صنيعة استعمارية أم إيديولوجيا..؟
أحد الزملاء والأصدقاء الأعزّاء، نشر بحسابه ضمن شبكات التواصل الاجتماعي، صور الثلاثي الفائز بأعلى معدلات بكالوريا 2020، وكانت صورا جميلة تبعث على الفخر والأمل بمستقبل زاهر بحول الله. من ضمن ملاحظات الزميل، أن الثلاثي الفائز هذا العام (وكل عام) يبدو حسن التربية والأخلاق ويتحدّث بلغة عربية سليمة، مواظب على قراءة القرآن وأداء فريضة الصلاة، مظهره عادي ولباسه محتشم غير ممزق وغير فاضح، وأبعد ما يكون عن صرخات المودة والتحليقات الشيطانية التي تثير جنون الإنسان العاقل حين يراها..
وثمّن الزميل من جهة ثانية ثناء الثلاثي الذهبي، على وسائل التواصل الاجتماعي التي سهّلت عليه مهام البحث والاطلاع على سبل التحصيل الحديثة عبر مختلف دول العالم.
في محيطنا العائلي، كنّا نرى ونسمع دائما أن أحسن المعدلات ينالها حسن الخلق والسلوك، وخاصة أولئك الذين يحفظون أجزاء من القران الكريم ويهتمون بالرياضة والأدب والأنشطة الثقافية المفيدة..
وقبل أيام استضافت إحدى قنوات التلفزيون الأستاذة (الدالية) متخصّصة في علوم التربية والتكوين. وصراحة بدا لي من شكلها وبداية حديثها، الذي تشبه نبراته حديث الخواجات في مصر، أن أطروحاتها تشبه أطروحات الوزيرة السابقة بن غبريط ومثيلاتها، لكنها فاجأتني عندما بدأت بلوم المسؤولين السابقين على التربية لعدم اهتمامهم بتحفيظ الأطفال، ما قبل المدرسة، القرآن الكريم والشعر الفصيح. وتأسّفت لتخلينا عن ابن المقفع وحكايات «كليلة ودمنة» الجميلة..
وما زادني اقتناعا، أنها ربطت كلامها بالتوجيهات العلمية الحديثة، التي تنص على ضرورة تقوية وتكثيف ثقافة للطفل، أو كما قالت بالتدقيق (ضرورة إعطائه ثقافة قوية ومكثفة)، خاصة القصة والشعر والألوان الأدبية الأخرى، لأنها توسّع مدارك الطفل وتعوده على الحفظ والاستيعاب، قائلة: «ينبغي أن يقرأ الطفل يوميا قصة واحدة على الأقل ويسمع «محاجية» أو حكاية ويتعلم خمس مفردات جديدة..»، مؤكدة من جانب آخر أن الطفل لا ينبغي أن يحبس بين جدران البيت والمدرسة، بل أن محيطه المريح والمناسب هو الفضاء المفتوح..
علّموه القرآن لن يتطرّف ولن يتخلّف
ذكّرني كلام الأستاذة بتلك الأجواء التربوية والثقافية التي كانت سائدة في السبعينات، عندما كان تلميذ المتوسط والثانوي (زيادة على حفظه أجزاء من القرآن الكريم)، يحفظ عشرات القصائد ويشارك أسبوعيا في مسابقات شعرية ينظمها التلاميذ بينهم في مواضيع الغزل وحب الوطن والدين والحكمة، إضافة إلى الأنشودة والمسرح والموسيقى والرسم..
وأشارت الأستاذة المتخصصة، في نهاية حديثها، إلى أن هذه الخلاصات التي تحدّثت عنها، تضمنتها وثيقة «الأهداف العلمية العالمية للتربية»، التي أعلنت عنها تسع دول، منها روسيا ودول أوروبية بداية الألفية الثالثة، وهي أهداف علمية ثابتة ليست محل مساومة سياسية ولا «إصلاح»..
