لطالما واجه المسرح، عالميا ومحليا، تحدياتٍ متنوعةً طوال تاريخه، ولكن مع استمرار تطورنا في عالمٍ سريع التغير، تظهر تحدياتٌ جديدة تتطلب حلولاً مبتكرة. هذه التحديات متنوعةٌ ومتعددة الأوجه، تتراوح بين التقدم التكنولوجي، وتأثير العولمة، وتغير وتشتيت اختيارات الجمهور وتفضيلاته. مثالاً على ذلك، سلّطت رسالة اليوم العالمي للمسرح، لهذه السنة، الضوء على عدد من أسئلة الراهن، وخلصت إلى ضرورة “تبنّي أساليب سردية جديدة، تهدف إلى إحياء الذاكرة وصياغة مسؤولية أخلاقية”.
يواجه مختلف المسرحيين في العالم تحديات جديدة، تفرضها التقلبات الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية وحتى البيئية التي يشهدها العالم اليوم.. تقلبات ذات أثر أسهمت التكنولوجيا في تعميقه، والعولمة في انتشاره.
وليس المسرح الجزائري في منأى عن هذه التحديات، فبرغم نشأته المتفردة ومسيرته النضالية، يبقى جزءًا من حركة مسرحية عالمية، وأكثر من ذلك، جزءًا من مجتمع يتأثر، كغيره من المجتمعات، بأسئلة الراهن وقضايا العالم المعاصر.
ولعلنا، بفهم التحديات التي تواجه المسرح في العالم، نتمكن من تحديد وفهم بعض تحديات المسرح عندنا.. ولعلنا، بقراءةٍ في رسالة اليوم العالمي للمسرح لهذه السنة، نتبيّن بعض تحديات المسرح في العالم.
رسالة اليوم العالمي للمسرح.. وأسئلة الراهن
كما جرت العادة، أُلقيت رسالة اليوم العالمي للمسرح للعام الجاري 2025، بمناسبة الاحتفال بهذا اليوم الذي يصادف السابع والعشرين مارس من كل سنة. وقد كُتبت رسالة هذا العام بقلم ثيودوروس تيرزوبولوس، المخرج المسرحي اليوناني ورئيس اللجنة الدولية لأولمبياد المسرح، وقد نشرتها الهيئة الدولية للمسرح (آي تي آي) على الموقع المخصص لهذا اليوم العالمي، وبمختلف اللغات.
يطرح المسرحي اليوناني في رسالة هذا العام مجموعة من الأسئلة، يحاول من خلالها تسليط الضوء على التحديات الجديدة التي تواجه المسرح، والمسرحيين، عبر العالم.
يقول تيرزوبولوس في مستهل رسالته: “هل يستطيع المسرح أن يصغي إلى نداء الاستغاثة الذي تطلقه أزمنتنا، في عالم يجد فيه المواطنون أنفسهم مفقرین محبوسين داخل زنازين الواقع الافتراضي، منغلقين على ذواتهم في عزلة خانقة؟ في عالم يتحول فيه البشر إلى روبوتات تحت وطأة نظام شمولي يقوم على السيطرة عن طريق الرقابة والقمع، باسطا ظله على كل جانب من جوانب الحياة؟”.
وتواصل الرسالة طرح الأسئلة الراهنة، ومنها مسألة البيئة وتأثيرها على الإنسان: “هل يكترث المسرح للدمار البيئي، للاحتباس الحراري للفقدان الهائل للتنوع البيولوجي، لتلوث المحيطات لذوبان القمم الجليدية لزيادة حرائق الغابات والظواهر المناخية المتطرفة؟ هل يمكن للمسرح أن يصبح طرفا فاعلا في النظام البيئي؟ لقد راقب المسرح تأثيرا لإنسان على الكوكب لسنوات طويلة لكنه يجد صعوبة في التعامل مع هذه الأزمة.”
