مؤلفاته عن اسلام التنوير غيّرت الفكر المتطرّف الغربي
« قبل أن أتعرف إليه شخصيا كنت مستمعا وفيا لتحاليله عن قضايا الساعة عبر الفضائيات التلفزية والاذاعية، صادف أن قرأت له مقالا أو حوارا بجريدة لوبوان الفرنسية و بعدها بأيام قلائل رأيت ملامح شخص يحادث آخر على قارعة الطريق فشككت أنه هو، تقدمت خطوة و بادرت بالسؤال ألست مالك شبل، أجاب بلى، استبشرت لصحة حدسي و تناولنا أطراف الحديث، هذا الحديث الذي سيمتد طيلة العقدين من الزمن في أقل تقدير”. إنها شهادات الاستاذ أحسن مانع لـ “الشعب” عن الفقيد المفكر مالك شبل الذي أعطى صورة حقيقية عن الاسلام دين التعايش والسلام غير الذي يروج بالغرب ويلصق به تهم التطرف والعنف.
أضاف مانع في التوقف عن مسار الراحل مشيدا بخصاله “أخذ مالك عهدا على نفسه زيارة الجزائر ولو مرة كل سنة تكون في الغالب صيفا للاستجمام و النبش عن ذكريات الصبا مع الأصدقاء الذين يلتفون أحيانا حوله في المقهى المقابل لنزل المدينة بسكيكدة في جمع غفير، كان الحديث في مختلف قضايا الحياة من الطبخ حتى السياسة، و مما لمست فيه محبته لكل الأطباق و الفواكه المحلية و بشكل خاص الموسمية، و نظرا لحضوره في الغالب صيفا تراه يسأل عن التين و التين البري، أحب الفطائر التونسية و تدمر ذات يوم لغياب من يصنعها في كامل المدينة”.
أردف احسن مانع انه “من أكثر المواقف التي حدثني بها أثر في نفسي، قصة عودته في الثمانينيات للجزائر للتدريس في جامعة قسنطينة، و بالتحديد عند مرحلة قطف ثمرة التكوين أي مناقشة مذكرات التخرج، المذكرة المقرر مناقشتها لا تفي بالغرض فيما رأى فقرر رفضها. تحركت آلة البيروقراطية ووصل الأمر لمدير الجامعة الذي أمر بتعيين لجنة أخرى ليسير كل شيء على ما يرام، لم يدم عمل شبل بالجامعة أكثر من ستة اشهر فربط المتاع و توجه صوب باريس، أين ناقش رسالة في العلوم السياسية تضاف إلى أطروحته في الاختصاص القاعدي، علم النفس العيادي، و أخرى في الأنتروبولوجيا . في نظري تشكل حادثة المذكرة منعطفا في حياة مالك شبل فوت على الجزائر مشروعا تنويريا بحجم مشروع مالك بن نبي.”
شباب يحمل خصوصية
كشف الاستاذ لـ«الشعب” ان الأصدقاء أسروا له” أنه شغف في شبابه بلعب كرة المضرب و ركوب الدراجة و التمتع بزرقة مياه شاطئ المحجرة، و ذكر لي هو بعض مغامراته بثانوية العربي التبسي بسكيكدة و بالمخيمات الصيفية التي لم يكن يفوتها”، وأضاف “ كما أسر لي أن جنرالا في فترة التسعينيات اقترح عليه الوزارة، و لم أفهم منه سبب رفضه، كما حدثني عن طلب رئاسة الجمهورية منه كتابة الخطاب الخاص بالكلمة التي يلقيها الرئيس أمام الجمعية العامة الفرنسية أثناء زيارته الرسمية، و أوضح أن الرئيس يختار من بين عدة نصوص ما يروق له.
يوضح مانع احسن، “ان مالك يصر على مشروع التنوير، و رغم أنه موسوعي في أنتروبولوجيا الحب، إلا أن الحوار معه في الغالب ذي علاقة بما حاد بالأمة عن العقلانية و القيم الإنسانية، و قيم التقدم، و في نظره يتراوح وضعنا بين دولة المخيال الديني و الدولة الأمة، وذات مساء طرقنا مشكلة الخمار في فرنسا، يوم أثيرت المشكلة لأول مرة، وهو يصرح بأن ليس هناك في القرآن ما يبين كيف يكون شكل الحجاب، فالآيات الثلات الموجودة لا تصف بما يفصل القول.
