رحل الفنان البشوش، صاحب الضحكة الدائمة.. رحل حمدي بناني، مروّض الألحان ومطرب الآذان.. رحل وهو ما يزال قادرا على العطاء، بعدما افتكّه منّا الفيروس اللعين مثلما خطف منّا عديد الأحبّاء والأخلّاء.. كان بناني صريح اللسان، قويّ البيان، مرِح الروح، حاضر المِلحة، ترتسم على فيه بسمة لا تنفض أوراقها، متهندما متأنقا كأنه مدعوّ إلى عرس لا ينتهي..
كُتب لي حظّ لقاء نجم المالوف في أكثر من مناسبة، ولعلّي أستذكر في هذه السانحة لقاءً جمعني به في نفس هذا الشهر قبل خمس سنوات بالضبط.. كانت أوّل ملاحظة لي حينها أن التعرّف على الفنان من بعيد وتمييزه عن الآخرين لم تكن أمرا عسيرا، «فهندامه الأبيض الأنيق، وكمانه الناصع البياض الذي يرافقه أينما كان، يدلان عليه بين جمع الفنانين والموسيقيين في الكواليس»..
جمع بناني بين أصالة المالوف الضارب في القٍدم، وتجديد الموسيقى التي ترفض الجمود والركود.. عرف كيف يلقّم أعمال المدرسة القديمة بلمسات حديثة، دون أن يؤثر هذا على ذاك تأثيرا ذا ضرر.. كنت قد سألت الفقيد عن هذا التجديد، وأجابني إنه قد بدأه في 1973، وأخبرني كيف كان عُرضة للانتقاد والرفض، ممّن اعتبروا أنه «فقد عقله».. كان بناني فخورا بالإضافة التي قدّمها للمالوف، ووصف ذلك بـ»ثورة موسيقية»، وكان سعيدا بكون الزمن أنصفه، وأظهر أنه هو الذي كان محقّا.
كان حمدي بناني رجل لمّ شملٍ لا تفرقة، وخلال مهرجان صيف الجزائر الموسيقي، حيث تمّ الجمع بين المدارس الثلاثة في الموسيقى المشكلة للموسيقى الكلاسيكية الجزائرية (الأندلسية)، الشرق، والوسط، والغرب، ساهم بناني في تشكيل جوق جزائري ضمّ عازفين من تلمسان، والعاصمة، وعنابة، بتعداد خمس موسيقيين من كلّ ولاية، إضافة إلى مغنّين ثلاثة من المدارس المختلفة. لم تكن مشاركة بناني في هذا المشروع تهدف إلى ترقية الموسيقى الأندلسية الأصيلة فحسب، بل كان يرمي إلى شيء آخر.. قال لي حينها إن الهدف هو «دحض الأقوال السائدة بأن المدارس المختلفة لا يمكن أن تؤدي هذا الطابع مع بعضها البعض، فالمسألة تتعلق بالتحضير والتدريب الجيد، وهي مسألة تنسيق وتوافق، كل شيء ممكن.. لقد عزفنا مع الروس والأمريكان، فما الذي يمنعنا من العزف مع الجزائريين؟ هذا مستحيل وغير مقبول».
كان هذا ديْدنَ صاحب الكمنجة البيضاء: أن يتسامح ويتآخى مع الغير، وأن يخدم المصلحة العامة، وأن يسمو بالفن ويسمو الفنّ به، وأن يترفّع عمّا يُبعد الفنّ عن رسالته الأسمى وهي المحبّة.
كما رفض بناني ذلك التنافس الخفيّ بين مالوف قسنطيني وآخر عنابي.. أذكر فيما أذكر أنه كان ضدّ «الحزازات» المزعومة بين المالوف القسنطيني والعنابي، وحينما سألته عن الأمر أجابني بأن هذه الأقوال لا يُبنى عليها، وأن من يعتقد بذلك «لا ثقافة له»، لأن المالوف «هو نفسه في المدينتين، مع الإشارة إلى أن فناني عنابة يقومون ببعض التغييرات ونفس الشيء بالنسبة لقسنطينة، ولكن الأسلوب يبقى واحدا».
بالنسبة لبناني، لا تكفي مخارج الحروف المختلفة، كالتاء التي ينطقها القسنطينيون «تساءً»، للحديث عن اختلاف بين العنابي والقسنطيني: «العنابيين عندهم بحر والقسنطينيين لا»، قال لي ممازحا، ملاحظا بأن الفنان العنابي «عصبي أكثر ويحاول فرض نفسه على الركح».
رحل الفنان الأنيق، ذي اللحن الرشيق، وترك الكمنجة البيضاء حزينة، صائمة عن الغناء.. رحمك الله أيها الفنان، وألهم ذويك ومحبّيك الصبر والسلوان..