هذه المناهج وهذه الحقائق عاشها جيلنا ويعرف أبعادها. وسواء كان الدافع لذلك خلقي أم تربوي أم علمي، فان النتائج الجيدة كانت ملحوظة في مستوى الإطارات التي تخرّجت من المدرسة الجزائرية سنوات السبعينات والثمانينات، حيث كان الصحافي والطبيب والمهندس الجزائري مطلوبا في فرنسا وبلدان الخليج وغيرها، ومبجّلا على غيره من الجنسيات...
والحمد لله أن جاء التأكيد من علميين متخصّصين، بما يفيد أن حفظ القرآن والحديث النبوي والشعر وألوان الآداب العربية وغير العربية، يُنمّي عقل التلميذ ويُكسبه قدرة على الاستيعاب ولا يجعله متخلّفا متحجّرا متطرّفا، كما يزعم البعض منهم...
بل يمكن أن نسمح لأنفسنا التأكيد على حقيقة علمية أخرى، وهي أن الذي يتربى منذ الصغر على حفظ القرآن وتعاليم الإسلام السمحة، لا يمكن أن تجرفه تيارات التغريب المتطرفة ولا الجماعات الإسلامية التكفيرية، لأنه متشبع ومدرك لتعاليم دينه الحقيقية، ولا يصدق كل ما يقال له هكذا. وحتى وإن وقع في بعض الغلط لسبب آو لآخر، سرعان ما يستدرك الأمر ويعود إلى جادة الصواب. حينما يتحرر من تلك الأوساط والأجواء التي تحاصره..
وقفنا على هذه الحقيقة مع بروز التيارات الدينية المتطرفة نهاية الثمانيات، حيث ضمّت في أغلبها عناصر لم تنشأ على تعاليم الدين والثقافة الإسلامية والعالمية الراقية، أو عناصر تعيش وضعا اجتماعيا صعبا يبعث على الإحباط والقنوط، فكانت هذه الجماعات بالنسبة لها فرصة لإثبات شيء ما على المستوى الشخصي، وفرصة كذلك للانتقام من الوضع الاجتماعي الذي لم يرأف بها..
..إذا أنت متطرّف
ومع الأسف فإن مسؤولين، عن جهل أو لحاجة في نفس يعقوب، اعتمدوا مبدأ الإقصاء السياسي وتعمّدوا «محاربة» التطرف بالتطرف، فاعتبر كل مواظب على الصلاة، مساندا للإرهاب أو على الأقل لا يؤتمن جانبه، وهو من «المجتمع غير المفيد».
وكل من ينطق كلمة بالفرنسية ويتفاخر بسب الدين علنا ويُدمن الكحول والتعري والتقليد الأعمى، اعتُبر تقدميا علمانيا، بل هو وطني من «المجتمع المفيد».
وانسحب هذا الحكم الخاطئ والمُهلك على محتوى التربية والإعلام والثقافة، حيث حذفت أو قلّص حجم بعض المواد المرتبطة بالانتماء الحضاري، ومنعت صحف من الصدور وعُلقت أخرى، لأنها لا تعادي الدين أو ذات محتوى ثقافي ورؤية سياسية مختلفة..وشجّعت نقيضتها من صحف الإقصاء والتغريب، في الوقت الذي كان ينبغي الإبقاء على الأولى لأنها تملك القدرة للرد على مزاعم المتطرفين ومقارعتهم بالحجة، ودعوة الثانية لعدم اعتماد خطاب تغريبي لائكي إقصائي متطرّف مستفز ومؤجّج وجارح..
والنتيجة أن دفعت البلاد ما دفعت من ثمن باهظ، ومازلنا إلى اليوم لم نخرج من النفق الذي أدخلونا فيه..
