وقفتُ مطوّلا عند صورة تجمع فقيدي الأغنية الجزائرية، حمدي بناني المتوفى الأسبوع الماضي، وإيدير الذي سبقه إلى بارئه، وكلاهما ممّن فقدنا في هذه السنة الكئيبة. وقفتُ مطوّلا عندها، لا لحزنٍ دفين ــــ وكلنا حزانى على رحيل أيّ فنان ــــ ولا لاستغراب أو تعجّب، فعظماء الفنّ الجزائري لهم من الأخلاق والاحترام المتبادل ما يعرفه الجميع، وإنما لخوفٍ تملّكني وأنا أشاهدها: من يا تُرى، بعد هؤلاء، نستخلفه على الفنّ الجزائري؟
شاءت الأقدار أن يخطِف الفيروس اللعين شيخا من شيوخ المألوف والموسيقى الجزائرية الأصيلة، شيخٌ بعث الشباب في موسيقانا التقليدية، وجمع بين الثنائية المتنافرة عادة: الأصالة والمعاصرة. وقد أُرفِق مقالي عن الراحل حمدي بناني بصورة جمعتْ بينه وبين راحل آخر: إيدير، الذي بعث هو الآخر روحا جديدة في ترانيم أعالي جرجرة، وارتقى بالثقافة الجزائرية الأمازيغية إلى مصافّ العالمية.
وقفتُ مطوّلا عند هذه الصورة، التي التقطها، ببراعته وحرفيته المعهودة، الزميل المصوّر عباس تيليوة، حين تغطيتنا قبل سنوات تظاهرة لمكافحة القرصنة نظمها ديوان حقوق المؤلف والحقوق المجاورة. صورةٌ ديناميكية، نرى فيها منبت حركة عناق بين الاثنين، فيها من البهجة والترحاب والاحترام ما يجعلنا نبتسم، وينسينا حزن فراق هذين الفنانيْن.
وقفتُ مطوّلا عند هذه الصورة، وحزّ في نفسي الفراغ الذي تركه أمثالُ هؤلاء العمالقة في رفوف مكتبتنا الثقافية، وأكثر من ذلك مخافة من، وكيف، سيخلفهم و»يستولي» على مكانهم في الواجهة، ويشكّل الضمير الجمعي الجديد و»الذائقة الفنية» للجمهور.
شاءت الأقدار أيضا أن أكتب هذه السطور بالتوازي مع ذكرى اغتيال حسني شقرون.. وقبل أيام كنت أشاهد فيديو آخر ظهور للفنان الراقي كمال مسعودي.. مثالان آخران للفنان الجزائري المختلف.. المتفرّد.. للشاب الجزائري الذي يملك موهبة دفينة، لا تنتظر سوى الظهور.. وما أكثر الأمثلة من هذا القبيل..
الاستراتيجية الغائبة
لطالما قلنا، وردّدنا، إننا لا نملك إستراتيجية واضحة المعالم، تمكّننا من تحقيق التواصل والاستمرارية، وضمان الخليفة المُقتدر، ليس في الثقافة فقط، بل في مختلف المجالات.. في الفكر، والرياضة، بل وحتّى السياسة، وإنّ هذا لأمرٌ جلل، يؤدّي إلى تراجع المستوى العام، وبالتالي مستوى الأهداف والتوّقعات.
لنأخذ مثال الشاب مامي، الذي تعرّض لعثرة في مساره الفنيّ، ولكن لم يجد تلك الآلة التي تقف وراءه، وتعيده إلى الواجهة، لا بالخطابات الرنانة والوعود البرّاقة، ولا ببعض الحفلات في قاعات متعدّدة الرياضات، وإنما باستغلال صورة هذا الفنان، الذي وصل العالمية، وغنّى في حفل «السوبر بول» بالولايات المتحدة، الحفل الذي يدفع فنانون من أجل الغناء فيه لما له من نسبة مشاهدة ومتابعة عالية.
بالمقابل، أكرّر ما قلته دائما، وهو أن نجومنا أيضا لم تقم بالضرورة بكلّ ما عليها، إذ لم نرَ نجما من نجومنا العالميين يقدّم فنانا أو فرقة جزائرية في حفل من حفلاته، وهو ما يفعله العديد من الفنانين عبر العالم، لأسباب مختلفة.
لم نرَ نجما من نجومنا يجعل من نفسه عرّابا لشباب يلمس فيهم الموهبة والاقتدار الإبداعي، وفي عالم الفنّ، يصعبُ جدّا أن تصنع لنفسك اسما وسط الاكتظاظ الذي سببه الإعلام وضخّمته وسائل التواصل بآلتها الترويجية الضبابية المعالم.
صناعة النجوم
ليس مفهوم «نظام النجوم star-system» مفهوما جديدا علينا، ويُعزى ظهوره بشكل أساسي إلى هوليوود وآلتها الترويجية، ويمكن تعريفه على أنه طريقة عمل الأنشطة مثل السينما والموسيقى والأدب وحتى السياسة، عندما يتم تنظيم هذه الأنشطة حول سمعة النجم وصيته.
تطرّق عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران إلى مفهوم النجومية بتفصيل كبير، في كتابه «النجوم» (صدرت ترجمته إلى العربية تحت عنوان: «نجوم السينما»).
بدأ موران الاشتغال على هذه الظاهرة في خمسينيات القرن الماضي، وحاول في كتابه «النجوم» تتبع ولادة ونشأة النجم السينمائي في هوليوود من حيث الصناعة والتطور، والتنافس بين شركات الإنتاج السينمائي، بما لذلك من سمات رأسمالية، ما عجّل تدريجيا من وتيرة احتكار الشركات الكبرى للنجوم الكبار.