ويردف تيرزوبولوس قائلا: “هل يشعر المسرح بالقلق إزاء الوضع الإنساني كما يتشكل في القرن الحادي والعشرين، حيث يصبح المواطن لعبة تحركها المصالح السياسية والاقتصادية، وشبكات الإعلام وشركات صناعة الرأي العام؟ حيث تتحول وسائل التواصل الاجتماعي، رغم دورها الكبير في تسهيل التواصل، إلى ذريعة قوية للابتعاد، فهي تمنحنا مسافة الأمان المطلوبة بيننا وبين الآخر؟ إن شعور الخوف من الآخر، المختلف، الغريب، يسيطر على أفكارنا ويوجه أفعالنا.”
ويضيف كاتب رسالة اليوم العالمي للمسرح: “هل يمكن أن يصبح المسرح مختبرا للتعايش بين الاختلافات دون أن يتجاهل الجراح النازفة؟ إن الجراح النازفة تدعونا إلى إعادة بناء الأسطورة. وكما قال هاينر مولر: “الأسطورة هي التراكم، آلة يمكن دائما ربط آلات جديدة ومختلفة بها إنها تنقل الطاقة حتى يصل التسارع المتزايد إلى تفجير دائرة الحضارة”، وأضيف إلى ذلك، دائرة الوحشية.”
ويواصل: “هل يمكن لأضواء المسرح أن تسلط الضوء على الجراح الاجتماعية، بدلا من تسليط الضوء على نفسه بشكل مضلل؟ إنها أسئلة لا تقبل إجابات نهائية، لأن المسرح يستمر في الوجود بفضل الأسئلة التي تظل بلا إجابة. أسئلة أثارها ديونيسوس، وهو يعبر مكان مولده أوركسترا المسرح الإغريقي القديم، ليواصل رحلته الصامتة كلاجئ عبر مشاهد الحروب، اليوم، في اليوم العالمي للمسرح.”
ويستنجد المسرحي اليوناني في رساله هذه بتراثه الإغريقي، حينما يعتبر أن ديونيسوس (إله المسرح) “يطرح السؤال الوجودي الجوهري: ما معنى كل هذا؟ سؤال يدفع المبدع نحو بحث أعمق في جذور الأسطورة وأبعاد اللغز الإنساني المتعددة.”
وفي خلاصة لرسالته ونتيجة لهذه التساؤلات، يقول ثيودوروس تيرزوبولوس: “نحن في حاجة إلى أساليب سردية جديدة، تهدف إلى إحياء الذاكرة وصياغة مسؤولية أخلاقية وسياسية جديدة للخروج من الديكتاتورية متعددة الأوجه لعصور الظلمات الحديثة.”
تحديات عالم متحول ومترابط
كما رأينا، تطرقت رسالة اليوم العالمي للمسرح إلى مجموعة من التحديات الراهنة، منها هيمنة التكنولوجيا، ووطأة الإعلام وشبكات والتواصل، وقضايا السياسة والاقتصاد، والبيئة والمناخ، والتعايش واحترام الاختلاف.. وسنحاول التفصيل أكثر في بعض هذه النقاط..
من التحديات التي تواجه المسرح تغير تركيبة الجمهور وتنوعها باستمرار، ما يفرض على المسارح التكيف لتلبية نطاقٍ أوسع من الأذواق والاختيارات. ويشمل ذلك إنتاج أعمال تعالج قضايا وتعكس تجارب مختلف المجموعات الثقافية والفئات المجتمعية، سواءً على خشبة المسرح أو خارجها. وقد تكون هذه مهمةً شاقة، إذ تتطلب فهمًا عميقًا للمجتمع، واستعدادًا للانخراط في حوارات صعبة، بل ومزعجة في كثير من الأحيان.
ومن أوجه ضرورة التكيف مع توقعات الجمهور وتفضيلاته المتغيرة، نجد أيضا ازدياد وعي الجمهور ومعرفته بالتكنولوجيا، وبالتالي فإنه يتعين على المسارح إيجاد سبل للتفاعل معه بطرق جديدة ومبتكرة. وقد يشمل ذلك تجربة تجارب مسرحية غامرة أو تفاعلية، أو دمج عناصر الوسائط المتعددة في الإنتاجات، أو ابتكار برامج أكثر تنوعًا وشمولية. والمهم هنا هو الحفاظ على الصلة بالجمهور والتواصل معه في ظل مشهد ثقافي سريع التغير.
