إنه الوهم من يكتبنا بتبجح، لنعيش بفوبيا القمم العالية، بفوبيا الموتى الذين يحلمون بالعودة إلى الأماكن التي بدى فيها الحب أكثر سمرة من ذي قبل، كما حدث للغة الآن، وهي تتنحنح بهذا الارتباك لتهرب مني أكثر من نافذة الخسارات المفقودة، إننا نحلم بكتابة وطن لا يرغمنا على الحلم، ومن بين بنوده العشر لمبدأ الشرعية:
- الحلم ممنوع، فالعالم كله يجتمع في مدينة صغيرة تشبه حبة الزيتون.
لذا انصرفنا لكتابة ما لم نشته تذوقه، وتهنا في تقبل الظلام أكثر من تعاطفنا مع الشمعدان الذي تعرق شمعاً مذاباً بالخوف، نكتب قصص الحب ونختبئ ظنناً منا أن الوطن العربي يمنع هكذا تجاوزات أخلاقية، نكتب بشراهة لنصمت لسنين طوال من الأكاذيب المنفقة، نكتب حتى لا نضع القلم، فيخسر حروبه الطاحنة ضد الوقت والتاريخ، نكتب لنجمع شتات الأمة في جملة أو عبارة مقتضبة، نكتب لنتنشق عطر البحر المالح، لنطهر الورق من عرق الصيف بملوحته، نكتب لنواكب سرب الحمام الذي يهاجر لموطن النسيان، كما هجرنا ذات مساء مخضب بالشجن عروبتنا، حينما انصرفنا عن تلك المجالس العالمية بلهفة الغروب.
فهل ما كتبناه مجزرة من الكلمات التي تبدأ من نفس السطر الذي انتهت منه؟
إننا جاهزون لقول: “الهزائم وحدها ملجأنا المنصرم بالموت” كما تناهى لنا ديك القرية المنسية لصلاة الفجر، فأبينا الصلاة لأننا نكتب كما نصلي، نكتب كما نرفع دعاء هذه الأمة لرفع الكرب عنها، ربما الفجر أضحى يرغمنا على هذه العادة المتقبلة لنخلد ما طاب لنا من لذة العيش الفار من عرين الأسد الذي وعدنا يوما بالحماية، فقدمنا إلى حتفنا!
هي اللّغة إذن تحمّلنا هذا العبء من الكلمات، تحمّلنا وزر النجاحات كأنما هي خيانات شعبية ضد أصحاب الفخامة، تحملنا كتابة مصرينا الجمعي داخل مفهوم الـ “أنا “، لننصهر أكثر داخل فرن الوطن العربي، لذا لم نعد نفكر في إيقاف هذه المجازر، وحده الدم حبر لنا، وحدها أشلاء البشر صحائف نخط عليها رسائل الملوك بـأريحية تلوذ للبكاء أكثر من النظرات العابرة، نكتب شهوة الظلم لتعتق أنفسنا من هواجس الفناء المغري بالحرية الصاخبة على مشارف مدنها العارية.
إن اللّغة الآن لم تعد تؤيد كُتاب النصوص السوداء بالذعر، بقدر ما تستهوي تلك النصوص الملغمة بتنفس هذا الدمار الكوني لها، تبدي بعض الامتعاض لمن خرقوا نظامها الكوني عنوة بتطفلهم على أسرارها، وكشف مناطقها الاكثر شهوانية فساقوها لتكون امرأة بشقة داخل كِتاب كأنه بيت ماخور، بحجة [ندعم اللّغة بلهجتنا العامية]، إننا معشر المثقفين نؤدي قدسيتها مع اقتراب العيد الفصيح لنعطيها توّهجا وعظمة بكتابة الشعر للنساء، كما كتابة القصيدة للوطن، إنها لم تعد بين أيدينا إلاّ كأنثى خارجة عن طاعة بعلها كما عن رتابة الأشياء، تستوقفنا في كل منظر جمالي للطبيعة أو منظر مصطنع للتحف كالنساء الجميلات، لتوّقعنا في شهوة الغرق في كتابة حسنها بانتقاء أجمل الزهور من بهو حديقتها الواسعة و المكتظة بالعطور، حسب نوعية و جودة الورق المقدم لنا.
إنها سيدة الكلام على طاولات العالم، لا تلتقي إلا بأصحاب الكبرياء اللغوي، لـتعقد مع كل فيلسوف مغامر خلوة للصفح عن خطيئة ارتكبها ضدها، فكل خلوة معها لا تمت بصلة لتلك التجاوزات السياسية التي يقع فيها كبار زعماء السلطة في تحريفهم للغة الأم، وحدها الأوراق الجاهزة البيضاء تغري الكُتّاب في أن يتسامروا معها بأحلامهم وما تبقى من شهوتهم الحرفية، فيكتبون ما بدا لهم صحيحا وما لم يبدو لهم كذلك – ربما هو الحلم العربي – يستدرج حاملي المشعل لينيروا له طريق الهروب بهوادة، ليصنفهم مع تلك اللغة التي كتبوه بها ضمن رتابة الأشياء القاتمة كالنصر الكبير.