ومع الأسف فإن العداء للإسلام والعربية غالبا ما تلازمه مداهنة وملاطفة للاستعمار ولغته، بل إنه غالبا ما يستشهد بهما عندما يتحدث هؤلاء عن التقدم والعصرنة والديمقراطية.. ومثل هذه الطروحات سبق للشعب الجزائري أن عرفها حينما شنّ الاستعمار الفرنسي هجوماته العنيفة على الإسلام واللغة العربية، محاولا القضاء عليهما أو تسفيههما وإفراغهما من محتواهما الحضاري، باعتبارهما ركيزتين أساسيتين للشخصية الجزائرية، وباعتبارهما عنوانا للتميز بين فرنسا والجزائر. ولذلك فالمتحاملين على الإسلام والعربية في الجزائر والمغرب وتونس، إنما يتحاملون عليهما باعتبارهما هوية وانتماء حضاريا وليس موقفا إيديولوجيا على غرار المذاهب المادية الشيوعية منها والعلمانية، فهم لا يزعجهم إسلام الطرقية والرقية والشعوذة ولا الزوايا (ليس كُلّهم) التي قبلت الاستعمار وتعاملت معه، وهم لا يعادون لا المسيحية ولا حتى الطقوس والسلوكات المتخلفة والبدائية الأخرى، بل إن هؤلاء لا يتوانون في التخلي عن شيء اسمه الجزائر مقابل القضاء على العربية والإسلام فيها، ولا يجدون حرجا في الاندماج مع المجتمع الفرنسي، الذي سيلفُضُهم في النهاية، مهما حاولوا التزلف والذوبان فيه.
إنّ المذهب المادي وتفرعاته العلمانية قد يتعارض، افتراضا، مع الدين والغيبيات والخلقيات، وليس اللغة وإلا لاستبدل لينين اللغة الروسية، لغة القياصرة والإقطاع، بلغة أخرى.
ومن هنا جاز الاعتقاد أن معاداة الإسلام والعربية اليوم هو صنيعة فرنسية استعمارية وتبعية، قبل أي شيء آخر..
إن معالجة تعقيدات الواقع وملابسات الموروث الحضاري، ينبغي أن تكون ضمن إطار علمي وفكري بحت، والحوار والنقاش المتخصص كفيل بتحقيق الراحة النفسية والتكافل الاجتماعي، وتحرير قدرات الفرد المرتهنة بظروف وواقع متأزم وغامض..أما محاولة إسقاط قناعة ذاتية إيديولوجية على المجموعة بالقوة أو بالتضليل، فسيعرض المجهود التربوي والتنموي لهزات متتالية، وسيحدث خللا وانقطاعا في مسار التنمية، يعيدانه إلى نقطة البداية.
نتمنى أن تكون «الجزائر الجديدة» تحت رئاسة السيد تبون، قد تجاوزت هده الاختلالات وأسقطت من قاموسها مصطلحات الإقصاء والتهميش والإبعاد، وبالأخص حماية منظومة التربية والتكوين من عقد البعض وتطرفهم وجهلهم للدين أو استغلاله للأغراض السياسية، وكذلك الشأن بالنسبة للذين يتحسّسون من الحديث عن الانتماء الحضاري إلى درجة معاداة الإسلام والعربية جهرا وابتداع «وطنية» جديدة..تماما كـ «الإسلام» و»الوطنيات»، التي عادت الحركة الوطنية المنادية للاستقلال ولم تعاد الاستعمار، إلى أن جاء سيل الثورة فجرف (..) وبقي ما ينفع الوطن.
إنّ الإسلام والعربية والأمازيعية، معالم ثابتة في تاريخنا وقيم مغروسة في قلوبنا وعقولنا، ولا يمكن أن تكون عائقا أمام تطور الجزائريين وتقدّمهم، مثلما لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقتلعها لا رياح التغريب ولا بقايا الاستعمار، التي تتخذ من مثل هذه القضايا وسيلة لتفتيت المجتمع وتأجيج الصراع فيه.
كما أن الديمقراطية والحرية والعدالة، هي منهاجنا كجزائريين نعيشُ عصرنا، ولا يمكن أن نتخلى عنه لأنه السبيل الوحيد، الذي سارت عليه الشعوب المتطورة وحقّقت الرخاء والرفاهية.