البروفيسور عاشور فنّي لـ «الشعب ويكاند»:

السلطات الثقافية تخلّت عن رعاية الرموز الوطنية

حوار: الخير شوار

 من غير المنطقي أن تكــون منطقتنــا بلا تاريــخ مكتــوب 

التاريـــخ السياسي العاصف جنى عــلى التاريـخ الثقـــافي

مثقفون يعانون العوز لكن عفتهم تمنعهم من طلب العون 

التركيز على الفترة العثمانية خطأ ناتج عن نظرة قاصرة

في هذا الحوار، نحاول الاقتراب من الأسئلة الحقيقية للتاريخ الثقافي الجزائري، ومشكلات «البتر» التي تعاني منها ذاكرتنا على مرّ التاريخ، مع واحد من أبرز المتخصّصين في هذا الشأن وهو البروفيسور عاشور فني.
وعُرف عاشور فني شاعر متميّزا، من خلال كثير من إصدراته على غرار «زهرة الدنيا» و»رجل من غبار» وغيرها، لكنه بالمقابل اشتغل كثيرا في العمل الأكاديمي، متخصصا في اقتصاد المعرفة. 

«الشعب ويكاند»: تؤكد أن تاريخنا الثقافي يعاني من «البتر».. هل المشكلة في السياسي أم في المجتمع أم في المثقف نفسه الذي لم يصنع ذلك التراكم المطلوب؟
عاشور فنّي: أعتقد أن المشكلة لم تتضح بما فيه الكفاية. البتر الذي تعاني منه الذاكرة الثقافية متعدّد الوجه. بعضه كان نتيجة لتطور التاريخ العام ولا حيلة لنا فيه غير أن نعيد البحث في التاريخ برؤى متجدّدة وبأدوات بحث جديدة. فالتاريخ الثقافي للحقب السحيقة من ماضينا غير معروف. من غير المنطقي أن تكون هذه المنطقة التي كانت في مركز الأحداث التاريخية قديما وخلفت آثارا على الصخور وعلى الأرض التي تعتبر في معظمها متحفا مفتوحا، وتركت لنا أبجدية متكاملة هي أبجدية التيفيناغ  وعشرات الآلاف من المخطوطات المحفوظة في خزائن ما زالت تحت الغبار، من غير المنطقي أن تكون بلا تاريخ مكتوب. التفسير الوحيد أن التاريخ السياسي العاصف قد جنى على التاريخ الثقافي. فكلما تغلبت قوة سياسية جديدة وأنشأت «دولتها»  قامت بمحو آثار القوى التي كانت سائدة قبلها. منذ التاريخ النوميدي القديم وصراعه مع قرطاجة ثم مع الرومان لاحقا وحتى في القرون الوسطى في ظل الدويلات الإسلامية والأسر الحاكمة المحلية. بقدر ما كان هناك من تعاون وانسجام في مراحل معينة من التاريخ بقدر ما حدث حروب وصدامات أدت إلى تدمير الإرث الثقافي. فأين هي مؤلفات كتاب الحقبة النوميدية وما قبلها؟ هناك رأي يقول إن بعض ما يقدم على أنه آثار رومانية قام في الأصل على مخلفات العهد النوميدي. يتطلب  القيام بالبحث من جديد وفق رؤية جديدة وفضيات مختلفة. وفي العصر الوسيط أيضا وقعت مجازر في التاريخ الثقافي. أين هي آثار الدولة الرستمية. يؤكد المؤرخون أن قيام الدولة الفاطمية ترتب عنه إحراق مكتبة «المعصومة « وهي أكبر مكتبة في ذلك الوقت بعد بغداد. السبب مذهبي أساسا. فالدولة الفاطمية قامت على مذهب مناقض للدولة الرستمية. ثم أين ذهبت بعد ذلك آثار الدولة الفاطمية نفسها بعد تأسيس القاهرة والجامع الأزهر ترحيل عاصمة الفاطميين إلى المشرق؟ وفي العصر الحديث كان للدولة العثمانية عناية خاصة بالمذهب الحنفي الذي يتبّعه الأتراك على حساب المذاهب الأخرى. ومنذ الحقبة الاستعمارية تحوّلت النظرة إلى التاريخ الثقافي من جديد بسبب نزعة الهيمنة الاستعمارية ومحاولة إلحاق تاريخ الجزائر بالتاريخ الروماني القديم لتبرير الهيمنة الاستعمارية. نزعة استعمارية تحاول إلحاق تاريخ الجزائر بتاريخ أجنبي لتبرير الاحتلال وتأكيد هيمنة قوى سياسية منقوصة الشرعية. وفي الوقت الحالي يجري التركيز على مراحل تاريخية معينة (الفترة العثمانية والاحتلال) للرد على تلك النزعات الاستعمارية وهو في رأي خطأ ناتج عن نظرة قاصرة. فالرد على النزعة الاستعمارية ينبغي أن يكون بإبراز الجزائر التاريخية بكل مرحلها وليس اجتزاء مقاطع معينة. ولعلّ مهمة المثقفين الأساسية هي العمل على استيعاب تنوّع التاريخ واكتشاف ذلك التنوع الذي جعل للجزائر مكانة في مراحل التاريخ المختلفة بدلا من التقوقع في خانات محدودة. وعلى العموم مازلنا في مرحلة اكتشاف المشكلة وعلينا ألا نسارع إلى توصيفها وتصنيفها والحكم عليها. نحن في حاجة إلى اكتشاف مشكلات تاريخنا بمعزل عن «العقد» المستعصية الثلاث: عقدة التاريخ الفينيقي-القرطاجني-الروماني في القديم وعقدة التاريخ المشرقي في العصر الوسيط وعقدة الاستعمار في التاريخ الحديث. بناء المستقبل يتطلّب التحرّر من عقد الماضي.

