قصائد شعبية تنبض بها قلوب القبائليات

إيـــزلان..رسـائل عــمــيــقـــة بــألحــان شــجــيـــّة

تيزي وزو: نيليا.م

 

تزخر منطقة جرجرة بأنماط فنية شعبية متنوعة، تتغنى في بعضها بالبيئة والطبيعة والحياة اليومية في هذه المنطقة التي تتميز بعادات وتقاليد فريدة من نوعها، والتي كانت في وقت ما تتصف بأنها مجتمع ذكوري حصر المرأة في دائرة الأعمال والأشغال اليومية، دون منحها فرصة للتعبير عن مكنوناتها الداخلية ومعاناتها التي تتكبدها يوميا.


معاناة المرأة وحريتها المقيدة دفع بها إلى إيجاد سبل تتحرر من خلالها من تلك الدائرة المغلقة التي حُصرت فيها، لتجد في الغناء ملاذها الوحيد، والذي من خلاله تنفس عما يختلج سريرتها، وتبعث برسائل مشفرة عن طريق لغة مبتكرة تفقه النسوة فقط أبجدياتها دونا عن باقي أفراد المجتمع.
دندنات شعرية
دندنات المرأة بكلمات شعرية تضفي عليها فيما بعد ألحانا شجية تداعب الروح، أعطت شهادة ميلاد للعديد من الطبوع الفنية الشعبية التي اشتهرت بها المنطقة، وتحولت مع مرور السنوات إلى تراث شعبي لا مادي تناقلته النسوة شفهيا عبر الأجيال، هذه المعادلة الاجتماعية الثقافية الصعبة، التي ولدت من رحم المعاناة والمضايقات، أصبحت جواز سفر لتراث ثقافي شعبي لا مادي يزاحم العديد من الطبوع الفنية الغنائية في العالم، كيف لا وهو تراث شعبي صدحت به حناجر نسوة لم يتعلمن يوما النوتات الموسيقية، ولكنهنّ أخرجن للعالم نوعا فنيا يعجز كبار الفنانين على غنائه، كونه يعتمد على قوة الحنجرة التي تصدح بأجمل الألحان والسيمفونيات الموسيقية، التي تمنح صورا جمالية للحياة في قرى ومداشر قابعة على قمم وأعالي الجبال بالرغم من قساوة الظروف التي رافقت سكانها لسنوات طويلة.
الطبوع الفنية الشعبية التي تفننت النسوة في غنائها، اختلفت تسمياتها كاختلاف ظروف وجوانب الحياة، فهناك أغان جسدت المعاناة والأحزان والعيش تحت سطوة وسيطرة الرجل، أغاني “التويزة وجني الزيتون”، “ايشويقن” وحتى “أورار نلخلاث” من خلال تجمعهنّ على شكل فرق وهنّ يرددن أجمل الأشعار والأغاني، إلى جانب الأغاني التي تتغنى في المناسبات المفرحة كالأعراس، مولود جديد، حفلات الختان، هذه الأخيرة التي تعرف بالنمط الفني “ايزلان” وهي عبارة عن أشعار ذات ألحان شجية تطغى عليها الحنية، وهذا النوع الفني الشعبي يأخذ حصة الأسد في المناسبات العائلية وفي الأفراح، كونه يحمل دلالات الفرح والإشادة والشكر لأفراد العائلة المنظمة لأية مناسبة مفرحة، ومن خلالها تتجسد معالم الحياة في أعالي جرجرة الشامخة، والعادات والتقاليد التي يتم التعبير عنها وإحيائها تزامنا مع المناسبة، وهذا ما أكدته لنا الكاتبة والفنانة “ النا ونيسة” من قرية “زوبقا” بايليلتن، هذه الأخيرة التي ما تزال متمسكة بهذه الطبوع الفنية الشعبية وتتغنى بها في المناسبات رفقة الفرقة النسوية، حيث أشارت إلى أنّ “ايزلان” هي عبارة عن مجموعة من الأشعار الملحنة والمشفرة التي تتغنى بها النسوة في الحفلات والمناسبات السعيدة، خاصة أثناء مراسيم الحنة “للعريسين” أثناء الزفاف، هذه المناسبة التي تحمل دلالات كبيرة تتعدى كونها مجرد احتفالية، حيث تمرر من خلالها الرسائل للتعبير عن ما يختلج في الصدور.
أهازيج للفرح والبهجة
النا ونيسة أكّدت أن “ايزلان” هو غناء الحياة، فيه تتجسد كل معالم الحياة وسط جدران منازل لا طالما اعتبرت بمثابة سجن بالنسبة للنسوة في ما مضى، حيث كانت سجينة العادات والتقاليد والمجتمع الذكوري الذي يفرض سيطرته عليها، لدرجة أنها كانت تُمنع حتى من التعبير عن آرائها، لهذا تجد في الغناء المهرب الوحيد لتنفس عن ما تشعر به ـ تقول المتحدثة ـ إلا أنها لا تغني متى يحلو لها، وإنما بعيدا عن الأنظار والمسامع، فتجدها تردد أجمل الأشعار الملحنة عندما تقصد الينابيع الطبيعية أو الحقول، وأحيانا أخرى داخل جدران حجرتها بعد أن يغادر الجميع المنزل لقضاء مختلف الأشغال، كما أنها تنسى كل همومها في اللحظة التي تحمل في أحضانها صغيرها لتناغيه بأجمل الدندنات وهي تداعبه من أجل أن ينام.