عدنا اليوم ببزة الجنود المنتصرين بسلاح القلم، فكتبت عنا الجرائد المسائية [ الموتى عائدون من منفى الذاكرة]، إننا عدنا بهزيمة نكراء نجر حديث الغرباء ـ أن في عروبتنا رائحة الرماد – و ما خلنا أنه لم يكن كذلك، فتقبلنا هذه الهزيمة رغم هذا الانتصار في قتل أعداء اللغة العربية، لم أصبحت كل أحلامنا مشحونة بضمير جمعي يُركن ظل الوطن العربي خارج موقع الأحاديث العالمية؟
ربما هي المواعيد اللغوية هكذا دائما تحن أكثر لكتّابها الأصليون القدامى!
رغم أننا كتّاب ندّعي الأصالة لكننا تحررنا من زخمها الكثيف وبتنا نسمي الشعر على مسميات جديدة مثلاً، ونعطي لنصوصنا نفسا سريعا خاليا من الرغبة في الاستنشاق العميق للذاكرة – يحدث أن أبكي على مأساة الآخرين أكثر من نفسي كما تبكي اللّغة الآن على حماتها الموتى – إنها اختيارات صعبة مع الشهوة الحرفية المحصورة بين مدينتين تطارحان حزنهما للأخرى، بهزيمة الصمت الذي يسمي نفسه هزيمة الكلام.
إن في حزن اللغة تعتقاً للأرواح السجينة في كتب الأمجاد، تعتقاً من كل هواجس المرض الحديث ( العولمة )، بيد أنه توجد يد خفية تريد أن تخدع هذا القاموس العريق، وما تبقى لنا في صحن الكلمات من كذب جاهز مستساغ مع أنفسنا، لنتعاطى أكثر الحوارات الدرامية بأقل ملوحة - من اللفائف الهندية المالحة - التي تباع في مطعم عربي فاخر بالنفاق، ها هو نادل [ الكلام المبرمج ] قد اقترب لإعلان الفتنة بتحيته الغريبة، ببعد مسافة صغيرة على مرمى أقدامنا الجاثمة تحت طاولة مرقمة برقم الحظ (7)، والمركونة في زاوية مظلمة، إنه رقم بعدد ترتيب طبقات السماء والأرض! ، و بعدد ذبابات التجسس الخارجة من جيبه المثقوب. تَساءلنا إذا ما نحن جاهزون لتقبل الخسارة بهذه الوجبة الغنية بدسم المكائد المصنفة ضمن قائمة الطعام لذوي الحمية العربية.
إننا لا نعد كوننا أطباق جاهزة سلفاً، ومرتبة لأشخاص معنيون بهذه الوجبات، اكتفوا فقط برفع سماعة الهاتف وحجز طاولة الحظ الوطنية، ليتطارحوا الكلام بلهجات عدة كاشفين عن خططهم الملغمة بالسرقة، بالخيانة، حتى بزنى المحارم مع اللغة التي قالوا عنها [ عاجزة عن مواكبة تقدم الكلام السريع]، لذا لم نعد نحلم كما كنا في سابق العهد نترف الاحلام لنكون على جوقة أغنية سعيدة، كالوقت الذي يمر كفتح ظرف رسالة بحافة السكين، أو فتح ربطة الهدايا الحمراء الآتية من شارع ما قريب من زقاق الحب. لذا تهنا بينها وأصبحنا نتقبل الهزائم بخرافة [ الصمت قدوة الاذكياء]، أليس بديهيا أن نغمض عيون الوحش لنمرر أحلامنا الباذخة بين شقوق يديه الخشنتين بِعدِّ أموال صندوق النقد الدولي – هي ضريبة جزافية لبقائه بين الوجهاء خادما مطيعاً – ربما هو ما عاد يشعر بمتعة النوم أكثر من رغبته في أن يجد امرأة بشقة ! ، فأي خزي بتنا نتخبط فيه بتلك الوجبة المالحة من زيّنتها ذبابات الفاكهة بنكهة فم رجل الظل الكبير المر من كثرة تعاطي التبغ الفاسد، كما خلق بعض الاشباح فضاء للغة الركيكة.
فما حاجة لنا أن نخسر اللغة في هكذا كتابات طافحة بالحزن، فنحن نكسب مع كل حرف وطناً من الكلمات، ببلاغة الفلاسفة المقهورين من ابتسامة أصحاب السياسات العارية لهم، بعد خروجهم عن طاعة اللغة في كِتاب يغري نفسه بالشهرة، فأجمل الاشياء الساذجة أنك تحلم بالمجد قرب هؤلاء الوحوش، فلو بت تحلم .. وتحلم، لأنفقت وقتك في حلم لن يتحقق ما دام هناك دعاية لـ [ شوبينغ العار]، فلن تشتري ببطاقة الائتمان تلك سوى فتات أحلامهم التي تخلوا عنها بقناعة منتوج كمالي وطني على مقاس عالمي للجودة، هي كذبة أزلية تقبلنها طواعية، وسمحنا لها بالتجول في حديقة مدركاتنا الحسية.
لم نعد نكتب إلا الترهات ظنا منا أنها أكلة سهلة للبلع مع هؤلاء، و أقل ضرراً من الأحلام التي لا تحقق إلا بمكائد أو مغريات عالمية مشبوهة، لذا نحن الآن نقبل الهزيمة مع أنفسنا دونما أن نتقبل اللغة ضحية على طبق من ذهب، إننا لا نحارب العالم بهذه اللغة القرآنية، إننا نحارب اللغة التي تحارب عالمنا الهادئ بالشحن الكهربائية السالبة.