كثيرة هي الأصوات التي تحترف السرد، وتتعاطاه في مواجهة المد الشعري، الذي يطغى على المشهد الأدبي والإبداعي الجزائري، فبين التوجه الجديد نحو الرواية وما تحمله من اتساع في حيز الحكي، وصنع المشهد، والمقدرة على الغوص بالتفاصيل، وبين القصة القصيرة وما تحمله من تكثيف للحدث، وفرجة وجدانية، وتعاط جميل مع المفردات والتشكيلات اللغوية.
القاصة خالدة بورجي صوت جميل، متمكن ويملك المقدرة اللازمة لتطويع اللغة، وعلى اصطياد الفكرة الجيدة، الموغلة في إنسانيتها، وعلى تلبيسها أحلى الأثواب، واخراجها للقاريء في أجمل حلة تليق بها، القاصة خالدة بورجي ومن خلال مجموعتها التي بين أيدينا «أب المحبة كلها» تعطينا فرصة مناسبة كي ندخل عوالمها، ونقرأ إنسانيتها العميقة ونفهم كيف يمكن للسرد أن يملأ فراغات الروح، ويؤثث كيانا من حروف، ومدنا من بوح جميل ينير لنا ارواحنا المعتمة في زواياها البعيدة، المجموعة في حجمها المتوسط، وبصفحاتها التي تجاوزت التسعين بقليل، لم تحمل أكثر من عشر قصص، تراوحت في مواضيعها بين الهموم الاجتماعية،قراءة أحداث التسعينات الأليمة، تحسس الجرح العربي العتيق، والواقع العربي من خلال مايعيشه العراق كصورة للواقع العربي المهزوم، المهزوز، الخانع، والمستسلم لتجاذبات السياسات الدولية.
القاصة خالدة بورجي وهي تعبر بنا ذاكرتها الحبلى بالصور الحزينة، والثرية بلغة مكتنزة، عامرة بالبهاء، وكلما توقعت أين ستقودك خطاها الا وغيرت وجهتها، وراحت تقودنا في سبل الحكي الجميل، رغم التعب، الجراح، والخيبات الكثيرة، وتصنع عالما من القص الحلو الذي يشد القاريء إليه برشاقة، ولا يترك له فرصة السهو أو السأم، وتتجلى مقدرة القاصة خالدة بورجي من خلال انتقاء عناوين القصص، فبعضها جاء مباشرا، عاريا «من مفكرة يوم عراقي» «لوحة بزمنين» «أب من الناصرة» والذي حملت المجموعة القصصية عنوانها، بينما جاءت عناوين النصوص الأخرى في نوع من المخاتلة المقصودة «زمن للموت.. وآخر للندم» «لم يشبه الآخرين» «هي.. هو»
في النهاية يمكننا القول أن الإطلاع على التجربة الإبداعية للقاصة خالدة بورجي كانت فرصة جيدة لإكتشاف صوت سردي نسوي آخر، وثراء إنساني عميق، وخوض جريء في مواضيع لها علاقة بحياتنا اليومية، الملامسة الهادئة لمشاكلنا الاجتماعية، والخوض فيها بصبر وجمال، وتقصي دقيق للعبارة المناسبة، والمفردة المعبرة...هي إذن دعوة لقراءة هذه التجربة القصصية التي أتنبأ لها بالمزيد من النضج والوعي الذي سينتج لنا الأجود، الأجمل والأفضل قريبا.