أبـــــــــــدع فـــــــــــــي عــــــــــلاج التعقيـــــــــــدات الاجتماعيـــــــــة بقالـــــــــــب فكاهــــــــي

جعفـــــــر بـــــــك نجـــــــم ينطفـــــــئ

أسامة إفراح

 لم تغـــب ابتسامتـــه عــــن وجـهــــه طيلــــة حياتــــه الفنـيــــة
بعد رقاده الطويل بمستشفى زرالدة بالعاصمة، غادرنا الفنان الرائد والمجاهد الفذّ عبد القادر شروق، الشهير بجعفر بك، ليلتحق بقائمة طويلة من الأسماء اللامعة في سماء الفن الجزائري، التي فقدناها في الفترة الأخيرة.. قائمة ما فتئت تتّسع يوما بعد يوم.. لقد كان جعفر بك مبدعا معطاءً، ومناضلا في معركة التحرير والاستقلال، ثمّ في معركة البناء والتشييد، لم يكلّ ساعده عن العمل، ولم تغب ابتسامته عن وجهه، فكان نعم القدوة أبا ومربيا ومبدعا.

في هذه السانحة، نعرّج على جزءٍ من حياة الفقيد المليئة بالنضال والتضحيات، خصال لن نفيها ما تستحق، ولن يمكن اختصارها في بضع كلمات، لذا فإنّ ما يحمله هذا المقال ليس سوى غيض من فيض كفاح الرجل وتفانيه.
ولد عبد القادر شروق الشهير بجعفر بك في 27 أكتوبر 1928 بالقصبة.. كان يقطن في “دويرة” تابعة لفنانة مريم فكاي، حيث كان يتردد العديد من الفنانين الجزائريين، على رأسهم الفنان رشيد القسنطيني الذي تأثر به كثيرا.
عمل جعفر بك بالميناء الذي كان يصفه بـ«معقل العنصريين”، وانخرط في صفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية وهناك تشبّع بالوطنية و«الابتسامة أمام الصعاب”.. شارك في مظاهرات الفاتح ماي 1945 في العاصمة، التي كان من تبعاتها مجازر الثامن ماي من نفس السنة. انضم إلى الفرقة الصبيانية الإذاعية التي كانت تحت إشراف رضا فلكي وتذاع ظهيرة كل خميس، وكانت بمثابة التحدّي وفرض الذات الجزائرية، كما شارك في حفلات “الميوزيك هال” وعدد من الحصص الإذاعية.. التحق بجبهة التحرير الوطني حيث عمل كممرض، بعد تكوين دام أربعة أشهر بتونس، قبل أن ينضمّ إلى الفرقة الفنية للجبهة بقيادة مصطفى كاتب، والتي حملت لواء ثورة التحرير وصوت القضية الجزائرية إلى مختلف أصقاع العالم.
شارك جعفر بك في المسرحيات التي عرضت حينذاك على غرار “أبناء القصبة” و«الخالدون”.. وقد كان للتمثيليات والمسرحيات التي أدتها الفرقة الأثر الكبير على نفوس الشعوب المساندة للثورة الجزائرية. وإلى جانب التمثيل، اشتهر جعفر بك وامتاز بأغانيه الفكاهية الهادفة، منها أغنية كانت بمثابة الرد على ما عُرف بـ«سلم الشجعان” الذي أطلقه الجنرال ديغول حينذاك.. وقد حدث أن سأل إيطاليون أحد زعماء الثورة الجزائرية في تونس عن رأيه في مقترح ديغول ذاك، وكن ردّه بأن دعاهم إلى الاستماع “لأغنية مطربنا الوطني وستعرفون الإجابة”. ويتعلق الأمر بأغنية جعفر بك التي تقول كلماتها:
هيا يا ديغول بركى ما تنبح
شي معقول ما نحطش السلاح
الحرب يطول هذا وين يقوى الكفاح
كما رأى جعفر بك في موسيقى الـ«روك اند رول”، أو بالأحرى الـ«رووك أند روول” بلكنة جزائرية كما يقول هو، رمزية إلى أمريكا، وحاملا لرسالة سياسية، بدليل هذه الكلمات:
يا جلول بن علال كان عايش في لامان
عند كبر وبداه لهبال ع الروك ضربو جان
ورأى الراحل جعفر بك بأن الفكاهيين الجزائريين أدّوا إبّان الاستعمار دورا كبيرا وحيويا، حيث كانت الحفلات التي تقام كلّ سبت متنفسا للجزائري الذي يعاني الضغط اليومي، وكانت ولو بضع دقائق من الضحك مناسبة لينسى هذا الشعب المضطهد بعض همومه.
كما كان المجاهد الفنان عبد القادر شروق من بين من وضعوا اللبنة الأولى في تاريخ مؤسسة التلفزيون الوطني كاملة السيادة، ويذكر الراحل جعفر بك أنه قرأ جملة مكتوبة بالطباشير تعيّر الجزائريين بالجهل وتقول: “أيها الأنديجان حاولوا الآن تشغيل التلفزيون”، وكان ردّ جعفر بك ورفقائه بالعمل المتواصل.
كان الفقيد حينها مخرجا إذاعيا، كما أطلق أول حصة منوعات تحت عنوان “بشاشة” وحاز بها على جائزة المفتاح الذهبي في مهرجان المنوعات ببراغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا حينذاك. كما في رصيد الفقيد أعمال تلفزيونية أخرى مثل حصة “منكم وإليكم”، إضافة إلى السكاتشات والتمثيليات الفكاهية التي تعالج مختلف المواضيع الاجتماعية في قالب ساخر.
إن الحبّ الذي كان جعفر بك يحظى به، تجسّد أكثر في آخر أيامه، حينما تردد عليه المواطنون من مختلف المناطق، كما عاده جمع من الفنانين بمرقده في المستشفى، وقد توازت هذه الزيارة بتحرك رسمي، تجسّد في عيادة وزير الثقافة عز الدين ميهوبي، وكذا عناصر من الأمن الوطني، للفقيد أيام مرضه.
تغمّد الله الفقيد برحمته الواسعة، وأسكنه فسيح جنّاته.. ورزق الثقافة الجزائرية من أمثاله، وإن صعُب أن يتكرر أمثال جعفر بك ورفاقه، بنضالهم ووطنيتهم ورباطة جأشهم.. لقد كانت وصية جعفر بك لنا: “قابلوا الصعاب بالتبسّم، فأحسن رداء يلبسه المرء هو الابتسامة”، كما كانت وصيته لشباب الجزائر: “إياكم من التقليد الأعمى، فنحن لنا عاداتنا وتقاليدنا، وحتى من سبقنا في الفن حينما يمثلون شكسبير أو موليير يعمدون إلى اقتباسها بمفهومنا حفاظا على تقاليدنا”.. ثم يضيف: “لقد تعبنا كثيرا.. لم يأت الاستقلال إلّا بعد تعب كبير، ومعاناة وتشرّد بسبب الاستعمار.. لذلك حافِظوا على أثمن كنز تركه لكم آباؤكم، ألا وهو الاستقلال”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19526

العدد 19526

الأربعاء 24 جويلية 2024
العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024