الباحث فارح مسرحـي لـ «الشعـب ويكاند»:

أقسـام الفلسفـة لدينــا تفتقــر للقـادرين علـى الإبـداع

حوار: الخير شوار

تعداد الجامعيّين عندنا يتعدّى سكان كثير من الدول

بعض الأساتذة لا تتاح لهم فرصة الظهور إعلاميا

ما تزال طريقة تدريس مادة الفلسفة تثير الجدل، رغم «الأجيال المتعاقبة» من الإصلاحات التي زادت الأمر تعقيدا.
في هذا الحوار، نحاول الإحاطة بالموضوع مع واحد من أبرز الباحثين، وهو الدكتور فارح مدرسي، أستاذ الفلسفة بجامعة باتنة والباحث في التاريخ الثقافي صاحب الإصدارات الكثيرة في المجال، والفائز قبل سنين بجائزة محمد أركون العالمية للسلام.

- الشعب ويكاند: دوّنت مرّة تتساءل: «لماذا يلعن الجامعيون الجامعة الجزائرية؟»، أين مصدر الداء إذا جاءت «اللعنة» من الداخل؟
  الدكتور فارح مسرحي: فعلا، نشرت تلك المقالة القصيرة حول مسألة لعن الجامعيين للجامعة، وهي، في الحقيقة، رد فعل تجاه بعض الأصوات المنتمية للجامعة، والتي تعبر عن تذمّرها الشديد من أوضاع هذه المؤسسة، بعبارات وصيغ مستهجنة، ومستهجن أيضا، أن تصدر عن جامعيين، على شاكلة «الرداءة، الوضع الكارثي، التعفن...، متناسين أنهم أبناء هذه الجامعة التي يصفونها بهكذا أوصاف، وهي التي أوصلتهم لما هم فيه وعليه، وأنهم أيضا، مسؤولون بصفة أو بأخرى عن قسط مما هي عليه، ومن ثم يكون المنتظر منهم تقديم الحلول والإسهام بما يساعد على تحسين الوضع، لا التفنن في القدح والذم واللعن..، أن تشعل شمعة أفضل من أن تلعن الظلام. ضف إلى ذلك أن الوضع ليس كله قاتما، يمكن النظر إلى نصف الكأس المملوء، في الجامعة الجزائرية طاقات - أساتذة وطلبة - تشتغل بكل جد، وكسبت الاعتراف حتى على المستوى الدولي.
أما عن سؤالكم حول مصدر الداء، فأعتقد أن الجامعة ليست جزيرة معزولة عن غيرها، حتى ننتظر منها أن تكون جمهورية فاضلة، وأن يكون كل شيء فيها إيجابيا، حال الجامعة من حال الدولة والمجتمع، لأنها بنية مرتبطة ببنيات أخرى كثيرة من خلال شبكة علاقات معقّدة جدا، وما يحدث فيها لا تتحكم فيه المعطيات الداخلية للجامعة من تسيير وتكوين وتأطير فقط، بل إن ما تعيشه هو منتوج تراكمات تاريخية صنعتها مواقف وخيارات سياسية بالدرجة الأولى، ثم ظروف اجتماعية واقتصادية وثقافية بالدرجة الثانية، لا ننسى أن تعداد الأسرة الجامعية في الجزائر يتعدى تعداد سكان كثير من الدول في العالم، وهذا كاف لتوقع الصعوبات التي تعيشها...ثم لنتساءل بكل عفوية ما هو القطاع الخالي من النقائص أو المشاكل أو الذي يسير في وضع جيد على الأقل حتى تكون الجامعة مثله؟ كل القطاعات تعاني وبها نقائص وبحاجة إلى إصلاح وتطوير..

-   بعيدا عن «ثقافة اللعن» كما تسميها، كيف نشخّص الداء الذي يبدو أنه سيقود إلى «جدل بيزنطي» بخصوص علاقة الجامعة بالمجتمع؟
  من الصعب جدا تشخيص الوضع أو مكامن الداء في المؤسسة الجامعية، وكما أشرت فيما سبق فهي بنية - بها عناصر عديدة مرتبطة بعلاقات معقدة فيما بينها - متصلة ببنيات أخرى عبر شبكة علاقات معقدة جدا كعلاقات المؤسسة بالوصاية بمختلف مديرياتها، أو علاقات الجامعة بالمحيط ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وليس في وسع أي شخص مهما كان متخصّصا أن يشخّص الوضع، فتلك مهمة تحتاج للجان متعدّدة ومشتركة من ذوي الكفاءة والخبرة، توفر لها كل الإمكانيات والتسهيلات، وتشتغل لمدة زمنية كافية حتى تستطيع رصد مكامن الداء باستشارة الفاعلين من القاعدة إلى القمة، وبالاستفادة من تجارب الآخرين على المستوى الدولي، يمكنها أن تقدم حلولا لما تعانيه الجامعة من مشكلات، وتبقى هذه الحلول التي لا تخرج عن معادلة الحقوق والواجبات، فلو حصل الكل على أكبر قدر من حقوقه، وقام بأكبر قدر من واجباته لتحلحلت الأمور نحو الأفضل، وطبعا تبقى هذه الحلول قابلة للإثراء والتعديل دوما وفقا للمستجدات وبحثا عن تحسين الأوضاع ورفع المستوى.

