ثلاثة أجيال اجتمعت في قاعة واحدة، لتستمع إلى صوت واحد، صوت إيدير الذي غاب عن مسارح الوطن وشاشاته لعقود، ولكنه لم يغب عن ضمائر الجزائريين وأسماعهم.. ثلاثة أجيال رأيناها تغني مع إيدير تارة، وترقص على أنغام روائعه تارة أخرى.. ثلاثة أجيال حضرت لتشاهد فنانها المفضّل يذرف الدموع.. دموع شوق وفرح، أسالها اللقاء، وكفكفها التلاقي.. لم يكن مجرّد حفل ينشطه مغنٍ ويحضره جمهور.. لقد كان لقاء مسافر بأهله بعد غياب طويل..
في مثل هذه المناسبات، يكون لدينا الخيار بين أن ننقل الأحداث، ونقدم تغطية كلاسيكية نسرد فيها ما قيل وأُدّي وحصل، وبين أن نحاول نقل العاطفة، والأحاسيس التي امتلأت بها القلوب المجتمعة، وهي الأهم في اعتقادنا في مثل هذه المناسبات.. سنحاول في هذه السانحة أن ننقل الإثنين، الأحداث والعواطف، حتى نؤرّخ لحفل لم يُكتب للجميع حضوره، ولكنه سيبقى في ذاكرة الجميع.
الحفل القصيدة
كانت البداية بدخول مجموعة صوتية من فتيات آث يني، اللائي أدّين بعض الأغاني منها ما هو محلي مثل أغنية إيدير “آمدياز” التي كرّم بها مولود معمري، وأغنية “”آدزي الساعة” (الساعة تدور) لسليمان عازم، ومنها ما هو عالمي مثل إعادة لأغنية الثنائي بول سايمون وآرت غارفنكل، وأغنية “هيل ذو وورلد” لمايكل جاكسون التي تتغنى بالطفولة.
بعد ذلك، كان تقديم الحفل على يد طفل، قرأ قصيدة شعرية بالأمازيغية امتدح فيه الفنان إيدير، ثمّ اعتلت الركح تانينا ابنة الفنان، التي سترافقه في أغلب أغانيه، لينطلق الجزء الأهم من السهرة بدخول إيدير على وقع إيقاع “يلهى فورار”، تحت وابل من التصفيق والهتاف.
توالت الأغاني والأهازيج في 17 محطة: “إسفرا”، “آغريب”، “شفيغ”، “أي أراش أنغ”، “لفهامة”، “تيزي وزو”، “أثيويزيوين” التي أدت تانينا بعدها آشويق أداء منفردا، “آسندو”، “آفافا ينوفا”، “أواه أواه” (محمد نغ ذا فحلي)، “إبوزغر يجا لمثل”، “أيا زواو”، “ثا ماشاهوتس سكورث” (حكاية الحجلة)، وعنوان الأفراح والأعراس “زويت رويت”، واختتم الحفل بأغنية للأمل يرمز لها المولود الجديد، “أيا الخير آينو”. وفي كل محطة من هذه المحطات، كان الجمهور مرافقا للفنان العائد، إما بالأداء معه، أو الزغاريد، أو التفاعل بشتى أنواعه وأنغامه.
لقد بدا حفل إيدير وكأنه قصيدة موسيقية توالت أبياتها في تناغم كبير، وامتزجت فيها العفوية بالتعمّد، وكان التخطيط متقنا إلى درجة اعتقدناه فيها عفوية. وقد كان اختيار الفنان أداء أغلب أغاني الألبومين الأول والثاني، كفيلا بإضافة توابل من الحنين و«النوستالجيا” للحفل.
كلام.. بوزن الشعر
تحدّث إيدير مرات عديدة خلال حفله، أول أمس الخميس، وكان أول ما قاله للجمهور عقب أغنيته الأولى: “لا يمكن أن تتصوروا إحساسي وأنا هنا، أغني أمام جمهوري وأهلي.. نحن هنا للتعريف بتمازيغت ولممارستها ولحد الآن كل شيء على ما يرام والحمد لله”.
