قراءة في كتاب “القايد والقذاف ورفاقهما في الكفاح 1954 - 1962” لمحمد صالح بجاوي

بين هيمنـــــة الرؤيـــــــة الأكاديميـــــة والســــرد التاريخــــــي

جمال أوكيلي

التوثيــــــــــق لشخصيــــــــــات ومعــــــــــالم منطقـــــــــــــة الأخضريــــــــــــــة
يُصنف كتاب”القايد والقذاف” لمحمد صالح بجاوي ضمن المسار القائم على التأريخ لثلاثية الزمن، المكان والإنسان العنصر المحرك لكل هذه  «الدواليب” أي “الشخص الفاعل الصانع للحدث في كل الفترات المذكورة، الزمن: المقاومة الشعبية الممتدة إلى غاية الثورة التحريرية المكان من: باليسترو إلى بوكرام قلعة الصمود والتصدي”، الإنسان استنادا إلى عنوان الكتاب القايد محمد الشهيد الأسطورة ورفقاؤه.
هذه “الثلاثية” لانجدها فارضة نفسها في المنهجية المتبعة ففي كل مرة يعود السرد المبني على الوقائع في سياق معين، غير مرتبط بالفكرة الثابتة المراد أن تكون محورا، هذا “التوثيق” لمنطقة ثورية منذ قتل أول رئيس بلدية باليسترو أندري باسيتي دومنيك على أيدي أتباع المقراني يومي ٢٠ / ٢١  أفريل ١٨٧١ إلى غاية اندلاع ثورة نوفمبر المجيدة.
ويترجم هذا التريتب بين ما هو “مقاومتي” و«تحرري” إلى اعتماد السيد محمد الصالح بجاوي على الرؤية الأكاديمية في المعالجة وهذا عندما اهتدى إلى مفهوم البحث وتقسيم هذا العمل إلى فصول، هذا الإطار هو الذي حتّم تقديم معلومات غزيرة من مصادر ما يعرف بمن عاشوا وعايشوا هذه الحركة الثورية.
والبحث الأكاديمي ليس الرواية التاريخية هناك فرق شاسع بين التوجهين الأول يندرج ضمن نظرة صارمة في قالب رسائل جامعية يوضع صاحبها تحت المجهر ولا تودع في رفوق المكتبات إلا عندما يعاد تصحيح المعلومات الواردة فيها، من كل النواحي لتكون مرجعا علميا بامتياز في حين أن الرواية التاريخية غير مضبوطة بآليات قاسية لايسمح الخروج عنها بل هي فضاء تعبيري واسع غير حامل لإشارات التوقف بإمكان صاحبها الغوص في تقنياتها المعروفة من العقدة إلى النهاية المفتوحة مستعرضا لطرح هرمي زيادة على أخذ القارئ من أذانه من السطر الأول والتجول به إلى غاية الخاتمة.
وخلافا لهذين الصيغتين فإن ما هو معمول به حاليا هو “المذكرات” التاريخية التي حلت محل الكتب الكلاسيكية بعد أن فضلها الكثير من المجاهدين منها  أجزاء “معركة الجزائر” لياسف سعدي، وأخرى لعز الدين وغيره ومكتباتنا لاتخلو منها .. وكم هي كثيرة؟ يصعب تعدادها ومحتواها لا يلقى الاجماع أبدا كون الحدث لم يذكر بتفاصيله في تلك الظروف الصعبة أو كان نتيجة شهادات شفاهية غير مؤكدة عندما كتب أحمد توفيق المدني “حياة كفاح” وهي تجربة فريدة في تلك الفترة من حوليات تدوين تاريخ الثورة وجد أراء أخرى عن تلك التي ذكرها خلال مناقشة ما قاله بالمركز الثقافي الإسلامي بالعاصمة على لسان مولود قاسم، أحمد حماني، إلى جانب حضور المعني .. وبالرغم من الموقف الحرج الذي وضع فيه توفيق المدني إلا أن تلك “المرافعة” أبانت عن معلومات ناقصة زيادة على صفة “الزعامة” الواردة في الكتاب.
ذكرنا هذه العينة لنشير صراحة إلى أن الخيار المفضل لأي سرد تاريخي هو” المذكرات” لأنه التزام مباشر على أن صاحبها ينقل بأمانة ما حدث دون أي تدخل يذكر ولم يضف أي عناصر أخرى ماعدا ما وقف عليه.. وهنا يطرح إشكال عويص من يكتب التاريخ وفي أي قالب”تحريري”؟  هل هو الأستاذ الجامعي الأكاديمي أم المجاهد أو غير هذين الإثنين؟ لابد من القول أن جل المذكرات الصادرة دونها صحافيون خاصة تلك باللغة الفرنسية وترجمها كتاب وإعلاميون وهذه الوثائق معروفة لدى العام والخاص.