-   وماذا عن تدريس الفلسفة، هل أصبحنا نحنّ إلى «النظام الكلاسيكي» في وقت أصبح المتخرّجون في المجال لا يمتلكون أبجديات التفكير السليم إلا في حالات نادرة؟
 حاولت من خلال كتابي الفلسفة في الجزائر: الدرس والنص الصادر عام 2018 عن منشورات الوطن اليوم، أن أشخّص بعض العوائق التي تعترض تدريس الفلسفة في الجزائر، واقترحت بعض الآليات التي أراها تسهم في تغيير الأوضاع نحو الأحسن، ولا بأس أن أذكر ببعضها إجابة عن سؤالكم، أولى مشكلات الفلسفة إذا تجاوزنا سمعتها السيئة لدى قطاع واسع من المجتمع، كونها المادة الوحيدة التي يتأخر تدريسها حتى السنة الثانية ثانوي للأدبيين، والسنة النهائية للشعب الأخرى، إذ يصطدم بها التلاميذ في الفترة التي يكون كل تركيزهم منصبا على شهادة الباكالوريا، وهذا يصعب من استيعاب المضامين الفلسفية للبرنامج على أحسن وجه، مما يجعل الاهتمام بالتوجه لدراسة الفلسفة في الجامعة من قبل العلميين أو شعبة الرياضيات أمرا نادرا جدا، مع أن تاريخ الفلسفة يؤكد أن كبار الفلاسفة وصانعي المنعطفات الكبرى كان تكوينهم القاعدي علميا أو رياضيا وكثير منهم كانوا علماء قبل أن يصبحوا فلاسفة، وبالتالي فأقسام الفلسفة لدينا تفتقر للقادرين على الإبداع أصلا.
المشكلة الثانية: تتعلق بالنظام الجديد، نظام: «ل - م - د»، هذا النظام الذي قيل في تقييمه الكثير طبعا، ومن خلال تجربتنا نلاحظ أن وضع الفلسفة في هذا النظام غير ملائم، ففي البداية أدرجت ضمن العلوم الإنسانية، ثم تم تحويلها إلى العلوم الاجتماعية، وكلاهما لا يضمن تكوينا ذا بال للطالب الذي يتوجه للفلسفة، وفي اعتقادي، الوضع الملائم هو استحداث جذع مشترك خاص بالفلسفة بمختلف فروعها ومباحثها يوجه إليه الحائزون على الباكالوريا مباشرة ثم يتم تفريعهم في السنة الثانية نحو التخصصات الفلسفية حسب ميولهم واهتماماتهم، بهذه الطريقة يستفيد طالب الفلسفة من السنة الأولى كتكوين قاعدي يدرس فيه المداخل التاريخية والمباحث الكبرى للفلسفة، ثم يختار التخصص الدقيق الذي يرغب فيه فيما بعد ليحصل على تكوين كاف في الليسانس ثم يتوجه إلى التخصص في الماستر والتخصص الدقيق في الدكتوراه. سبق لي وأن شاركت في اجتماع بيداغوجي بجامعة وهران شهر جويلية عام 2007 بحضور رئيس اللجنة الوطنية البيداغوجية للفلسفة وممثل عن الوزارة الوصية وبعض رؤساء أقسام الفلسفة على المستوى الوطني، وأعددنا مشروعا يتضمّن ليسانس فلسفة بداية من السنة الأولى، ويضمن تكوينا شاملا للطلبة يغطي أكبر قدر ممكن ممّا يحتاجه طالب الفلسفة من معارف، غير أن هذا المشروع لم يعتمد، ولست أدري أسباب التخلي عنه...