ولكن هذه الكلمات المتزنة، “العقلانية”، كانت تخفي إحساسا أكبر وأقوى، لم يملك إيدير أن يخفيه، فذرف عبرات مباشرة مع نهاية أغنيته الثانية.. بكى إيدير تحت وقع الأحاسيس، مع أنه “ليس من النوع الحساس جدا، ولكن..” أو كما قال إيدير..
قد تكون دموع الفرح باللقاء، أو الأسف على السنوات الماضية الضائعة بعيدا عن جمهور وفي لم ينس الفنان، وبقي يردد أغانيه ويحفظها، ويعلمها للصغار والولدان على مدى 39 سنة كاملة.. كما أنها قد تكون دموع الغربة، التي عبّر عنها إيدير في أغنيته الثالثة “آغريب”، وقال عنها إنها “للمهاجرين الذين سافروا بحثا عن لقمة العيش، إلى بلاد لا يعرفون لغتها ولا تقاليدها”، وتصورهم إيدير في غرفة الفندق، بعيدا عن أبنائهم الذين يكبرون دون رؤيتهم، وبعيدا عن زوجات ينتظرن ويأملن في عودة الزوج المهاجر.. “هي كذلك قصتنا”، يقول إيدير.
أهدى إيدير رائعته “آسندو” إلى والدته، وإلى كل امرأة لا تجد من تخاطب وتشكو إليه همها، ووطأة السنين والظروف والمحيط، وأهداها إلى كل الحضور بقوله: “لسنا نساءً أو رجالا، بل الآلاف من القلوب الجالسة الواحد بمحاذاة الآخر”.. أيّ شعر هذا، وأيّ شاعر ذاك؟
في هذا الحفل، استطاع إيدير أن يُخرجنا من روتين المغني الذي يعتلي الركح ويبدأ بالحركة والقفز وترديد الكلمات، والتلويح إلى جمهور من خيال.. إيدير فنان كامل، يتكلم مع جمهوره، يحسن فنّ الدعابة، يُضاحك مُحبيه ويلهو معهم، يجرّب معارفهم وحفظهم لأغانيه، يتفاعل مع ابنته على الركح، ويقول الشعر، ويشرح أفكاره، ويدافع عن مبادئه، ويحكي حبّه لوطنه وأهله.
طاقة إيجابية
لقد رأينا في هذا الحفل أناسا جاؤوا من كلّ مكان لرؤية فنانهم المفضّل رأي العين، ومنهم من لم يسمع عنه إلا في الإعلام، ومنهم من لم يعرفه إلا عبر شرائط الكاسيت القديمة.. وساد الحفل إحساس قوي، وطاقة إيجابية، لا يمكن للصورة والصوت نقلها، فهي طاقة يجب على المرء أن يكون حاضرا ليشعر بها.. إننا نفرح لمسافر عادي حينما يرجع إلى أهله وعائلته سالما معافى، فما بالك بإحساسنا ونحن نرى غائبا لما يقارب أربعة عقود، يعود إلى عائلته الكبيرة وإلى حضنه بلده وشعبه.. هو إحساس ببعد آخر لمفهوم المصالحة التي خبرها الجزائريون، مصالحة مع الثقافة والتاريخ، مصالحة مع الذات.
الصحافة.. غير مرغوب فيها؟
مع أن الحفل كان مناسبة للفرح والابتهاج، أبى البعض إلا أن يجعلوا من الصحافة مهنة تستحق عن جدارة اللقب الذي يُطلق عليها، “مهنة المتاعب”، إذ حينما يُمنع الصحفي من التجوال بحريّة، ليكون عين وأذن من لم يسعفه الحظ بحضور الحفل، وهم مئات الآلاف وأكثر، وحينما يجد الصحفي نفسه في المدرّجات شاهدا على الحدث، ولكن من بعيد، وهو ما حدث مع عدد كبير من الإعلاميين، أول أمس، فإن السؤال يفرض نفسه: هل الإعلام شريك حقيقي في مثل هذه المناسبات، وشاهد على عصره، أم أنه أداة ترويج ليس إلا؟ لحسن الحظ أن هذه التجاوزات لم تعكّر صفو ممثلي الإعلام، ببساطة لأن الحدث كان أهمّ، ولأن إبداع إيدير كان أكبر.