«ايزلان”..هي أهازيج غنائية تحمل في عمقها دلالة الفرح والبهجة، ففي نظر الكاتبة النا ونيسة هي أشعار يُتغنى بها في طقوس حنة العروس أو العريس خلال حفلات الزفاف، حيث تصور النسوة تلك اللحظات التي تجتمع فيها العائلات من أجل إحياء حفل الزفاف وفقا للعادات والتقاليد، وتنطلق من بداية الحفلة إلى غاية أن تزف العروس إلى بيت زوجها، مضيفة أن كل لحظة لها أشعار خاصة بها، من بداية التحضير لهذه المناسبة إلى غاية يوم الحنة ويوم الزفاف، حيث لا يخلو المنزل ولا القرية من تلك الأهازيج التي تخلق جوا من الفرح والسعادة، خاصة بين النسوة اللاتي يجدن فيها فرصة للحديث والغناء وحتى إلقاء الأشعار التي جادت بها جعبتهن، لتكون بذلك انطلاقة مراسيم الزفاف في قاموس النسوة، فلا زفاف دون تلك الأهازيج “ايزلان” التي تزيد تلك اللحظات جمالا لا يوصف تنسى من خلالها النسوة معاناة سنوات.
محدثتنا أكّدت أنّ هذا النوع الفني الذي تتغنى به النسوة في مختلف المناسبات السعيدة اشتهر في منطقة جرجرة، وقدر عرف انتشارا واسعا في مختلف القرى، حيث تناقلنه فيما بينهنّ وتتشابه كلماته من قرية إلى أخرى بحكم علاقة النسب بين العائلات، مشيرة إلى أن هذه الأشعار الملحنة حافظت على قيمتها الثقافية والاجتماعية ومعناها العميق، الذي يجسد ملامح الحياة، وما يزال يتغنى بها إلى يومنا هذا، حيث لم يحدث فيها تغيير كبير، بالرغم من محاولة تغيير بعض الألحان وإدخال كلمات عليها، إلا أن قوة الكلمات الشعرية التي بنت هذا النوع الفني منذ عصر الجدات والأمهات ـ تضيف ـ بقي مهيمنا ومسيطرا على النوع الفني وليس من السهولة التغيير فيه، أو إيجاد البديل لها، كونها تحاكي الحياة في أجمل صورة.
أشعار من عمق الحياة..
«تسعديت تيغيلت” أو النا تسعديت من قرية “تيفيلكوت” عضوة في الفرقة النسوية لدار الثقافة مولود معمري، صرحت لـ«الشعب” أن “ايزلان” أو “ايسفرا” كما تسمى في بعض المناطق، تحمل مشاعر وأحاسيس المرأة التي عانت في زمن مضى مختلف أنواع الحرمان والمعاناة، مشيرة إلى أن المنطقة عرفت بكونها مجتمع ذكوري بدون منازع كانت فيه المرأة سجينة العادات والتقاليد، لهذا أوجدت لنفسها متنفسا للتعبير عن كل ما يختلج سريرتها عن طريق الأشعار والغناء دون أن تخاصم أو تتشاجر مع أي أحد، وأضافت أن الخصام كان عن طريق الكلمة والمعاني التي تفهم من سياق الكلام، حيث تستعمل المرأة كلمات ذات معنى عميق تشير من خلالها بما تريد قوله، تُفهم من المتلقي أو المستمع لها..توصل له رسالة مشفرة، تروي من خلالها معاناتها أو حالتها النفسية، مبرزة في سياق حديثها أن “ايزلان” تتغنى بهموم المرأة في مختلف المناسبات وحالاتها النفسية ولا تتعلق فقط بالأفراح، حيث تحكي حياتها اليومية عبر تلك الأشعار والوصلات الغنائية القصيرة، ولكل حالة أو وضع اجتماعي كلمات وأشعار خاصة بها، تلقيها خاصة على ضفاف الأودية أو الينابيع الطبيعية والتي تعتبر الوجهة المفضلة للنسوة لتقاسم انشغالاتهنّ، ومن هنا ولدت العديد من الأنواع الفنية الشعبية التي صنفت اليوم كموروث ثقافي.
لغة للتواصل..
