لا تختزل الكلمات مسافة الزمن ولا تقربها وتستحضرها سوى الذاكرة التي تأبى أن تكون وفية إلا لشخوص ومواقف مميزة، كذلك كان حضور الفنان والمذيع الراحل سعيد بوعقة، فقيد الأغنية الصحراوية الأصيلة فريدا ومميزا في ذاكرة الجيل المخضرم بمدينة تقرت.
الفنان سعيد بوعقة الذي رحل في سن مبكرة وظل أثره عالقا في الذاكرة الجماعية لأهل المنطقة الذين لم يترددوا جيلا بعد جيل في استذكار وتناقل مآثر الرجل الذي أفنى جلّ عمره في الذود عن الثقافة المحلية بملامحها الجزائرية إبان التواجد الفرنسي وإلى غاية السنوات الأولى من جزائر ما بعد الاستقلال.
وكان الراحل شخصية مؤثرة ولا زال أثرها باديا من خلال ما نقل عن أفواه الكثير ممن عاصروه ويُجمع كثير من المهتمين بتاريخه أن سعيد بوعقة لعب دورا مميزا، أسهم فيه بتفان وجدّية في النهوض بالثقافة المحلية خلال تلك الفترة وتكللت معظم مشاركاته الفنية والثقافية في اللقاءات والمهرجانات الوطنية بالنجاح، ما جعله يحظى باهتمام واسع وكبير من طرف مسؤولي الإعلام والثقافة.
جمع سعيد بوعقة بين عمله كمُسيّر ومذيع بالإذاعة المحلية الواحات بمدينة تقرت التي كانت تعتبر من بين أحد ثلاث محطات أنشئت في الجنوب الجزائري خلال العهد الاستعماري من جهة وكفنان من الطراز الأول من جهة ثانية .. كما تألق الفقيد في عديد الفنون آنذاك كالفلكلور، المسرح، الفن الشعبي وحتى الأغنية العصرية التي واكب مسارها بمشاركة وحضور ألمع المطربين والمطربات في الحقبة الممتدة ما بين 1959 إلى 1970.
نشأته ومولده:
في بيت متواضع بالحي الشعبي العتيق مستاوة ولد سعيد في وسط عائلة متوسطة الحال من أب عامل يومي يُجد لكسب قوت يومه من تجارة الحبوب كالقمح والشعير في ساحة المسجد العتيق، أما والدته فكانت تعمل كدلالة تجوب الأزقة وشوارع المدينة حاملة على عاتقها صرّة ملابس وأغراض نسائية وأخرى للأطفال، وهي تحاول جهدها بيع أكثر القطع للكسب أكثر.
في ذلك الجو تربى سعيد مولعا، منذ صغره، بالفن فكان يصنع نايا من القصب ويظل يترنم ببعض الألحان الشعبية التي كان يسمعها في الأعراس وكان ذا حس مرهف جدا، كما عرف عن سعيد أنه كان بشوشا طيبا، كريما، مضيافا لا يرد سائلا ولا طالبا للمساعدة.
أما بالنسبة لدراسته فقد تلقى تعليمه بالفرنسية في مدارس المعمرين آنذاك، لكن لم يستمر طويلا فيها، حيث خرج إلى الحياة العملية ليساهم في إعالة أسرته فعمل في بعض الشركات الموجودة في تلك الفترة منها شركة النقل البري تحت إدارة دفيك وكان يجيد الطبخ الذي برع فيه بمهارة، إذ يشهد له بعض رفاقه منهم خليفة بغوري بجودة الطهي فلم يكن هناك أحد يتولى ذلك غيره، خاصة في خرجاتهم وجولاتهم التي كانوا ينظمونها من حين إلى آخر.
ساهمت ألحانه في الحفاظ على الثقافة المحلية
وعلى الرغم من أن المهتمين بتاريخ الفنان الراحل كثُر وقد شارك كل من عرفوه وأحبوه في جمعه، إلا أن من بين المهتمين الذين تحدثوا لـ»الشعب» كان علي بادة وهو من المتابعين والمهتمين بتاريخ المنطقة والشخصيات المؤثرة التي تركت بصمة في تاريخها، كما أجرى بحثا وزار العديد من المحطات التي مر منها الراحل والتقى العديد ممن عرفهم رفقة أعضاء النادي المدرسي الذي أسسه ويذكر المتحدث أن الفنان الراحل سعيد بوعقة لم ينل حقه من الاهتمام رغم ما قدمه من تراث يستحق التثمين، فضلا عن نضاله في وجه المستعمر للحفاظ على الثقافة المحلية والهوية الوطنية سواء من خلال ما قدمه من أعمال فنية طربية أو مسرحية أو حتى خلال مساره في محطة الواحات الإذاعية بتقرت.