وفي مقدمة الطبعة الثالثة من كتابه (1972)، اعتبر أن «النجوم كائنات تنتسب إلى البشري والرمزي في آن، وتشبه في بعض سماتها أبطال الأساطير أو آلهة الأولمب، مستثيرة نوعاً من العبادة، بل نوعاً من الدين».
صُمّمت صناعة النجم للتأثير في الحياة اليومية والأنماط الاستهلاكية، وجعلت الرأسمالية الفنان مادة أولية لسلعها، وفي هذا يقول موران إن «طريقة عيش نجم هي في حدّ ذاتها سلعة».
كان هذا سنة 2018، أصدرت مجلة «الدوحة» عددا تحت عنوان: «لماذا يصنعون النجوم»، كتب فيه الكاتب محمد بن حمودة يقول إن وسائل الإعلام أصبحت «الجبهة الثقافية» في استصناع نجوم يقومون بتعظيم المنفعة، في ظل التحوّل إلى وسائل للتواصل، في تكنولوجيا متداخلة مع منظومات مؤسسية مما يجعلها مرتبطة بالجماعة وبنظام العلاقات، الذي يتشكل من خلال الوسيط مثل يوتيوب الذي يعني حرفيا: «أنت الأغنية». ولكن بفضل وساطة يوتيوب، يضيف بن حمودة، يصبح الفرد المنعزل نجما، أي كائنا في قلب الجماعة، والمشترك العضو الذي ينجح في استقطاب عدد غفير من المتابعين تفتح له الصفحة قناة خاصة به، وتحوّله إلى نجم حقيقي، أي إلى فاعل رمزي يتفوق في تكريس الفارق بين الجماعة في أبعادها الإقليمية والعشائرية، أي تكريس الفارق بين الجماعة الأصلية والجماعة الرقمية.
وفي هذا الصدد، نستأنس بقول إدغار موران في كتابه سالف الذكر: «لم يعد النجوم ما كانوا عليه، وليس فقط لأن نجوم الرياضة والتلفزيون وعارضات الأزياء وسيدات المجتمع صاروا جميعهم نجوماً تضاهي رموز السينما والغناء، بل كذلك لأننا إذا أخذنا بقول آندي وارهول، سنجد أن التلفزيون يحوّل كل فرد في أيامنا إلى نجم ولو لربع ساعة من حياته». يشير موران هنا إلى أثر التلفزيون، فما بالك بآثار الويب 2.0 و3.0.
قد يكون هذا الأمر ذا فائدة ومصداقية إذا كانت الشهرة على يوتيوب ضريبة نجاح فردي خالص، وفقا لمعايير واضحة، في وقت يمكن زيادة عدد المشاهدات بطرق قد تكون «ملتوية»، كما أن عدد المشاهدات لا يعبّر بالضرورة على القيمة الإبداعية لهذا العمل أو ذاك.
ولكن، هل هذه هي النجومية التي نبحث عنها؟ هل نملك أصلا آلة صناعية ومالية نروّج لسلعها اعتمادا على هذا النوع من النجوم؟ أم أننا نبحث عن قادة رأي يسهمون في مشروع مجتمع على أسس متينة؟
التنشئة هي الحلّ؟
إن الاستخلاف، الذي تحدّثنا عنه في البداية، لا يعني البحث عن استصدار صورة طبق الأصل، ولا يُلغي التفرّد والأصالة وهما شرطان أساسيان في شخصية أيّ مُبدع عبقري.. أنا هنا أتحدّث عن ضمان حدّ أدنى من القيم المشتركة، ومن المستوى الفني، وكما لا يصحّ أن نحاول استنساخ فنان ما من فنانٍ سبقه، فلكلّ أفكاره وشخصيته، لا يصحّ أيضا أن نتراجع ونقبل بما هو أقلّ قيمة وقدرا، والأصحّ هو التقدّم نحو الأمام في وتيرة تراكمية، تحافظ على ما سبق من رصيد، وتبني عليه كما يُبنى البيتُ على الأساس، وتضيف إليه رصيدا جديدا وقيمة فنية مضافة، وليس العكس.
ليست المواهب، ولا الذائقة الفنية «الفطرية» ما ينقص شبابنا، ولكن لتنمية هذه وتلك يجب العمل في سنّ مبكّرة، واكتشاف هذه المواهب وصقلها يكون في الصغر، وهذه من أكبر مهامّ التربية الفنية. من جهة أخرى، يجب توفير بيئة تمكينية، تسمح للموهبة بالظهور، ولا تئدُها في المهد، كما يحدث يوميا للأسف.. كما أن الإبداع يتطلّب تعبيرا حرّا إلى أقصى الدرجات، وكلّما ضُيّقت الحدود ضاق أفق الإبداع وأفل نجمه.. كما يتوجّب على مؤسسات التنشئة تحمّل مسؤوليتها الاجتماعية، ونشير هنا، على سبيل الذكر لا الحصر، إلى الأسرة، والمدرسة، ووسائل الإعلام. أمّأ الثقافة، فهي نتاج المجتمع، وطالما لم نحرّر الإنتاج الثقافي من قيود الوصاية، فإننا لن نحصد سوى ثمار المناسباتية، ثمار تينع أيّاما، ثم تختفي بلا فائدة تُرجى.. ويكون ما قدّمه إيدير، وبناني، وغيرهما، قد عصفت به رياح الترقيع والارتجال..