خيط المنهجية وترتيب المعلومات

الكتاب في ٣٥٦ صفحة طبع في سنة ٢٠٠٩ أي حوالي ٧ سنوات كاملة أراده أن يكون محمد الصالح بجاوي خزانا من المعلومات مفتوحة لك من يريد الاغتراف من هذا المنهل تارة بالحديث عن الفرد وتارة أخرى عن الجماعة الصانعة للواقع سواء أكانوا أناسا ثوريين أو أئمة زوايا أو مواطنين عاديين أو من عالم الفن..
لذلك فإن خيط المنهجية ينقطع أحيانا وهذا ما يلاحظ في الصفحة ٢٤حول ما عنون باسم “الاقتراع” حوالي١٢ صفحة بخصوص ما نعته باليوم المشهود الخميس ٢٩ نوفمبر ٢٠٠٧، أي إلى غاية صفحة ٣٥ ومن عنوان رئيس بلدية بوكرام صفحة ٣٦ إلى غاية صفحة ٤٥ هناك ١٠ صفحات وخصص حوالي ٤ صفحات من صفحة ٤٥ إلى صفحة ٣٩ الحاج ومنحة ألفي دينار جاءت كلها فيما يسمى بالمدخل المعنون “منطقة باليسترو عبر التاريخ” ثم يذكر ثانية في الفصل الأول باسم “مسيرة قايد بوكرام في النضال” مع عنوان فرعي له “رئيس بلدية بوكرام السابق” كان بالإمكان دمج كل هذا التعريف في مجال واحد.
وبإلقاء إطلالة أولية على الفصول الأخرى إلى غاية الفصل الرابع فإن الكاتب اعتبر أن ما شهدته المنطقة لا يمكن تجزئته ما دام يروي نضال السكان في أحلك الظروف وكل هؤلاء الفاعلين يصنفون في خانة الصامدين في وجه الاحتلال مهما كان الأشخاص والمؤسسات لذلك فإن الترتيب القائم على التسلسل في نسف الأحداث له ما يبرره عندما يقحم محور معين ضمن مجموعة من المحاور لكنه يبدو فيما بعد أنه مكمّل له في نهاية المطاف ويتضح ذلك في”المعالم الدينية والثقافية في منطقة باليسترو” والملاقح وفي الصفحة٣٤١ في النقطة الـ٤ حول مجارو ٨ ماي ١٩٤٥ نعقتد هنا بأن الامتداد النضالي هو الذي فرض نفسه في التذكير برموز هذه الجهة الثائرة ضد الاستعمار منذ أن وطأت أقدامه أرض الجزائر الطاهرة.
في الصفحة الـ ٧ هناك “تصدير” وهو ما يعرف بكلمة يحررها الشخص الذي يختاره الكاتب مبديا فيه رأيه في محتوى الكتاب هذا ما هو معمول به في كل المراجع ذات الطابع التاريخي في هذه الوثيقة دونها المجاهد يحي قايد المعني المباشر بالأحداث فيما بعد.
لم يتوان هذا الأخير في إثارة “مصطلحات” الرواية التاريخية والبحث، شخصيات الرواية، أبطال الرواية، قصة جميلة، هذا الخطاب نفسه نجده في المقدمة الذي قال فيها محمد الصالح بجاوي بأنه منذ الوهلة الأولى وهو يبحث عن “الأسلوب” المتبع، محددا إياه فيما بعد على أنه يجمع بين التاريخ والرواية المعتمدة على الوثائق ومصادر من شهادات الرجال الأحياء..
هذا الطريق عبّده الكاتب لنفسه، منذ شروعه في وضع اللبنات الأولى إيذانا بعمل أكاديمي فريد حول باليسترو وهذا بالانتقال من محطة لأخرى.

عائلة ثورية..