-   بلغت المشكلة أوجّها عندما أصبحت ثقافتنا تتنّكر لبعض الرموز الكبيرة، وأصبحت شعوب أخرى تدّعي انتساب تلك الرموز إليها، وأوصى بعضهم بدفنه بعيدا، لماذا هذه القسوة المبالغ فيها؟
  لعلكّ تشير إلى حالة الراحل محمد أركون الذي أوصى ـ حسب عائلته - بدفنه في بلد زوجته التي لقي لديها العناية والرعاية. هي حالة شخصية بطبيعة الحال لكنها مؤشر قوي على الأثر الذي يتركه الإهمال المتعمد أو غير المتعمد الذي يعامل به أبناء الجزائر من قبل سلطات ثقافية لا تهتم بالثقافة قد اهتمامها بالريع وبتوزيعه على الموالين للسلطة. رد فعل إنساني بسيط على مشكلة مستعصية في السياسات الثقافية وهي تسلّط البيروقراطية على منابع الريع وتحكمها في توزيع الموارد حسب الرؤية الضيقة للمسؤول المباشر في غياب المثقفين. بدلا من استشارتهم في كيفية إدارة الشأن الثقافي يتمّ الرد عليهم من قبل مسؤولين بيروقراطيين ينظرون للثقافة على أنها استهلاك للموارد وعبء على المزانية التي وضعت بين أيديهم لاستثمارها في الثقافة وإنتاج الرموز الثقافية الوطنية وتغذيتها وترويجها. فليست الثقافة هي التي تتنكّر للرموز بل عن السلطات الثقافية هي التي تخلت عن واجبها في رعاية الرموز الوطنية والوضعية في تفاقم مستمر. هناك من المثقفين والمبدعين الآن من يعاني العوز والمرض ولكن عفته تمنعه من مدّ يده لطلب العون. وقد سمعت لنا تحركاتنا ونشاطنا في إطار بيت الشعر الجزائري بالتعرّف على وضعيات مؤلمة نحاول معاجلتها بإمكانياتنا لكن الوضعية أكبر من أن تعالجها جمعية ثقافية وقد حاولنا تقديم بعض الحالات لكن هيهات. الخطاب الثقافي السياسي يمجّد المثقفين والمبدعين ويبشر بعهد الاستثمار الثقافي وهو أمر جيد. لكن نخشى أن يكون ذلك مؤشرا على تخلي السلطات عن تكفلها بالجوانب الاجتماعية، خاصة وأن السلطات الثقافية تعاني من تصلب في المفاصل التنفيذية. هذه الوضعية هي التي أنتجب القسوة ويترتب عنها رد الفعل السلبي الذي يشير إليه السؤال.