ويقول علي بادة أن الراحل بوعقة نشأ مولعا بالطرب وكان لديه استعدادا تلقائيا لخوض غمار التجربة الفنية ودخول عالم الطرب ورغم كل الصعوبات التي تواجه المبتدئين في هذا المجال، إلا أنه سرعان ما تألق في الساحة الفنية موسيقيا ومؤلفا وملحنا لكل الأغاني التي أداها، والتي تغنى فيها بالجمال وبطبيعة المنطقة وبالنخلة التي خلدها في كل أعماله، كما كانت كل ألحانه جزائرية أصيلة ذات طابع صحراوي مميز.
ويقول محمد الأخضر سعداوي وهو من بين المهتمين بتاريخ الراحل سعيد بوعقة أنه كان رحمة الله عليه معروفا بالحياء وحنو القلب والعطف على المحتاج والتواضع الشديد، كما أنه كان يلبي دعوة الجميع لإقامة السهرات الفنية وإن كان الداعي فقيرا، هادئا ورزينا رزانة فنه وإبداعه الذي لا يزال يتردد في واحات الجهة وفي ذاكرة الجيل الذي عايشه.
وأعرب المتحدث عن تأسفه لبقاء هذه الشخصية الثقافية في الظل لعقود، حيث ولا مؤسسة أو هيكل حمل اسمه رغم كل ما قدمه في مجال النضال الثقافي للحفاظ على الشخصية المحلية بهويتها الوطنية.
وذكر محدثنا أن من بين ما تركه الراحل كراسة دوّن عليها أغانيه التي ألّفها بنفسه ولحنها وغناها وقد كتبها على الكراسة بحروف فرنسية وسماها trésor (mon ) أي «كنزي»، مضيفا أن هذا الكنز ظل ضائعا إلى أن نظمنا لأول مرة لقاء إحياء لذكراه عام 2007، حيث عثرنا على الكراسة وسلمناها للأسرة، كما جمعنا عددا من رفاقه وأفراد أسرته وقد غنوا جميعا أغانيه من جديد حينذاك، كان النشاط من تنظيم نادي اليراع للفكر والإبداع بدار الشباب خير الدين وقد كنت رئيس النادي آنذاك.
وذكر ابن الراحل جمال بوعقة في حديث لـ»الشعب ويكاند» أنه اهتم كذلك بالفنون الأخرى مثل المسرح والتمثيل فقد عرفت تلك الحقبة ازدهارا ثقافيا وفكريا لا مثيل له بالمنطقة، حيث كانت تقام مهرجانات ولقاءات فنية وثقافية يشارك فيها ألمع نجوم الفن والمسرح حتى من دول الجوار كالشقيقة تونس وكان لحضور الفنانين أثر مميز لدى المجتمع بكل طبقاته، إذ كان المتتبعون لمسار الفنون يتهافتون على قاعات العرض للاستمتاع بما كانت تجود به قرائح المطربين والمطربات، كما كان يحضر الحفلات الموسيقية، الحضرة، الطبل والغيطة وقد كوّن «فرقة الرجاء» رفقة مجموعة مميزة من الموسيقيين، منهم: مختار بوعزيز المعروف مختار حشيشة، خليفة باغوري، صاحب الناي الحزين، العايش الدبة على الإيقاع، أحمد جلابي الدوس، محمد مولاي، محمد مهاني المدعو حمى قمو...وآخرون كما شكل كذلك كورال بنات وكورال رجال كانوا يرددون وراءه مقاطع من كلمات أغانيه التي كان يؤلفها من نظمه وتلحينه وأدائه وكانت البروفة تتم داخل أستوديو الإذاعة ومن بينها أغنية «عيشة الفلاح»، «يا عذابي نايا»، «يالغادي لتقرت»، «وعلاش يا غزالي»، «حرمتني ياما»، «يا طير يا طاير» وأوبريت عيد النخلة التي أقيمت بقاعة الحفلات ببلدية تقرت وكانت من أروع أعماله.