بحكم رؤية المفكر المتميزة فقد أصبح ضيفا مألوفا على الفضائيات الفرنسية، و كذا المجلات التي تطلب منه مقالات تعكس رؤية مشبعة بالتحليل الثقافي الذي يحكم الظاهرة، و قد امتد نشاطه أثناء حرب الخليج في ذات السياق بحكم معرفته لقاموس السياسة.
أثناء زيارة الرئيس الفرنسي سنة 2009 يقول- مانع احسن- ان مالك كان من بين أعضاء الوفد المرافق و جلس في الصف الأمامي بالمدرج الرئيسي بالجامعة التي درس بها مستمعا لكلمة ساركوزي، هذا الحدث يوقظ في ذاكرتي حدثا آخر يعكس حجم المشروع الذي حمله مالك شبل، فذات أمسية أخرى كنا حول كأس الشاي، رن هاتفه، تحدث لحظة باللغة الفرنسية ثم توقف ليخبرنا أن المكلفة بالاتصال في مكتب الوزير الأول الإيطالي رومانو برودي تعلمه بأن برودي يود مكالمته. و علق قائلا لست أدري بأي لغة سيحدثني فإن كانت الإيطالية فسأتعبه، آمل أن تكون الفرنسية أو الإنجليزية.”
حوار مع الوزير الأول الايطالي برودي
رجع لهاتفه فإذا ببرودي يتحدث عن مشروع الثقافات المتوسطية بلغة فرنسية طليقة، وظهرت من نبرات الكلمات التي تصدر من مالك و من ملامح وجهه رضا الطرفين على خطة طريق.
يضيف الاستاذ “من الكتب التي نشرها “ترجمة لمعاني القرآن” في جزأين و من مجهوداته التي تصّب في الهدف نفسه مشروعه فتح متحف بباريس للقرآن الكريم يضم كل ما له علاقة بالمصحف من عُدة وعتاد، وكان من بين ما أحضرت له مصحفا كتب باللغتين العربية والتركية، و يرسخ اليوم بذاكرتي أيضا قراره رفض دعوات الفضائيات للتعليق على رسومات الجريدة الدانماركية المسيئة لمحمد ( ص)، و من بين تحاليله التي تكشف عمق نظرته تلك المتعلقة بربط الإسلام بالإرهاب، إذ في رأيه أن الغرب يسلط الضوء على اسلام حركات عدد أفرادها في حدود عشرات الآلاف مثل التنظيم الارهابي القاعدة و الطوائف المتشددة و ينأى عن رؤية ماذا يفعل بقية المليار مسلم.”
ختم الاستاذ شهادته عن المفكر
المبدع مالك شبل: “لن أنسى أبدا سؤال الفقيد مالك عن عنوان منزلي و احضاره بنفسه كتابا من كتبه القيمة هدية لي . وهو واحد من مشروع مالك شبل أحد أعمدة الفكر الاسلامي في عصرنا.
رحل المفكر وترك لنا مكتبة ينهل منها كل باحث شغوف لمعرفة الاسلام دين التسامح والتعايش والجدل وبالتي هي أحسن بعيدا عن اقصاء الآخر ونشر ثقافة الغلو والتطرف.
من تصريحاتهم: سجلها العيفة
عزيز شبل (من عائلة الفقيد): ” عرف بالنبوغ والتفوّق في الدراسة”
صرّح شبل عزيز أحد أفراد عائلة مالك الكبيرة بسكيكدة لجريدة “الشعب” ،«ان المرحوم ابن بلحسين شهيد الثورة التحريرية، عاش طفولة مكسورة الجناح، مع أمه زهرة وجدته وهي الزوجة الأولى بين عدة زوجات لجده، حفظ فيها القرآن صغيرا عن ظهر قلب، وبعد الاستقلال، صدرت قرارات تأميم الممتلكات والأراضي الزراعية، فضاقت المعيشة على جده، الذي كانت له عائلة كبيرة، وما كان منه إلا أن بدأ بالتخلي عن بعض أفراد أسرته، فقطع صلته بحفيديه مالك وشقيقه الطيب اليتيمين، إذ ليس من معيل لهما، فوضعهما في دار الأيتام، ذاق مرارة اليتم وضيق الحياة “.
