انحدار غير مسبوق نحو الدرك الأسفــــل من الرعونــة
أصبح من الواضح أن العلاقات الجزائرية- الفرنسية لا تعيش هذه الأيام مرحلة عابرة من البرود، بل باتت ترتكز على نَفَس عدائي واضح من بعض دوائر الحكم في باريس، خاصة في ضوء ما تكشفه الصحافة الفرنسية عبر تسريبات ممنهجة ومقصودة تعكس انحدارًا غير مسبوق في مستوى النضج السياسي داخل حكومة تصرّ على إدارة العلاقات مع الجزائر بمنطق المراهقة السياسية لا بمنطق الدول.
تتفنّـن الجهات في فرنسا في صناعة أزمات فارغة من أي مضمون سياسي، عبر إشارات «غبية» وغير مفهومة لتجميد مزعوم لأصول مسؤولين جزائريين كرد فعل على رفض الجزائر استقبال عدد من الرعايا لم تحترم باريس الأطر القانونية المعروفة في ترحيلهم، وهكذا تصرفات لا تليق إلا بمن اعتاد السباحة في مستنقعات السياسة، حيث لا يُجيد الحركة إلا من تعوّد اللعب في المياه العكرة. الجزائر، على عكس ذلك، لم تنزل يومًا إلى هذا الدرك من السفالة. لاسيما وأن موقفها الرسمي لم يتغير، وظل يعكس صورة دولة تعرف قدرها وتدافع عن سيادتها دون مساومة. وفي هذا الإطار، يقول الدكتور عبد القادر منصوري، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في تصريح لـ «الشعب»، «إن ما تقوم به بعض الدوائر الفرنسية لا يدخل في إطار السياسة الخارجية الرشيدة، بل هو ارتجال يُغذي خيالات دوائر يمينية متطرفة تبحث عن شماعة تعلق عليها فشلها الداخلي. هذه التسريبات المتكررة، سواء جاءت من لكسبرس أو غيرها.. تهدف إلى استدراج الجزائر إلى مربع الردود الانفعالية، إلا أن الجزائر وبكل رصانة، لم تقع في الفخ، بل تعاملت بمنطق الدولة ذات السيادة، التي تُقابل الهستيريا بالصمت الواعي والتجاهل المسؤول». علاوة على ذلك، يربط الدكتور منصوري هذا النهج الفرنسي بتصدعات أعمق في بنية القرار السياسي الفرنسي، قائلًا: «فرنسا تعيش ارتباكًا داخليًا واضحًا. اليمين المتطرف يضغط، والسلطة التنفيذية تُسايره في خطاب شعبوي عدائي، ما يجعل السياسة الخارجية تُدار بمنطق العصابات السياسية لا بمنهج الدولة. وهذا انعكاس لفقدان فرنسا بوصلتها الدولية، وفقدانها احترامها حتى داخل المنظومة الأوروبية».
في نفس السياق، يؤكد المتخصص في الدراسات الأمنية الدكتور سليمان زغدودي، في تصريح لـ»الشعب»، أن الجزائر أصبحت هدفًا لدعاية سياسية تبحث عن نصر وهمي. وتابع: «حين تفقد بعض الدول القدرة على حل أزماتها الداخلية، فإنها تبحث عن عدو خارجي يُخاطب به ساستها جمهورهم الغاضب. والجزائر، بسيادتها واستقلالية قرارها، أصبحت رمزًا لهذا التحدي الذي يربك هذه الدوائر الفرنسية. وما يُفكر فيه هؤلاء ليس الجزائر كدولة، بل صورة وهمية لها تُناسب مصالحهم الانتخابية، وهم لا يريدون جزائر قوية، بل جزائر تُشبه مستعمراتهم القديمة، وقد فاتهم أن التاريخ لا يعود إلى الوراء».
بالإضافة إلى ذلك، يصف زغدودي التسريبات الأخيرة، بأنها «مناورة مكشوفة تنمّ عن إفلاس فكري وسياسي، لا يمكن لفرنسا أن تستعيد به وزنها، بل على العكس، تُمعن في تآكل مكانتها الدبلوماسية».
علاوة على ذلك، لم ينزلق الرد الجزائري، الرسمي والإعلامي، إلى المزايدات، بل وُضع في إطار الدفاع عن كرامة الدولة والرد على ما يمكن وصفه بـ»التصرفات الصبيانية».
ولم تكتف الجزائر برفض هذه الضغوط، بل ذهبت أبعد من ذلك حين ذكّرت فرنسا بعشرات الإنابات القضائية وطلبات التعاون في قضايا الفساد التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ، رغم أن باريس لا تكفّ عن رفع شعار «الشفافية» و»محاربة المال الفاسد».
كذلك، فإن هذا السلوك الفرنسي يُفهم، بحسب المراقبين، كمحاولة للهروب من مطالب الجزائر الحقيقية بتفعيل الاتفاقيات الثنائية، خاصة في المجال القضائي. أما الاستنجاد بعقوبات مفترضة وتجميد ممتلكات، فليس إلا مسرحية هزلية في ختام مسيرة دبلوماسية باتت تفتقر للجدية.
وفي المحصلة، فالجزائر لا تبني قراراتها وفق انفعالات أو تسريبات، بل وفق عقيدة سياسية تستند إلى مبدإ السيادة واحترام الآخر. أما فرنسا، فمطالبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن تغادر مستنقعها السياسي، قبل أن يغرقها بالكامل. فمن يواصل التعامل مع الجزائر بمنطق الاستعلاء، سيجد أمامه شعبًا لا يقبل الإهانة، ودولة لا تساوم على كرامتها.