-   كثير من المتخصّصين الجدد في الفلسفة يفتقرون إلى ثقافة شمولية، هل قضى التخصص الضيق على ما تبقى من التفلسف؟
 ليتنا كنّا متخصّصين فعلا...الطبيب لا يكون مختصا حتى يكون طبيبا عاما، فكذلك الأمر بالنسبة للفلسفة إذ لا يكون المشتغل بها مختصا فعلا - مع عدم ارتياحي لهذه الكلمة أصلا - إلا إذا كان متحكما بصورة كبيرة في تاريخ الفلسفة وأعلامها، عارفا بمباحثها وبمفاهيمها، مطلعا على مذاهبها وإشكالياتها..إلخ. هذا ما لا يحصله الباحث إلا بعد مرور مدة لا تقل عن عقدين أو ثلاثة من الدراسة المستمرة الجادة...، نحن بعيدون جدا عن فكرة التخصص لدرجة أن الباحثين الذين يمكن وصفهم بالمختصين دون حرج يعدون على أصابع اليد.
لنكن متواضعين وصادقين؛ نحن بالكاد ندرس تاريخ الفلسفة، وأي تاريخ للفلسفة؟ إنه تاريخ متقطع، مبتور منه الكثير..وهذا لا يسمح بالحديث عن الثقافة الشاملة فما بالك بالحديث عن التخصص.
- وهل ساهمت النظرة الدينية للفلسفة والمفلسفين في تدهور تدريس المادة التي كانت رائدة في زمن سابق؟
 دعنا نستحضر التمييز الضروري بين الدين والتدين، وبين الفلسفة والتفلسف، الدين لم يكن يوما ضد الفلسفة، ولا الفلسفة كانت ضد الدين، كل ما هنالك من عداوات وصراعات وسوء تفاهمات كانت نتيجة تأويل معين للنص الديني من قبل بعض المتدينين، وهذا لم يلغ تأويلات أخرى مختلفة عن التأويل السابق لدى متدينين آخرين، أو نتيجة ممارسة معينة للتفلسف من قبل بعض المتفلسفة، والذي لا يلغي طرقا أخرى للتفلسف المختلف عن الطريقة الأولى، لذلك فالمسألة نسبية جدا، بل ويمكن القول إنها شخصية، بمعنى أنها مرتبطة بعلاقة أستاذ الفلسفة بالدين أو بتدينه ونظرته الخاصة، ومن ثم قد تجد أساتذة كان لنمط تدينهم أثرا سلبيا على طريقة تدريسهم للفلسفة، على أن تدهور تدريس مادة الفلسفة لا يمكن حصره في هذا النفق الضيق جدا، لأنه مرتبط بالدرجة الأولى بتكوين الأستاذ وجديته ونظرته لوظيفته، ثم بظروف العمل والإمكانيات المتوفرة بالمؤسسة، ومرتبط أيضا بمستوى الطالب وإرادته وظروفه ثم الإمكانيات المتوفرة لديه، ونظرته لتخصصه، وماذا يريد أن يحققه من هذا التكوين؟

-   على ذكر علاقة الفلسفة بالدين، هناك ظاهرة جزائرية، كثير من المتخصصين الروّاد في الميدان تحوّلوا إلى الدعوة الدينية (الربيع ميمون، الشيخ بوعمران، عبد الرزاق قسوم وغيرهم)، كيف تفسّر ذلك؟
  برأيي الخاص، لا يتعلق الأمر كما وصفت بالتحول من الفلسفة إلى الدعوة الدينية، إنما يمكن فهم هذه الظاهرة -إذا اعتبرناها ظاهرة - بالعودة إلى التاريخ والتكوين الأولي لهؤلاء الذين ذكرتهم، ويمكن أن تضيف لهم أسماء أخرى طبعا، جل هؤلاء أنجزوا أطروحاتهم بعد استرجاع الاستقلال، ونحن نعلم ما قام به الاستعمار من محاولات طمس ومسخ وتشويه للهوية الوطنية ولعناصرها، وأغلب هؤلاء عايش هذه الممارسات الاستعمارية وعانى منها بصورة مباشرة، فكان مبررا جدا أن يطغى موضوع إبراز الهوية الوطنية وعناصرها من لغة ودين وتاريخ على أعمال هؤلاء الباحثين الأوائل بعد الاستقلال مباشرة، فاشتغل أغلبهم على موضوعات في الفكر الإسلامي، وعلى فلاسفة أو علماء كلام مسلمين: المعتزلة، ابن رشد، ابن عربي، ابن خلدون، الأمير عبد القادر..وغيرهم، وحتى المشتغلين في أطروحاتهم بموضوعات في الفلسفة الغربية - المرحوم الربيع ميمون مثلا - لم يغب عنهم هذا التوجه أو رد الفعل ضد الممارسات الاستعمارية. وهذا الاهتمام لا يقتصر على المشتغلين بالفلسفة فقط، ستجده بسهولة لدى الكثير من المؤرخين والأدباء الذين دشنوا مسيرة البحث العلمي في الجزائر المستقلة، بقي فقط أن نشير إلى مسألة مهمة والتي جعلتني أتحفظ عن وصف هؤلاء بالظاهرة، وهي أنه مثلما نقرأ في مجال الأدب عن أسماء مكرسة دون غيرها، ففي الفلسفة أيضا هناك بعض الأسماء المكرسة دون غيرها، فبعض الأسماء ممن ذكرت وأسماء أخرى طبعا، تظهر وكأنها ممثلة للقول الفلسفي في الجزائر محتكرة للحديث باسم الفلسفة، مع أن الأمر ليس أكثر من قربها من دوائر السلطة والإعلام طبعا، لاسيما الذين تبوّؤوا مناصب في المجلس الإسلامي الأعلى وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والحقيقة أن هناك أساتذة فلسفة اشتغلوا ويشتغلون بقضايا فلسفية بحتة، ولكن، لسبب أو لآخر، لا تتاح لهم فرصة الظهور إعلاميا..

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024