مهما كان التأثير الذي مارسه عبد القادر الكبري على قايد محمد إلا أن هذا الأخير حسم في مسيرته الوطنية بشكل قاطع، واختار الثورة مستبدلا “ البرنوس” باللباس الثوري الذي كان مغرما بارتدائه وهو الذي كان يخرج للصيد حاملا بندقيته التي رفض الشهيد محمد التخلي عنها عندما اقترح عليه سلاح رشاش واصفا إياها “بالعزيزة عليه”.
هذا الموقف الوطني الفائق، نضج مع الوقت وأصبح قايد محمد شغله الشاغل كيفية الانضمام إلى الثورة المباركة وكان له ما أراد عندما تأكد للجميع بأنه رجل شهم قادر على صناعة الفارق بين أترابه، وهذا وفق منطق الهدوء والعبقرية القادرة على دحض تلك المقابلة لها أي الفرنسية المدعية بأنها تتحكم في أحوال الناس، لايتحركون إلا بعلمها.
هكذا أوقعها قايد محمد في مأزق هز أركان الحاكم في باليسترو..  الذي كان يبحث عنه حيا أو ميتا مخصصا لكل من يأتي به قيمة مالية مغرية بين٢٠٠ و٤٠٠ الف فرنك فرنسي، لعرض جثته كعبرة لمن يتطاول على كلمة فرنسا لم يحصل هذا المجرم على ما كان يأمله وكل ما في الأمر أنه سمع بأن الرجل استشهد في غابة تقادرت إثر تقديرات لم تكن في الحسبان عندما خرج ليطلع على وضع ميداني بعد معركة حامية الوطيس.
في خضم هذه التطورات فإن عائلة قايد محمد عانت الويلات إثر صعوده إلى الجبل فقد توفي الابن الطيب والأخت فطيمة بعد مرض ألزمهما الفراش لمدة طويلة وبالرغم من هذا المصاب الجلل فإن الروح الثورية المتأججة في وجدان قايد محمد جعلته يتجاوز هذه المحن لتتغير حياته جذريا باتجاه مسيرة تحرير الوطن من استعمار استيطاني وحشي.
ناهيك ما تعرضت له الأم الحنون خديجة طيب الله ثراها وما تميزت به من بداهة نادرة في إيجاد الإجابات الفورية أثناء وقوفها رفقة أخ زوجها عندما يسمى “بالأدمنيستراتور” ونسجها لسيناريو متكامل إنطلى على هذا الأخير موجها إياه وجهة خاطئة سمحت لزوجها بالتواري عن الأنظار في زمن قياسي.. وكذلك التحاق الإبن يحي بالثورة هنا يكمن جوهر محتوي الكتاب وبناؤه يستدعي احتضان هذه الفكرة الأساسية، مفتاح هذه الحالة النفسية القوية في لحظاتها التاريخية، لتتفرع إلى قضايا أخرى ذات الصلة الوثيقة بالمنطلق العام.
لذلك فإن اختيار عنوان الكتاب “القايد والقذاف” أقصى الفكرة العميقة في سيرورة الأحداث وعندما فصلنا الجزء عن الكل هذا ليس انتقاضا” من “ القذاف” الذي وهب حياته للثورة وما وجهه لعساكر الاحتلال من ضربات بواسطة القنابل على مسافة تصل إلى ١٠٠ متر أدهشت قادة الجيش الفرنسي في جبال باليسترو.
وعليه فإن الحديث عن “القايد والقداف” ورفاقهما في العنوان أخلط الفهم عن القارئ هل يقصد به القايد الأب أو الإبن هذا غير محدد بدقة ومن جهة ثانية فإن الفترة المحددة للنضال من ١٩٥٤ إلى ١٩٦٢ تجاوزته الأحداث المراد التركيز عليها والتي فرضت نفسها بحكم عدم القدرة على القفز عليها أو تجاهلها لأسباب علمية بحتة لذلك فإن الكاتب عاد بنا إلى١٨٦٩ ثم ١٨٧١ إلى ٢٠٠٧ وغيرها من السنوات التي أتت في سياقات مختلفة.
هذه العينات ذكرناها من باب الحرص على التفريق بين العنوان الحامل لأبعاد البحث الأكاديمي والرواية التاريخية لأن الباحث همه المعلومة في المرجع أما القارئ للأصناف الأخرى فانشغاله التمتع بعنصر التشويق فيما كتب.
وإنما كان الاجتهاد مطلوبا في العنوان ليكون جامعا مانعا يضاف إلى ذلك الصور التي نسب البعض منها إلى” ڤوڤل” وهذا لم نراها في أبجديات الأرشيف عند أخذ أي معلومة منه..ليس بالضرورة ذكر المصدر في هذه الحالة.
وبالرغم من هذا وذاك فإن كتاب “القايد والقذاف” يعد عملا توثيقيا لمنطقة باليسترو لم نقف عليه في مراجعنا التاريخية كونه كشف لنا عن شخصيات ثورية ودينية وثقافية عملت في صمت بعيدا عن الأضواء لكنها تركت بصماتها في هذه الجهة من الوطن عندما أعدت جيلا من الشباب متشبعا بقيم الوطنية في أعلى مستواها هذه هي رسالة محمد الصالح بجاوي وكل من ساعده على ذلك.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19526

العدد 19526

الأربعاء 24 جويلية 2024
العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024