وبالحديث عن التكنولوجيا الرقمية، فإن صعودها يُعتبر من أهم التحديات التي تواجه المسرح اليوم، ومع ظهور خدمات البث والمنصات الإلكترونية، أصبح لدى الجمهور خياراتٌ أكثر من أي وقت مضى للاستمتاع بالترفيه. وقد أدى ذلك إلى انخفاضٍ في حضور المسارح التقليدية، حيث يختار الناس بشكل متزايد البقاء في منازلهم ومشاهدة المحتوى على شاشاتهم. ولمواجهة هذا التوجه، وجب على المسارح إيجاد طرقٍ لدمج التكنولوجيا في الإنتاج، سواءً من خلال عروض البث المباشر أو التجارب الافتراضية التفاعلية.
وفي سياق ذي صلة، كان لظهور وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإلكترونية تأثيرٌ كبيرٌ على المسرح. وإذا كانت هذه الأدوات تُعدّ أدواتٍ تسويقية فعّالة، فإنها تُشكّل أيضًا تحدياتٍ من حيث جذب الجماهير والحفاظ على النزاهة الفنية. وقد يتعارض الضغط لإنتاج محتوى قابل للمشاركة وانتشار واسع النطاق أحيانًا مع هدف إنتاج مسرح هادف ومؤثر. من أجل ذلك، وجب على محترفي المسرح إيجاد طرقٍ للتنقل في هذا المشهد الرقمي مع الحفاظ على رؤاهم ورسالتهم الفنية.
كما تطرح العولمة تحدياتٍ جديدة للمسرح، بما تحمله من خصائص على غرار الترابط والاعتماد المتبادل، وبالتالي تزايد عمل محترفي المسرح مع فنانين وجماهير من مختلف أنحاء العالم. وهذا الأمر يُتيح فرصًا وتحديات في آنٍ واحد، إذ يسمح بتبادل الأفكار والتأثيرات، ولكنه يتطلب أيضًا مراعاةً للاختلافات الثقافية والحضارية، والقدرة على التعامل مع العلاقات الدولية المعقدة، وبالتالي القدرة على التكيف مع أشكال جديدة من التعاون والشراكة.
بالإضافة إلى هذه التحديات الخارجية، يواجه المسرح أيضًا تحديات داخلية تتعلق بالتمويل والموارد، خاصة مع توسع موجة خوصصة الفنون عبر العالم. وبالتالي، يتعين على المسارح إيجاد مصادر دخل جديدة لدعم أعمالها، ويتطلب هذا الأمر توازنًا دقيقًا، بمعنى أن على المسارح إيجاد سبل لتوليد الدخل دون المساس بنزاهتها الفنية أو تنفير جمهورها. وقد يتطلب هذا استكشاف نماذج أعمال جديدة، مثل الشراكات مع الشركات الراعية أو حملات التمويل الجماعي، لضمان الاستدامة المالية للمنظمات المسرحية.
في الختام، يواجه المسرح، على المستوى الكلي العالمي، وبالتالي المستوى الجزئي المحلي، تحدياتٍ جديدة لا حصر لها في عالم متزايد التعقيد والترابط، بدءًا من صعود التكنولوجيا الرقمية وتغير تفضيلات الجمهور وتأثير العولمة، ما قد يعني أنه على المسارح التكيف والابتكار لتحقيق النجاح في هذا المشهد شديد التغير والتطور. ومن خلال تبني التقنيات الجديدة، والتفاعل مع جماهير متنوعة، وتعزيز الاستدامة والشمولية، يمكن لمحترفي المسرح التغلب على هذه التحديات ومواصلة إنتاج أعمال هادفة ومؤثرة تلقى صدى لدى محبي الفن الرابع. وكما قال كاتب رسالة اليوم العالمي للمسرح: “نحن في حاجة إلى أساليب سردية جديدة، تهدف إلى إحياء الذاكرة وصياغة مسؤولية أخلاقية وسياسية جديدة.”