بعد التلفزيون الأنترنيت أفسدها..

عادات انقرضت وأصبحت من حكايا زمان..

البليدة/ لينة ياسمين

مدفع الإفطار واحتفالية بصوم البنت والولد في خزانة التاريخ

يحنّ اهل البليدة من أناس أيام زمان ،  الى عادات و قعدات و سهرات عائلية و جيرانية إن صحّ التعبير في الشهر الفضيل ، ويعترفون بأن التطور  الحاصل في وسائل الاتصال بكل صوره ، ساهم وساعد على اندثار وانقراض بعض التقاليد التي كانت ايقونة شعبية ، تلهم الشعراء وأصحاب الحسّ الرهيف في تأليف قصائد شعرية وأغان تراثية وملحمية ، يصفون تلك المشاهد ويتغنون بها ، لكن في فاصل زمني يصفه أهل زمان بأنه مؤلم ومؤسف ، حوّل التلفزيون في عقود تلك العادات الى مشاهد مصورة ، ثم تلته الشبكة العنكبوتية بما تزخر به من أدوات و قنوات تواصل اجتماعي ، وشلت كل رابط اجتماعي وجمّدته ، وأصبح التواصل المتين والعريض ، الذي كان بين الجيران والعائلات ، يظهر في رسائل نصية وصور جامدة ، قتلت روح تلك العلاقات والروابط الأسرية والاجتماعية بشكل مبدئيا يكاد يكون مفصليا، «الشعب » رصدت تلك الاعترافات  وعادت لتسردها في اخبار « ناس زمان  في رمضان »

العادة الأولى.. مدفع الإفطار والبواقة..

إن أراد مستفسر عن حال « ناس زمان « في رمضان  أو في غيره ، فإن العم يوسف أوراغي أو حافظ الذكريات والمكتبة البليدية كما يطلق عليه ، هو الملاذ في ذلك والأنيس الذي ترتوي لديه وتقنع في شبع من المعلومات وحكايا أخبار أيام زمان ، وفي هذا الزاوية من ذكريات عادات ناس زمان ، يقول عمي يوسف ، أن الصورة الأولى للعادة التي ما تزال إلا ذكرا من دون حبر ولا قلم ، ولا حتى صورة في متحف الأيام ، هي عادة «مدفع الإفطار » يسترسل بهدوء وتصوير دقيق ، أن ناس البليدة كانوا يفطرون في رمضان على صوت قذيفة مدفع غير حية ، و كان المدفع تجرّه خيول أو حيوانات مقتدرة ، وينقل جرا إلى  المنطقة المعروفة اليوم  بـ « يما مغيثة « بطريقة «الشريعة» اليوم ، وحينما يحل ميعاد الإفطار ، تجد الناس كلهم إنصات وسكون وسكوت ، وفجأة صوت دوي يرفع إلى تلك الآذان ، وهو إعلان موعد إفطار من رمض يوم كامل ، وكان الحال إلى غاية  اندلاع الثورة المظفرة ، أين استبدل المدفع لدواع أمنية بـ « البواقة « ، وهي أداة تستعمل لتطلق صفيرا مع موعد الإفطار ،  وكانت تتموضع فوق مقر البلدية بقلب مدينة الورود ، واستمر الحال إلى سنوات الثمانينيات ، ثم اختفت مع مكبرات الصوت التي أصبحت تركب على صومعات ومآذن الجوامع ، ومنذ ذلك التاريخ لم نعد نسمع لا صوت البواقة ولا دوي المدفع ، ختم عمي يوسف كلامه وهو يتنهد.
العادة الثانية..

 تقليد صيام أول بنت..