وذكر أنه خلال الخمسينيات كان الاستعمار قد أنشأ محطة إذاعية بتقرت (إذاعة الواحات) يسيرها تقنيون فرنسيون وفقا لبرامج استعمارية محضة، لكن سرعان ما أثبت بعض رجال المنطقة أنهم قادرون على تسييرها كذلك، وكان من أبرزهم سعيد بوعقة الذي تقلد منصب مدير الإذاعة فيما بعد الاستقلال وظل يقدم عدة برامج فيها كبرامج الأطفال والفرق الفلكلورية وإهداء الأغاني ...هذه البرامج التي كانت تجمع العائلات في المنطقة خلال ساعات بثها وارتبط عمله بالضبط التقني وتقديم المادة الإعلامية، وهذا ما أكسبه خبرة مهنية عالية في هندسة الصوت والإخراج والتسجيل، بمساعدة التقنيين ومنهم: إسماعيل بورنان، كما تمكن هؤلاء من جعل هذه المحطة الإذاعية الصوت الناطق بالثقافة المحلية، حتى أضحت متنفسا للمجتمع المحلي من خلال ما تقدمه من برامج، خاصة ما تعلق بنقل اللقاءات الفنية إلى الإعلانات بشتى أنواعها (نتائج امتحانات، مفقودات،...) إلى بث الأغاني المحلية، إلى وصلات الطبل والغيطة...بالإضافة إلى حصص ثقافية كان يعدها بعض من نوابغ تقرت كالشيخ علي كافي وآخرين.
أما بالنسبة لعلاقات الفنان سعيد بوعقة مع المجتمع فقد كانت علاقات جد طيبة، تميز بحسن الخلق وطيب المعاملة تجاه كل من يقابله، كان كريما لم يرد أحدا قصده في خدمة ما...كان يمضي جل وقته في إعداد وتحسين البرامج التي تبث عبر أمواج إذاعة تقرت، كما أنه لم يكن يتأخر عمن يطلبه لإحياء فرح أو مناسبة عائلية.
وكان فقيد الأغنية التقرتية والصحراوية حريصا في نشاطه الفني على تشجيع الحركة الفنية المحلية والسعي لتطويرها وإطلاق العنان للإبداع في مجال الغناء والطرب والموسيقى كما كان يرّحب بكل المواهب الشابة التي تريد شق طريقها في عالم الطرب فكان يلقن دروسا وتدريبات كي يعطي للراغبين نفسا جديدا يدفعهم لمواصلة مسارهم.
من أمواج الإذاعة إلى صفحات الفيسبوك
والحقيقة أن هذه الشخصية لم تكن عادية على الأقل بحسب ما تناقله سكان هذه المنطقة عرفانا لشخصه، حتى أن حضورها متواصل من أيام إذاعة تقرت إلى صفحات الفيس بوك التي لا يذكر في منشور منها الفنان الراحل سعيد بوعقة أو ينشر فيديو لأحد أغانيه أو صور له رفقة أعضاء الفرق الموسيقية التي نشط فيها حتى يضج بالتعليقات التي تجمع على مقدار الحب والاحترام الكبيرين الذي يكنه أهل المنطقة للراحل.
ولعل بقاء صورة سعيد بوعقة وصوته في ذاكرة من عاصروه يعد امتدادا لقوة عزيمة وإصرار الرجل على الوصول، فتعلق هذه الشخصية بالفن والموسيقى والتشبث بإيصال كلماته المحلية البحتة والمعبرة عن الطبيعة الصحراوية والثقافة المحلية الأصيلة على غرار ما ردده في أغنية عيشة الفلاح التي تمجد النخلة وتتغنى بالفلاح توحي بشجاعة وجرأة كبيرة في مواجهة أي محاولات لتغيير ملامح خصوصية وهوية الثقافة المحلية وحتى على صعيد مواكبة ديناميكية الحركة الفنية والموسيقية في العالم والعالم العربي خاصة خلال سنوات الخمسينات والستينات.
ولازالت الكثير من الأغاني التي قدمها أمام الجمهور وألحانها عالقة إلى الآن في الأذهان كأغنية (قولو للوخية) و(يالغادي لتقرت) و(عيشة الفلاح) وغيرها، كما رددها الكثير من المغنين المحليين من بعده لتصبح أحد أبرز علامات الأغنية التراثية المحلية.
هذا وتذكر الكثير من الروايات أنه في خريف العام 1973 اشتد عليه المرض فدخل المستشفى، حيث مكث هناك تحت العلاج لأكثر من ثلاثة أشهر إلى أن وافته المنية في بداية العام 1974 ليغادر الوجود عن عمر يناهز 41 سنة، تاركا وراءه منتوجا فنيا مازال في حاجة للإضاءة ومسارا فنيا يستحق التثمين ويستدعي من الجهات المعنية الاهتمام بمساهمات الفنانين المحليين وإحصاء وحفظ ما قدموه حفاظا على الإرث الفني الوطني والالتفات إلى هذه الأسماء التي ظلت لامعة في الأذهان رغم انطفاء شمعة عمرها منذ عقود، إلا أن فنّها ظلّ مضيئا في الذاكرة الجماعية للمجتمعات المحلية وكانت من بين الشخصيات المؤثرة ومازالت سيرتها تردد حتى في منصات التواصل الاجتماعي رغم أن زمنها غير هذا الزمن.