ما تزال هذه السنة الاستثنائية تصيبنا في المقتل..فبعد أسماء عديدة فقدناها، أضيف اسم آخر إلى قائمة الراحلين: البروفيسور علي الكنز، عالم الاجتماع الجزائري الفذّ، الذي عُرف عنه إنتاجه الغزير، ورؤيته النقدية، ومساءلته للواقع. ونحاول في هذه السانحة، العودة إلى بعض النقاط التي تطرّق إليها في مناسبات مختلفة، مركّزين على قراءته للوضع الدولي، قبل سنوات مضت، ومحاولته استشراف مآلات هذا الوضع، استشرافا مبنيا على استجواب الميدان بمختلف أدوات البحث العلمي.
أثار رحيل الكنز أسفا وألمًا شديدين في أوساط المثقفين الجزائريين، ومنهم من سارع إلى استحضار لقاءاته معه، أو نصوص كتبها عنه، وجمع بين هذه الشهادات إلمام الرجل بأكثر من مجال، بتفكير نقدي صريح، وبقاء على المبادئ.
فضّل مقعد الجامعة على مقاعد المسؤولية
من بين هؤلاء الأستاذ بجامعة عنابة أحمد شنيقي، الذي وصف علي الكنز بـ «عالم الاجتماع العظيم»، و»الرجل العظيم بأتمّ معنى الكلمة»، وبأنه «رجل مبادئ» و»اهتمّ بكلّ شيء». وأضاف شنيقي أن الراحل، بعد التدريس في الجزائر العاصمة وتكوين عدد كبير من الطلاب، غادر البلاد في تسعينيات القرن الماضي للتدريس في تونس، ثم في جامعة نانت الفرنسية، وكان يعتبر من أفضل أساتذة هذه المؤسسة الجامعية. وتأسف شنيقي لكونه لم يلتقِ الفقيد منذ 1994 بتونس.
وعاد شنيقي، في منشور على صفحته الخاصة، إلى نصّ سبق وأن كتبه عن الراحل، قال فيه «إن ذكر علي الكنز يعني بالضرورة أن نتحدث عن تجارب «المثقفين» الجزائريين، عن رحلتهم، عن الأشياء الجميلة وأيضًا عن الأشياء غير الجيدة. علي هو أحد أولئك الذين يعرفون ما يفعلونه، وإلى أين يتجهون».
ويؤكّد شنيقي على أنّ «الكنز هو رجل مبدأ، ولديه أفكار وآراء قوية حول أشياء هذا العالم، تحمّل التزامه تجاه اليسار في عالم يتكاثر فيه الإنكار، كما أن عالم الاجتماع اللامع هذا، يكاد يتطرق إلى كل شيء: الأدب، والسينما، والسياسة..وهذا ما يصنع تفرّد هذا الرجل الذي غادر الجزائر، رغما عنه، إلى تونس قبل أن يستقر في فرنسا، في جامعة نانت. صاحب ثقافة عظيمة، وقادر على التحدث عن الأدب أو السينما أو عن مسقط رأسه، سكيكدة، الكنز الذي يحب غرامشي بشكل خاص لا يبدو أسيرًا في هذا التصنيف دون فارق بسيط بين «المثقف العضوي» أو «التقليدي».
هذا المفكر الحر، حتى لو بدا أكثر فأكثر حذرا، يخاطر بتجاوز الخطاب السائد من خلال نشر نصوص ليست محافظة إلى حدّ بعيد، مثل النص المفتاحي، «اقتصاد الجزائر»، الذي نشره موقع ماسبيرو، مستخدمًا الاسم المستعار «طاهر بن حورية»، وهو ليس الأول، فقد سبق له وأن كتب تحت توقيع «حسين لطفي»، وهو لقب آخر، سمح لقراء «آلجيري أكتواليتي» في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، بالسفر في عوالم المعرفة والمؤلفين الكبار.
ونقل شنيقي، مستدلا على أن الكنز لم يكن مهتما بالحقائب الوزارية ومناصب المسؤولية، ما قاله له الفقيد ذات يوم: «لم أكن أبدًا مهتمًا أو معجبًا بمناصب المسؤولية، أعتقد أن ما يجب أن يثير اهتمام الباحث هو استجواب الميدان، وليس مقاعد السلطة السياسية».
حذّر من أطماع الليبرالية الجديدة
«العلاقات الأوربية العربية، قراءة عربية نقدية»، هو عنوان الكتاب الذي ساهم فيه علي الكنز رفقة المفكر والمنظر سمير أمين، ومنير الحمش ومصطفى الجمال. وقد جاء هذا الإصدار ثمرة مجهود مركز البحوث العربية والأفريقية، بالتعاون مع منتدى العالم الثالث بدكار، ومنتدى البدائل العالمي بدكار، حيث التقى مثقفون بمقر المركز في أفريل 2001 بالقاهرة، من أجل مناقشة «علاقة العرب بالغرب»، وتقديم قراءة نقدية لهذه العلاقة.
وحين الاطلاع على مساهمة الكنز، التي تصدّرت فصول الكتاب وكان عنوانها «المشروع الأورو-متوسطي بين الواقع والخيال»، وجدتُ هذه المساهمة (باحتساب الجداول والمرفقات) تتربّع على 85 صفحة (من الصفحة 7 إلى الصفحة 92)، فيما يقارب عدد صفحات الكتاب 150 صفحة، ما يعني أن مساهمة علي الكنز في مادة هذا العمل الجماعي تجاوزت النصف، وهو دليل آخر على قدرة الراحل التحليلية، ونظرته الشاملة و»البانورامية»، وتمكّنه من الإلمام بمختلف الأدوات النقدية.