 لم يعد غالبية  أهل البليدة أو «الوريدة « ، يولون اعتبارا وقيمة فنية ، فيها من النوستالجية والكاريزماتية ،  لصوم صغيراتهم من البنات لأول مرة في حياتهم ، أين كانت  حلاوة العادة ، تكمن في صعود السُّلم من قبل تلك « الصبية «   ووضع قطعة ذهبية في كأس « الشربات «، يشترط أن يحلى بالسكر وتفطر عليه إيذانا بأن ذلك يوم أول صيامها ، وتقول سعاد الملقبة ببنت السلطان لـ « الشعب « ، وهي تروي عن تلك العادة المنقرضة ، أن  صوم البنات لأول يوم من الشهر الفضيل ، كان يحمل  معنى روحيا مقدسا بين النساء «البليديات» ، كانت تدرب البنت  على تحمل مشّقة الامتناع عن الأكل والشراب لنصف يوم فقط ، ولتحقيق الهدف تقوم الوالدة بالهاء ابنتها في لعبة تربوية تسمى « البويتة « ، وفي اليوم الثاني تسمح الأم لابنتها التي اشترت لها قدرا طينيا بتحضير إفطارها ويعرف بـ « العشيوة « ، تحضر الصغيرة حساء الشربة بمساعدة والدتها  وطبق اللحم الحلو الذي يضاف إليه التفاح أو البرقوق واللوز ، و تكرر على مسامعها بأفضال الصوم والثواب لمن فعل ذلك لتحضريها نفسيا وذهنيا ، وحينما يقترب وقت الأذان  يؤتى بسلم من خشب وتلبس الصغيرة لباسا تقليديا وتطلب منها مشرفتها بأن تصعد درجاته وتجلس على واحدة منها ، وتطيع الصغيرة الصائمة وتصعد ما استطاعت وتحسب كل درجة ارتقتها بيوم صيام  تلزم الفتاة  بصومها ، ثم يؤتى لها بكاس من « الشربات « الذي تحضره الأم بمزج ماء الزهر المقطر والقرفة والسكر ، ويوضع في قلب الكأس خاتم أو قطعة ذهبية « اللويزة « ، ومعاني السلم الارتقاء بإيمان البنت والذهب دليل على نفاسة  الإسلام  والمشروب حلاوة الدين ، وفي السهرة تدعو الوالدة الجيران والأهل وتتصدر الصغيرة مائدة الشاي او القهوة و تزين بحلويات تقليدية مثل  «المحنشة والصامصة  والقطايف « ويسهر الجميع مع «البوقلات» وتربط للصغيرة الحناء وصوت النسوة يردد في تهليل  تقديمة « محمد محمد صلوا يا الأمة عليه  سيدنا وحبيبنا و يربح من صلى عليه « ، وهي العادة التي أصبحت في خزانة الماضي ، أو تستذكر على بلاطوهات التمثيل فقط ، ختمت سعاد وسكتت.

العادة الثالثة.. طرد الجن ليلة القدر..

يعود العم يوسف أوراغي  في هدوء و اتزان قائلا ان سكان البليدة كانوا قديما يقتنون مادة « القطران» كلما حلّت العشر الأواخر من شهر الصيام والقيام ، لاعتقادهم بأن الملائكة وبأمر إلهي تفرج عن الدفعة الأولى من الجن ولكن الصالحون منهم في منتصف شهر رمضان أي « النصفية» ،وفي ليلة الـ 27 من الشهر ذاته أي ليلة القدر الفضيلة يطلق سراح الشياطين بعد ان تمّ تكبيلهم لمدة قاربت إلى الشهر ، وهو ما يجعل هذه الكائنات الشريرة والمؤذية تكون في حالة هيجان جراء أسرها طيلة تلك المدة ، فيخشى أن تقوم بأذية الناس وخاصة الأطفال ، والحل السحري حسب الاعتقاد أن تقوم  الأمهات بوضع مادة القطران في مداخل البيوت وأمام النوافذ وأسفل أقدام  الصغار ، لظنهن  بأن رائحة القطران تطرد تلك الأرواح الشريرة وتبعدها عنهم ، ويضيف عمي  يوسف  بأن هذا الاعتقاد السائد بين أهالي البليدة سببه ان الأطفال تزداد شقاوتهم في سهرات ليالي رمضان ، لذا الأمهات والجدات يخشينّ عليهم أذيتهم من قبل الشياطين المحبوسة.

العادة الرابعة.. الحجّام والختان ودهن البيوت لمقدم ليلة القدر..

ويسترسل راوينا في القول بأن الاحتفال بليلة القدر يتميز بالتحضير لختان الأولاد ،لكن مع « ناس زمان « كان يختلف على ما هو عليه اليوم ، يقوم البليديون منذ عهد سابق بدهن البيوت قبل تلك الليلة المباركة بمادة « الجير» وتعلق ستائر جديدة على النوافذ والأبواب أو ما يطلق عليها محليا « بالشورة» وتدفع زكاة الفطر ويلبس المقبلون على الختان لباس تقليديا في انتظار « الحجّام» ( الشخص الذي يقوم بفعل الختان بطريقة شعبية تقليدية و ليس لدى الطبيب ) ، وعند مقدمه لختن الأولاد يرفع «شرشف» فوقه ويقوم هو بمعزل من النظر عن بقية الأهل والأقارب بعمله بإتقان وتحت زغاريد و تهليلات أهل الطفل  ، فيما ترمى فوق الشرشف الدراهم لتسلية ولفت انتباه الصغير وتعلو زغاريد النسوة كل مرة مع التهليل وترديد مديح « محمد محمد صلوا يالمة عليه سيدنا وحبيبنا ويربح من صلى عليه» ، وتصنع الحلوى من أصناف « المحنشة والقطايف والصامصة والخشخاش والعجين «و في السهرة بعد أن يقصد الرجال المساجد للذكر والعبادة ، تجتمع النسوة من جارات وأقارب حول مائدة مزينة بالحلوى والشاي وأنواع من الورود  كالفل والياسمين والنسري ويرددن ألحانا في مديح الرسول الكريم وقول البوقلات.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024