في العام الثاني من عموم انتشار وباء كوفيد19، يفقد الوسط العلمي والثقافي مرة أخرى اسما من اسمائه البارزة على المستوى العربي، وينطفئ مصباح آخر من مصابيح العلم.. الدكتور أحمد فوزي الهيب الحلبي.
استيقظت كلية اللغة العربية وآدابها واللغات الشرقية بجامعة الجزائر 2، على نبأ وفاة العالم والمحقق الكبير الدكتور أحمد فوزي الهيب الحلبي، الأستاذ بقسم اللغة العربية وآدابها، والمقيم بالجزائر منذ بضع سنوات..
كان الدكتور أحمد الهيب قد استقرّ بالجزائر بعد عقود من الرحلة والدراسة والتعليم بعدة دول عربية، بداية من بلده: سوريا، ومرورا بالكويت ومصر والسعودية. ثم التحق بهيئة التدريس بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر، حيث عمل أستاذا محاضرا ومكوّنا لدفعات من الطلاب والباحثين، وخصوصا في ميدان إحياء التراث وتحقيق المخطوطات، وهو الميدان الذي عرف الفقيد بنشاطه العلمي الكبير فيه، ولمع اسمه إلى جانب أسماء كبار المحققين، ولا سيما في التحقيق الأدبي والتاريخي..
وقد كان وقع خبر وفاة الدكتور أحمد الهيب صادما لزملائه وطلابه في مختلف الأطوار الجامعية، والذين عرفوه عالما كبيرا وباحثا دقيقا، وعرفوه كذلك رجلا ودودا وذا سمات وأخلاق عالية، مما جعله محلّ تقدير وإكبار من قبل جميع المنتسبين للأسرة الجامعية. وعلى قدر هذه المنزلة في قلوب الزملاء والطلاب كانت صدمتهم بخبر الوفاة، حيث لم يستطع المقربون من الفقيد إخفاء فجيعتهم بهذا الرحيل المفاجئ للأستاذ، وذلك عقب مواراته الثرى بمقبرة سيدي امحمد ببلدية بوزريعة، ظهر يوم السبت الـ 16 جانفي الماضي.
حضر جنازته وفدٌ رسمي من الجامعة ممثلٌ في: عميد الكلية الأستاذ الدكتور علاوي حميد؛ ورئيس المجلس العلمي للكلية الأستاذ الدكتور وحيد بن بوعزيز؛ والأمين السابق لجامعة الجزائر ورئيس مخبر اللسانيات التطبيقية الأستاذ الدكتور سيدي محمد بوعياد وجمعٌ من الأساتذة والباحثين والطلبة. إضافة لأهل الفقيد وبعض أبناء الجالية السورية بالجزائر. وقام بتأبينه الشيخ الإمام الدكتور رضا غمور والشيخ الدكتور أمين قادري الذي قال: «إن أمثال هذا الرجل الذي واريناه التراب اليوم يذكرنا بمصيبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك لأنه لم يكن رجلا كأحد الناس وإنما كان رجلا من العلماء، والعلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وان من عهد الله علينا أن نمضي في السبيل الذي مضى فيه هذا الرجل، فنستمسك بعهد العلم الذي تركنا عليه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والذي جاهد فيه هذا الرجل وأمثاله حتى لقوا الله على الصدق وعلى البر، وإننا إذ نعزي أهله فإننا له أهل، وإذ نعزي أولاده فإننا له أولاد، فقد رأينا منه انه كان في العلم قامة وفي الأدب آية، ما رأينا مثله رحمه الله نسال الله أن يرحمه ويرفع درجاته في عليين وأن يلحقه بإخوانه من العلماء والصالحين...».
تمتد مسيرة الفقيد العلمية على قرابة نصف قرن من البحث والعطاء، حيث نال شهادة اللغة العربية بجامعة حلب سنة 1970، ثم دبلوم الدراسات العليا بجامعة الإسكندرية سنة 1972، فالماجيستير بالجامعة نفسها سنة 1976، وبعدها الدكتوراه بدرجة الشرف الأولى سنة 1983
حاضر ودرس في مختلف جامعات الوطن العربي بمصر وسوريا والكويت والسعودية ثم الجزائر.
