تختلف طقوس إحياء ليلة المولد النبوي الشريف بين شرق البلاد وغربها، غير أنّها تجتمع في لمّ شمل العائلة حول مائدة تزيّنها المأكولات التقليدية، ويعطّرها الذكر وقراءة القرآن، ويكون للأطفال النصيب الأكبر من البهجة.
وفي ولاية تلمسان تعوّد أهلها على أن تجمّع الصبية والفتيات قرب البيوت في الأحياء لضرب «الدربوكة» وغناء المدائح الشعبية، وهي العلامة الأولى لاقتراب أسبوع المولد النبوي الشريف، والذي تستعد له العائلات التلمسانية باقتناء الشموع والحناء ومختلف أنواع البخور، لإحياء الاحتفال بليلة الثاني عشر من ربيع الأول. فتجتمع النسوة في البيوت لإعداد الحلويات التقليدية، وإلباس البنات الصغيرات الزي التلمساني التقليدي المرصع بالحلي والجواهر، ثم الخروج بهن إلى محلات التصوير من أجل تخليد المناسبة. في حين يخرج الرجال إلى المساجد من أجل السهر حول واحة القرآن الكريم وسيرة المصطفى ــ صلى اللّـه عليه وسلم ــ من خلال الدروس والندوات المنظمة بالمساجد.
هذه العادات والتقاليد راسخة بمدينة تلمسان منذ عدّة قرون، منذ العهد الزياني بالضبط، حيث كان يحرص أمراء بني زيان على فتح قلعة المشور وفتح أبواب القصر لعامة الناس. وتنتظر بعض الأسر مناسبة المولد النبوي الشريف لختان أطفالها وإبرام عقود الزواج، تبركا بالذكرى العطرة.
ووسط انتشار عادات دخيلة، مثل المفرقعات والألعاب النارية التي تحوّلت إلى كابوس مرعب يهدّد سلامة الأطفال، تجتهد بعض فعاليات المجتمع المدني، من جمعيات وهيئات، لتنظيم عديد الأنشطة والفعاليات، تخص مسابقات فكرية تحفيزية في حفظ القرآن الكريم ومعرفة السيرة النبوية لصاحب الذكرى محمد ــ صلى اللّـه عليه وسلم ــ وهي مسابقات يقبل على المشاركة فيها الآلاف من الشباب.
ومن هذه المسابقات الحفل التقليدي الذي تنظّمه مديرية الشؤون الدينية بمسجد تلمسان الأعظم، والتي تخصّص لتكريم حفظة القرآن الكريم، كما يصرّ بعض مشايخ مدينة تلمسان على إحياء الذكرى بخلوة الشيخ السنوسي، حيث يكون اللقاء لتدارس سيرة المصطفى وإنشاد أجمل القصائد والألحان المخلّدة لذكراه.
أبو حمو موسى الثّاني أول المحتفلين به في المدينة
اكتسى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بمدينة تلمسان في عهد أبي حمو موسى الثاني، حلّة جميلة وطابعا شعبيا ورسميا، منذ توليه العرش الزياني، سنة (760هـ / 1359م).
تميّز الاحتفال في عهده، بإيقاد الشموع الملوّنة وتوزيع ماء الزهر وماء الورد، كما توزّع فيه الهدايا المتنوّعة، تؤدى الديون عن المسجونين وكذا عن الأموات، فعندما انتصر هذا السلطان على بني مرين، أعاد إحياء دولة الأجداد بالمغرب الأوسط، الذي صادف حلول ذكرى المولد الشريف، فلم يتوان في انتهاز الفرصة للاحتفال به، وأقام بهذه المناسبة حفلا كبيرا، وجعل هذا اليوم من الأعياد الرسمية للدولة، وخصّه بعناية فائقة دون غيرها، وفي ذلك يقول التنسي: ‘’وكان السلطان الزياني، يدعو كافة الناس، خاصتهم وعامتهم، بحضور هذا الاحتفال، وينقل يحي بن خلدون جانبا من احتفال السلطان في مجلسه في ليلة المولد بقوله: ‘’فأقام لها بمشور داره العليا عرسا حافلة، احتشدت لها الأمم، وحشر بها الأشراف والسوقة’’، أي وحشد لها إمكانيات مادية وأدبية هامة، فما شئت من نمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة، وبسط موشاة، ووسائد مغشاة بالذهب، ومشامع كالأسطوانات، قائمة على مراكز الصفر المموهة.
وكان السّلطان يتصدّر المجلس، جالسا على سريره الذي يسر الناظرين، في أبهة وإجلال، ثم تليه أعيان المدينة من مختلف الشرائح الاجتماعية، من أمراء ووزراء ووجهاء وعلماء وشعراء، وموظفين ونقباء الحرف المتباينة، ومن عامة الناس، أجلسهم على مقاعد حسب مراتبهم الاجتماعية، وخصص لهم ولدانا، تطوف عليهم، يرتدون لباسا من الحرير الملن، ويحملون بأيديهم مباخر ومرشات، يخرج منها دخان العنبر، وماء الورد.
وبعد تقديم أنواع الأطعمة للحاضرين، يأتي دور الإنشاد حيث يعم المجلس الهدوء والوقار، فيتقدم المنشد بمداح الرسول ــ صلى اللّـه عليه وسلم ــ ويستهل ذلك بقصيدة من نظم السلطان أبي حمو موسى الثاني، في مدح مولد المصطفى.
ثم يأتي دور إنشاء القصائد والتباري بها في مجلس السلطان بهذه المناسبة الكريمة، نظّمها شعراء تلمسان وأدباؤها وتستمر قراءة القصائد إلى آخر الليل، حيث يؤتى بأصناف الأطعمة، التي ‘’تشتهيها الأنفس وتستحسنها الأعين، وتلذ بسماع أساميها الآذان حسب تعبير التنسي’’، إلى أن يلج الصباح، فيؤدي السلطان الصلاة بالمجلس ثم يقوم الحاضرون، فينصرفون إلى منازلهم، وفي هذا الصدد يقول يحيى ابن خلدون: ‘’وجيء في آخر الليل، بالخرس الشهي الملاذ الحافل الملامح والمشام المتعدد الخوانات مما أرحبت ساحته، وخيرت بروده وناء بالقصبة أولى القوة محملة، ثم الفواكه فالحلواء، وطعم الناس بين يدي الخليفة، وشكروا الله سبحانه وتعالى ولم يبرح مكانه، حتى صلى الصلاة الصبح في الجماعة، ثم غدا داره السعيدة’’.