في هذه المساهمة، حذّر علي الكنز من الخصخصة (أو الخوصصة) التي تحولت إلى «عملية تفكيك للقطاع العام، والاستيلاء عليه لحساب جماعة المنتفعين من السلطة». ورأى الكنز أن ما يحدث إثر ذلك هو «التوزيع بـ «العدل» حسب التركيبة التاريخية لكل بلد بين العائلات الحاكمة والعشائر والجماعات والعصب، ويتبع بكل وضوح خطوط الرتب الظاهر منها والمخفي».
سنة 2001، كان علي الكنز يتحدّث عن الجزائر محذّرا من الانغماس في «دوائر الأعمال»، و»المافيا السياسية والمالية»، كما حذّر من «القطاع الفردي» في مصر، ورأى بأن «العملية هي ذاتها في كلّ مكان»، وأن ذلك مرتبط ارتباطا وثيقا مساعي دول الاتحاد الأوروبي، ومؤسسات بريتون وودز، وبين عملية الخصخصة هذه.
بل وذهب علي الكنز حينها إلى اعتبار مسار برشلونة «عملية إفساد» للفئات الحاكمة التي ينتظر منها الانخراط أكثر فأكثر في مفهوم الليبرالية الجديدة، بتوقيع اتفاقيات الشراكة، و»المالكون الجدد، غير الأكفاء والكسالى، سوف يبيعون»، كما أن «المعارضة الإيديولوجية السابقة لم تظهر (...) وأثبتت الرأسمالية مرة أخرى أنها تعمل بكفاءة أكبر عندما تختفي الإيديولوجية».
وتساءل علي الكنز في هذا العمل عن نصيب أبناء الطبقات الشعبية من هذه الصفقات، خصوصا وأن الإصلاحات ستجرّها إلى الأسفل لا محالة، وخلص إلى كون السياسة الأورومتوسطية الجديدة (الجديدة حينها) «لا تترك أي مخرج من التدهور الكبير والمستمر لمستوى معيشتهم غير الحلول الفردية».
الرّبيع العربي «خديعة»
كان علي الكنز، خلال قراءاته للأوضاع الدولية، يجهر بأفكاره المناهضة لمحاولات التفتيت والتقسيم والتدخل في شؤون الدول.
ومن الأمثلة عن ذلك، نستشهد هنا بتصريحاته قبل ست سنوات لجريدة «الجمهورية» (التي توفّي مؤخرا مديرها السابق الصديق والزميل في «الشعب» مختار سعيدي)، حينما اعتبر علي الكنز أن الثورات الشعبية التي شهدتها بعض الدول العربية، لم تكن منتظرة أن تصل إلى هذا المستوى من العنف والسرعة في التطور، وربط بين قيادات بعض هذه الدول ومسار برشلونة، الذي سبق وأن عارضه علي الكنز كما رأينا.
وأكّد الكنز أن «العراب الحقيقي» لما يعرف إعلاميا بـ «الربيع العربي»، هو الفرنسي برنارد هنري ليفي، لهذا استغل هذا الحراك الذي ظهر في مصر، تونس، ليبيا، وحتى سوريا، لتحقيق أهداف ومخططات تخريبية وتدميرية، وتفجير وتقسيم هذه الدول العربية من الداخل، مشيرا إلى أن الثورات الشعبية كانت منتظرة ومتوقعة في نظر العديد من الخبراء والمحللين السياسيين، ولكن ليس بهذا الدمار، العنف، الإرهاب والتخريب الذي طال هذه الدول.
واعتبر الكنز حينها أن الربيع العربي انحرف عن مساره وطريقه الصحيح، بتدخل من القوى الكبرى وقوى إقليمية، بدعم أطراف معينة ضد أطراف أخرى مناهضة للصهيونية في منطقة الشرق الأوسط، ممّا نجم عنه ظهور حركات إسلامية متطرّفة، تحت غطاء ما يسمى بالسلفية الجهادية، مع التخوّف من عودة الكثير من الإرهابيين الذي يقاتلون في سوريا والعراق إلى بلدانهم الأصلية.
وذهب إلى القول إن الحرب على سوريا مؤامرة هدفها تدمير هذا البلد، تماما مثلما تمّ تدمير العراق في السابق، ولو كانت الفرصة مواتية لتمّ تدمير الجزائر كذلك، «لهذا يجب العمل على إفشال هذه الرهانات والحسابات الغربية الخطيرة، التي تهدف في الأساس إلى تدمير وتقسيم جميع الدول العربية، ضمن ما يعرف بالفوضى الخلاقة».
ورأى حينها أن عدم وصول الربيع العربي إلى بلدنا راجع إلى وعي الشعب الجزائري الذي اجتاز ربيعه في 1989، وأنه لا يرغب في عودة مشاهد العنف والدم التي عرفتها تلك الحقبة السوداء من تاريخنا، وأن الاستقرار والأمن ضروري في مثل هذا الظرف. واعتبر أن مسار وتاريخ العنف في الجزائر، إذا أردنا تحديده بصفة دقيقة، عائد «إلى الحقبة الاستعمارية البغيضة لبلدنا، لاسيما مجازر 8 ماي 1945، التي عرفت استشهاد أكثر من 45 ألف شخص، ومن ثمة فإن الغالبية العظمى من الجزائريين، لا ترغب في رؤية وطنهم يصاب من جديد بفتنة الإرهاب والقتل الوحشيين، وأنهم يبحثون اليوم، عن الأمان، والاستقرار والعيش الكريم».
وشدّد علي الكنز على ضرورة تشكيل «جبهة مقاومة» عربية عربية، لمواجهة هذه المؤامرات الغربية الخطيرة، «وإلا فإنّنا سنلقى مصيرا مجهولا وغامضا»، قد يكون نسخة طبق الأصل لاتفاقية سايكس بيكو 1916 أو وعد بلفور 1917.