«كلما فرغ الحارس بوخبزة من التزاماته أتى إليّ؛ وبينما أنا مشغول بإصلاح أحذية زبائني وترقيعها، يجلس هو على الدكّة إلى جانبي. وما إن يبسط أمامه رجليه الطويلتين اللتين تشبهان الهاشي أو زوج الأعواد الصينية التي تستعمل في الأكل حتى ينطلق يروي لي جملة سخافاته أو حكاياته العجيبة التي لا تنضب.
مدّعيا أنه جاب الأصقاع والأمصار كلها. وهو منذ عهدته حارسا لفيلا السيدة فوفا، وكان قد بدأ الخدمة فيها كما أشهد، منذ سنين طويلة نسيت عدّها، لم تكن له من عادة غير الجلوس إلى جانبي، فلا يكاد يفارقني إلا لشغل أو لضرورة، كأن تمنحه السيدة قائمة بالمشتريات، وتلزمه باقتناء ما جاء فيها من حاجات، والعودة بها إلى البيت، حتى إذا فعل وجدها في انتظاره.
يخبرني كيف تقابله السيدة، وقد شبكت يديها في زنّارها، مثيرة لديه حنقا، يجاهد كل مرّة في كبته، فلا يعلنه. وإن كنت أدري، وبحكم معرفتي الوثيقة به أنه سيستنفد قريبا كل قدرة له على التحمل، فلا يعود يستوعب المزيد من وجع الدماغ. وحقا، بدأت أقلق بشأنه لما لاحظته عليه في الآونة الأخيرة من توتر وإرهاق، تكشف عنه الأنفاس التي يطلقها، وما يعقبها من لهاث. وأخشى أن يرتكب في النهاية، جناية يُلوّث بها يديه، في حق هذه القذارة التي تدفع له كل أوّل شهر راتبا ضحلا يشبه الصدقة، وبالكاد يُخرس تذمره لأيام معدودة.
كلما أفرد أمامها أكياسا لا حصر لها، مملوءة باللحوم على كافة أشكالها وأنواعها، وبمختلف صنوف الفاكهة المستوردة، وبالخضروات الموسمية، والناضجة في غير موسمها، وبالعجائن والمصبرات، والمطهرات ومواد الغسيل والتلميع، وبالحلويات يحرص على اقتنائها، وكما أوصى، من محلات مشهورة في المدينة، معروفة بأسعارها الغالية، فلا يطرقها إلا علّية القوم، ودون أن ينسى معلبات من نوع خاص هي طعام للكلاب والقطط، ويظهر أن السيدة تربي عددا منها، لتملأ عليها أوقات فراغها وتسليها، فلا تشرد أو تقنط أو تفكر في الخيانة إذا ما جالت بخاطرها؛ إلا ووجدها تهتف فيه:
ـ أنت، عليك أن تنتظر. لا يمكنك الانصراف الآن!....