 الأشعار الشعبية الملحنة أو ما يسمى “ايزلان”، هي معادلة فنية ثقافية واجتماعية تمس مختلف جوانب الحياة، فالمجتمع محافظ بامتياز لا يمكن تجاوز عاداته وتقاليده، خاصة ما تعلق بالمشاعر والأحاسيس، حيث ظلت قصص الحب طابو من طابوهات المجتمع التي لا يجب الخوض فيها ولو مزاحا، وكانت تلقى االنكران والرفض لهذا أوجدت النساء لغة خاصة للتواصل بين المحبين، من خلال بعث رسائل مشفرة عن طريق الغناء والأشعار الملحنة التي تعبر من خلالها عن مشاعرها تجاه من تحب، وحتى الرجل أيضا كانت يستعمل هذه الطريقة لإيصال رسالته بطريقة غير مباشرة لمحبوبته، تفاديا لرفض المجتمع ونظرته القاسية والضيقة لكل ما يسمى مشاعر وأحاسيس، وهذا ما أكدته “فهيمة بساحة” رئيسة الجمعية الثقافية “اغنجور” بتاكوشت بوزقان، والتي أضافت أنّ “ايزلان” هو نمط فني شعبي تتغنى به النسوة للتعبير عن حياتهنّ وسط أفراد عائلة الزوج، كما تعبر أيضا عن الحب والحنان من خلال إرسال رسائل مشفرة غير مباشرة، تحوي كلمات بسيطة تفهم من سياق الكلام.
«ايزلان”، تقول: “هي أهازيج فنية شعبية تتغنى بها النسوة منذ قديم الزمان، وهي مشبعة بألحان الحياة الشجية التي أوجدت للمرأة متنفسا تعبر من خلاله عن كل مكنوناتها ومعاناتها الدفينة، وهو نوع فني ما يزال قائم بحد ذاته بسبب توارثه بين الأجيال وتمسك المرأة به”. رغم تغير الظروف الاجتماعية إلا أن حياة المرأة لم يتغير فيها الكثير، حسب ما صرحت به “فهيمة بساحة”، التي ترى أن كل ما تعيشه المرأة في وقتنا الحالي هو نفس المعاناة ولكن بشكل ووجه آخر فقط، لهذا حافظت هذه الطبوع الفنية الشعبية على تواجدها ولم تندثر، خاصة مع عودة الفرق النسوية التي تتغنى بأجمل هذه الأشعار، وهو ما أعاد هذه الطبوع الفنية إلى الواجهة بعدما اختفت لسنوات طويلة، وبقيت حية في نفوس وقلوب النسوة إلى يومنا هذا.
مرآة عاكسة ليوميات القبائلية
الغناء الشعبي النسوي “ايزلان” يعتبر مرآة عاكسة ليوميات المرأة، فلا وجود له بدون وصف الحياة الاجتماعية وكل ما تواجهه المرأة في حياتها اليومية، وحتى خلال المناسبات السعيدة والمفرحة كحفلات الزفاف، ختان الأطفال، مولود جديد..كل هذه التغيرات في حياة المرأة ساهم في ميلاد مختلف الطبوع الفنية الشعبية ومن بينها “ايزلان”، هذا النوع الفني الذي يضفي على الحياة رونقا وجمالا وتفردا في نمط المعيشة، فمن رحم المعاناة تولد الكلمات التي تشع نورا يضيئ جوانب من حياة المرأة، فتغوص تارة في الأحزان والمعاناة التي تترجمها إلى وصلات غنائية شجية تحاكي من خلالها ألمها ووجعها، إلا أن ظلام الليل سرعان ما ينجلي من حياة المرأة وهي تستعد لحضور حفلة زفاف أو ختان، أين تطلق العنان لحنجرتها من أجل أن تعزف أجمل النوتات بحنجرتها فقط دون أية آلات موسيقية، لتبدع وتتفنن في الغناء الذي يسافر معه المستمع إلى عمق الحياة، ويعيش لحظات فرح وبهجة تنسيه مر السنين، لتجتمع العائلات على وقع الموسيقى الملحنة بالصوت فقط، وترحل بأحلامها وهي تحتضن صغيرها بين أحضانها لتناغيه وتهدئه بأجمل الأشعار الملحنة وهي تحكي من خلاله حياتها اليومية..فهذا الوقت ليس علاقة أم برضيعها فقط، وإنما علاقة المرأة بالحياة المجسدة من خلال نغمات صوتها الذي ينسج سيمفونيات من الحياة.
المرأة في المجتمع القبائلي شريك فعال لا يستهان به، فهي أكثر من مجرد أنثى تتكفل بالأشغال اليومية، وإنما هي دعامة لا يستهان بها في بناء الصورة الحقيقية لنمط حياة، تفردت وتميزت عن باقي المناطق بعادات وتقاليد، جعلتها اليوم قبلة للسياحة بامتياز، كيف لا وهي تحمل في طياتها ثقافة أصبحت اليوم موروثا ثقافيا ماديا ولا ماديا يغازل هواة السياحة والاستمتاع بكل ما هو جميل وفريد من نوعه، ويعتبر الفن الشعبي بمختلف أنواعه أحد الركائز الأساسية للثقافة، والذي ما يزال شاهدا على حقب تاريخية كثيرة كانت بطلاته النسوة اللائي أعطين شهادة ميلاده، وأصبحن اليوم حارسات على استمراريته وتوريثه للأجيال المقبلة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19746

العدد 19746

السبت 12 أفريل 2025
العدد 19745

العدد 19745

الجمعة 11 أفريل 2025
العدد 19744

العدد 19744

الخميس 10 أفريل 2025
العدد 19743

العدد 19743

الثلاثاء 08 أفريل 2025