اضاف عزيز “كانت طفولة مالك بعيدا عن عائلته وهو ابن تسع سنوات، وقد تفوّق مالك أثناءها في مدرسة ملاصقة للميتم سجّل فيها، حيث التقى معلمين فرنسيين مكثوا في الجزائر بعد الاستقلال، اهتموا به اهتماما خاصا لما لمسوا فيه الذكاء والنبوغ، ليحصل مالك على منحة دراسية في قسم علم النفس في جامعة قسنطينة وتخرج منها سنة 1977 ليهاجر الى فرنسا طلبا للعلم ، وتحصل خلال مسيرته العلمية على 05 درجات في الدكتوراه”.
هناك، وخلال سنة 1980 التحق بجامعة “باريس 7” ليحصل على درجة الدكتوراه في التحليل النفسي العيادي، ثم ألحقها بثلاث درجات أخرى في الأنثروبولوجيا والاثيولوجيا وعلوم الدين من جامعة Jussieu سنة 1982، ليزيد عليها درجة أخرى في العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس، ثم يصدر في العام نفسه أول كتبه “الجسد في الإسلام” الذي أعيد إصداره منذ ذلك الوقت، في ثلاثة طبعات، بعد سنوات التحصيل العلمي الباريسية هذه، عاد مالك إلى الجزائر أستاذا في علم النفس في جامعة قسنطينة، إلا أن مكوثه لم يطل.
صلجة شعبان (زميل المرحوم بجامعة قسنطينة):
«الفقيد دائم الابتسامة عاش حياة بسيطة دون تكلف”
صلجة شعبان، رئيس جمعية حماية المستهلك بسكيكدة، صديق مقرب من المرحوم وزميله أيام الدراسة بجامعة قسنطينة، وتعود أيام صداقته مع الفقيد الى سنة 1974 بجامعة قسنطينة، أين احتضنه مالك شبل، ووفر له المبيت بغرفته بالحي الجامعي، لأن في تلك الفترة يقول صلجة كانت أزمة في الايواء بجامعة قسنطينة، ولأن المرحوم يسبقني بسنة دراسية، له غرفة بالحي الجامعي، فوفر لي المبيت بإحضار بطانية فقط والسكن معه بالغرفة “كلونديستان” ومن هذه الفترة تكونت صداقة بيننا وبين الزملاء الاخرين كبن ضيف علاوة، وبومود مسعود.
عن مسيرته الدراسية، يقول زميل شبل انه كان دائم الابتسامة والمرح، وظهرت عليه علامات النبوغ في تخصّصه علم النفس، ودائما يحاول تطبيق معارفه العلمية المكتسبة بأرض الواقع، كما انه كان يطلب مني حضور الملتقيات التي يكون طرفا في تنظيمها، لأني كنت شديد النقد، وهو يرى ذلك أمر إيجابي في تلك التظاهرات.
كما أوضح صلجة ان مالك شبل ظهرت عليه علامات النبوغ، فقد كانت له ثروة لغوية كبيرة خلال الدراسة بالجامعة بقسنطينة، وهذا قبل مواصلة دراسته بالخارج، وبعد الهجرة الى خارج الوطن من أجل استكمال مسيرته الدراسية والعلمية.
واصل شعبان، كان الفقيد شديد الارتباط بمسقط رأسه، فهو دائم الحضور رفقة عائلته الصغيرة، كلما أتيحت له الفرصة خصوصا عند موسم الصيف، فهو يعيش حياته بشكل بسيط، وبعفوية دون تكليف، وكان يحدثني عن الحصص والمحاضرات التي ينشطها بمختلف الدول.