكون كابحا للمبادرة أو مصدر إنشاء لوبيات جديدة تتحكّم في الأسواق التي تحتاج إلى توسيع متعامليها وتنويع مصادر تموينها من أجل كسر شوكة الاحتكار والمضاربة والتلاعب بالأسعار، التي بقدر ما تتراجع أحيانا عالميا فإنها تستمر في الارتفاع في أسواقنا نتيجة ضيق حلقات الاستيراد وغياب شفافية المعاملات. ويستدعي هذا الظرف اللجوء إلى إحداث مرصد للتجارة الخارجية يتابع ويراقب المؤشرات ليزود أدوات الرقابة بالمعطيات التي تسمح بمراجعة الرسوم والتضييق على هوامش الربح المبالغ فيها.