ألّف أكثر من عشرين كتابا بين تأليف فردي ومشترك وتحقيق.. ويكفي ذكرا أنه حقق جزءا من تاريخ دمشق لابن عساكر والدر المنتخب في تكملة تاريخ حلب في ستة مجلدات وديوان ابن الوردي وكتاب العروض لابن جني وغيرها من دواوين وكتب ورسائل تراثية لغوية وأدبية.
نشر أكثر من مئة بحث ومحاضرة في أكثر من عشرين مجلة دولية وعربية واكثر من عشر مؤتمرات دولية واكثر من 30 ملتقى وندوة محلية وعربية.
ناقش وأشرف على العشرات من رسائل وأطروحات علمية وأدبية في مختلف الجامعات التي عمل بها.
كان لسنوات عضوا للكثير من الإتحادات الأدبية واللجان التنظيمية والعلمية للمؤتمرات والندوات العالمية وكذا عضوا في لجان التحكيم للكثير من مسابقات الشعر والقصة والكتاب في الكويت والسعودية وسوريا.
له ارتباط وثيق بالشعر العربي دراسة وتحقيقا وتحكيما فكان له نصيب من نظمه أيضا في قصائد جميلة تم نشرها في مختلف المجلات والصحف العربية.
شارك في الكثير من الندوات الإذاعية والمقابلات للمتلفزة بالكويت وسورية.
تم تكريمه في جامعات الجزائر والكويت وحلب وجامعة الإمام..
هذا الزخم العلمي والأدبي المتراكم على مر العقود الخمسة التي أمضاها في خدمة اللغة العربية وتراثها يضاف إليها ما عُرف عنه من أدبه الجم وتواضعه الجلي وأخلاقه السمحة
وقد أوصى قبل وفاته أن يُدفَن بالجزائر دون تكلف عناء الرحلة إلى حلب، فكان له ما أراد واحتضنته أرض الشهداء الطاهرة لتكرّر قصة الأمير عبد القادر الجزائري بصورة معكوسة.
وقد رثاه الشاعر أحمد سعدون بقصيدة يقول فيها:
أهدَتْ لنا شهباؤنا حلبٌ
مِن دُرِّها والدُّرُّ يُنتَخَبُ
بَدرًا تلألأَ في جزائِرِنا
عِلمًا وهالةُ نُورِه الأدبُ
بحرًا تلاطَمَ مَوجُهُ ورَقًا
خُطَّتْ بهِ الأسفارُ والكُتُبُ
بَذرًا بأنفُسِنَا مغارسُهُ
وقِطافُها الأقمارُ والشُّهبُ
هل غابَ عنّا صُبحُ طلعتِهِ
إذ أظلَمَتْ مِن حولِنَا الحُجُبُ
أم بان مِنَّا نُورُ بَسمتِه
فغَدَت عن الأغرابِ تنتقبُ
أم منْ نَعاهُ نعاهُ مُرتَعِشًا
إذ قالَها والقلبُ يَنتَحبُ
فَتَداخَلَتْ أصواتُه وَبَدَتْ
ألفاظُه كالسيلِ يَضطربُ
فتَصامَمَتْ أسماعُنا طمَعًا
في أنّ قَولتَهُ هُنا كَذِبُ
لكنّهُ أمرُ الإلهِ ألا
تبكي على أولادِها العرَبُ
حلبٌ ستسألنا وديعتَها
أنقولُ قد أَودَتْ بها التُّرَبُ
بل ضُمِّخَتْ بنجيعِ ثَورتِنا
وثَوى مع الشُّهداءِ مُغترِبُ
الهيبُ في الأكفانِ مُنطرِحٌ
والهيبَةُ الشَّماءُ تنتصِبُ
ما مات في الأحياءِ عالِمُهُمْ
أتموتُ أمْ نَحيى بها السُّحبُ