-   يعتقد البعض أن المشكلة تتجاوز الجزائر إلى منطقة شمال إفريقيا عموما، حيث «ينقطع السند» في كل مرة فلا يكاد الخلف يعرف شيئا عن سلفه ويضطر في كل مرة للبداية من الصفر؟
  لعلّ الأمر يعود إلى العلاقة بين مراكز الأحداث التاريخية وأطرافها. فمنطقة شمال إفريقيا والمغرب العربي وقعت بين مراكز حضارية قوية تغيرت عبر التاريخ لكنها ظلت مسرحا للتفاعلات الثقافية وكانت دائما في مهبّ رياح حضارية متضادة حسب التسمية بين الغرب والشرق وبين الشمال والجنوب. وكانت في كثير من الأحيان موضوع بحث يقوم به الآخر. ونعتقد أنه آن الأون لكي تنهض هذه المنطقة بالبحث في تاريخها وتشكّل رؤيتها الخاصة التي تحمل عبقرية أبنائها وتكشف وجها الحضاري العريق.
-   هل لعبت مشكلة التبعية الثقافية للمركز في المشرق تارة والمركز الأوربي تارة أخرى دورا في هذه المأساة؟
  لعلّ المشكلة تعود أساسا إلى التبعية. التبعية في الرؤية أحيانا وفي الولاء السياسي والفكر أو المذهبي أحيانا أخرى. فالنخب المتنفذة تكيف رؤيتها وفقا لمصالحها وتستجيب لداعي المصلحة أو لداعي الضغوط الظرفية أو بسبب قصور النظرة فيترتب عن ذلك كوارث في السياسات الثقافية وما ينجر عنها من إهمال لحقب تاريخية على حساب حقب أخرى وهو أحد أشكال البتر الثقافي الذي أشار إليه السؤال الأول. يكفي أن نشير إلى أننا لحدّ الآن لا نملك خرائط ثقافية حقيقية لتوزيع الأنواع الثقافية والفنية، لكن وسائل الإعلام الرسمية تمعن في فرض أشكال وتعابير ثقافية من المشرق أحيانا ومن الغرب أحيانا أخرى في حين لا تجد الأشكال والتعابير الثقافية تلك السهولة واليسر في الاستقبال. كانت إحدى الممثلات المشرقيات تتلقى العناية من مسؤول جزائري رفيع المستوى في حين جاءت عازفة إمزاد العالمية شاتيما رفقة الشاعر محمد عجلة عميد شعراء إيموهاغ فلم نجد من يستقبلها في التلفزيون الجزائري. وقد أحدثنا ضجة في حينه وأمام المسؤولين لكي يقدموا لها فنجان قهوة. رفضت طبعا لأنها تفضل الشاي. لو كانت راقصة شرقية لكانوا يعرفون مسبقا ماذا تلبس وماذا تأكل وماذا تشرب. للتبعية أشكال خطيرة حقا.
-   عند الكشف عن موطن الإنسان الأول على هذه الأرض استبشر البعض خيرا بتغيير للخارطة الثقافية، لكن الأمر لفّه النسيان بسرعة، هل النسيان هو قدرنا؟
  فعلا كان ذلك الاكتشاف فتحا جديدا بالنسبة للبحث العلمي وبالنسبة لتاريخ الإنسان. وقد لقي ترحيبا على النطاق العالمي في الأوساط العلمية والثقافية. لكن تعاطي الإعلامي الوطني كان قاصرا بسبب أن الاكتشاف لا يدخل ضمن اجندة الأحداث ذلت الأولوية الإعلامية. في بعض الحالات تضيع الأحداث الثقافية التأسيسية ضمن ضجيج القنوات وعجيج الآلات. نحن في حاجة إلى إعادة النظر في الخارطة الإعلامية بإعطاء أهمية أكبر للإعلام الثقافي. هناك حاجة ملحة إلى تغيير الأولويات الإعلامية من أجل خدمة صورة الجزائر.
- هل تعتقد أن المشكلة مزمنة أم أن الزمن الرقمي الجديد سيغيّر كثيرا من الحقائق؟
  الزمن الرقمي جاء بالكثير من الإيجابيات. أهمها أنه أتاح وسائل بحث جديدة لمن يريد الاطلاع وبناء حقائق وفقا لرؤى جديدة. من هنا نأمل أن يأتي الأمل. الحاجات الثقافية التي تمّ تأجيلها طويلا ستجد طرقا للبحث عن تلبية ملائمة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024