نظّمت دار الثقافة رشيد ميموني ببومرداس، بمناسبة يوم الشهيد، ندوة فكرية وطنية خصّصت لمعالجة موضوع التّعبير الملحمي عن تضحيات الشّهداء في الشّعر الشّعبي الشّفهي الجزائري، بمشاركة نخبة من الأساتذة الباحثين من عدة ولايات من الوطن، في محاولة للإجابة على عدة تساؤلات ومحاور مطروحة للنّقاش، كالدور الإعلامي والتّوعوي للشّعر الشفهي إبّان الثورة، إسهاماته في الحفاظ على الهوية الثقافية الجزائرية، وقيم النّضال والحرية التي حملها هذا النوع الأدبي.
كشف الأستاذ والباحث عبد الحميد بورايو في مداخلة بعنوان «الشّعر الملحون وتاريخ المقاومة»، أنّ الشّاعر الشّعبي لعب دور المؤرّخ خلال الفترة الاستعمارية، من خلال تسجيل الوقائع بشيء من التّفصيل، خاصة تلك الوقائع المحلية المعيّنة من قبل الشّاعر بأسماء الأماكن والرّجال الذين شاركوا فيها، والزمن الذي حدثت فيه، وبالتالي اعتبر الشعر الشعبي الجزائري مادة ثقافية على جانب كبير من الأهمية من حيث الدلالة التاريخية، ولعل هذه النزعة ـ يقول بورايو ـ هي التي كانت وراء عناية وسائل الإعلام والهيئات الثقافية به منذ العهد الاستعماري، ومن أهم تلك المصادر المجلة الإفريقية التي سجّلت عددا هاما من القصائد الشعرية نظرا لأهميتها التّاريخية والتّوثيقية لفترة الاحتلال الفرنسي.
كما اعتبر الأستاذ بورايو مشاركة شعراء الملحون في إحياء المناسبات الوطنية والذكريات التاريخية، كان له دور فعّال في دفع الشّعراء إلى نظم عدد كبير من القصائد تتفاوت قيمتها بتفاوت الشّعراء، لكن الأهم من كل هذا هو أنّ الشّعر الملحون الجزائري كان باستمرار حاملا للوعي الجمعي بقيمة التّاريخ والطّبيعة الرّمزية.
سيدي بن خلوف وموقعة مازغران سنة 1515
عاد الأستاذ أحمد بن قنشوبة من جامعة الجلفة ليغوص في أعماق تاريخ الشعر الشعبي في مداخلة بعنوان «مظاهر المقاومة في الشعر الشعبي الجزائري»، أراد من خلالها رصد أهم مظاهر المقاومة والثورة في مجموعة من القصائد الشّعبية التي أبدعها شعراء من عدة مناطق من الوطن أثناء فترة الاستعمار وهنا يقول الباحث: «قصة الشّعر الشّعبي الجزائري مع المقاومة قديمة، بدأت مع التكالب الاستعماري الحديث على الشواطئ الجزائرية، ومن أمثلة هذا التفاعل المبكّر من الشّاعر الشّعبي مع هذه الأحداث، قصيدة الشّاعر المجاهد والولي الصالح الأخضر بن خلوف الإدريسي المغراوي، الذي حضر واقعة مازغران بالغرب الجزائري سنة 1515 بين الاسبان والجيش الجزائري المقاوم، حيث سجّل بالتّفصيل الموقعة الشّهيرة بقصيدة «قصة مازغران». كما يوجد نموذج آخر من قصائد المقاومة، وهي قصيدة الشاعر عبد القادر أحد أعيان العاصمة، التي يرثي فيها سقوط المدينة في أيدي الفرنسيين وكانت سببا في اندلاع ثورات عديدة، منها ثورة ابن زعموم سنة 1830 وثورة مليانة سنة 1851، ونفس الأمر حدث خلال اندلاع ثورة أول نوفمبر المجيدة التي ألهمت الشعراء في تقديم عشرات القصائد المخلّدة للأحداث وفق المتدخل».
قصائد من وراء القضبان..وثنائية البنية السّطحية
تناول الأستاذ الباحث بوحبيب حميد من جامعة الجزائر 2، موضوعا أكاديميا أكثر عمقا بعنوان «قصائد من وراء القضبان أو آليات النّظم في الشّعر الشّفوي»، عرض فيه مدونة من أشعار السجن من نمط «الأسفرو»، في محاولة لإظهار كيفية إنتاج القصائد الشعرية المرتبطة بمحنة السجن، ودور الذاكرة الشفوية في إنتاج نصوص إبداعية وسط كل هذه الظروف والمعاناة.
من جانبه عرض الأستاذ بوشيبة بركة من جامعة بشار موضوع «انعكاس الثورة التحريرية في الشعر الشعبي»، مبرزا بالقول «أنّ الحدث في هذه النّصوص تصنعه ثنائيتان على مستوى البنية السطحية المجسدة في ثنائية الإشادة بالكفاح المسلح للمنطقة وعلى المستوى الوطني كافة عن طريق تسجيل كل الوقائع ورفع معنوية المجاهدين، مقابل إنكار ومناهضة أفعال وجرائم المستعمر المشينة المرتكبة في حق أبناء الشعب الجزائري، وسعيه الى طمس هويته وشخصيته الوطنية بكل مكوناتها..».
ميلاد جمعية صون الموروث اللاّمادي الشّعبي وترقيته
هذا وقد تمّ أول أمس الخميس في اليوم الثاني من النّدوة، على إثر انعقاد جمعية عامة تأسيسية بدار الثقافة رشيد ميموني لبومرداس، الإعلان عن ميلاد «جمعية صون الموروث اللاّمادي الشعبي وترقيته بحضور ممثلين عن 21 ولاية عبر الوطن، يمثلون مختلف الاتجاهات الثقافية والشعرية، حيث تمخّض اللّقاء على انتخاب الدكتور والباحث في الشعر الشعبي عبد الحميد بورايو رئيسا لهذا المولود الجديد.
وعن الأهداف من تأسيس جمعية ثقافية وطنية تعنى بالموروث الثقافي الجزائري اللامادي، كشفت مصادر من داخل الاجتماع لـ «الشعب»، أنّ المبادرة تسعى إلى تحقيق جملة من الأهداف البعيدة والقصيرة المدى، منها حماية الموروث الجزائري اللامادي بكل أجناسه وإنقاذه من الاندثار، ومحاولة جمع ما لم يجمع في الميدان وترقيته وتشجيع الإنتاج الأدبي بكل اللغات واللهجات الوطنية باعتباره إرثا مشتركا للشعب الجزائري.
أما عن الأهداف القريبة، فيسعى أصحاب المبادرة إلى إنشاء مجلة علمية تعنى بنشر الأبحاث المقدمة في هذا المجال كأول خطوة، في انتظار الدعم المادي والمعنوي من قبل السلطات وعلى رأسها وزارة الثقافة خاصة بالنسبة للمهرجان الوطني للموروث الشعبي، كما خرج المشاركون في الندوة بالتأكيد على أن المهرجان سينظم كل سنة في ولاية من ولايات الوطن بعد الطبعة الأولى التي احتضنتها ولاية بومرداس.