عندما ولدت كان العام خارجا من أولى حروبه الكونية، التي لم يعمل مؤتمر فيرساي (1919) إلا على الإعداد لحرب مدمّرة أخرى كانت نهايتها قنبلة نووية. كان بلدها يرزح تحت احتلال استيطاني، كان يستعد للاحتفال بمئويته، وامتدّ بها العمر لتموت في زمن آخر تصارع فيها البشرية عدوا غير مرئي يحاول القضاء عليها. وبين الزّمنين اكتملت تجربها لتكون شاهدا استثنائيا على خراب غير عادي.
ولئن كان الانجليزي برتراد راسل (1873- 1972) شاهدا على قرن بدأ بالآلة البخارية والعربات التي تجرّها الأحصنة، وانتهى بالطائرات النفاثة والقنبلة والنووية وغزو الفضاء، وعبّر عن ذلك التحوّل في كتبه الفلسفية المتنوّعة، فإنّ نورية كانت شاهدة على عصر أكثر مأساوية وقد حرمها الاستيطان الفرنسي من نعمة القراءة والكتّابة، لكنها استطاعت أن تترك بصمتها بطريقتها الخارجية، وقد ساهمت في تأنيث المسرح الجزائري وكان حكرا على الرجال.
ولدت قبل ميلاد نجم شمال إفريقيا بسنوات، وقبل الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم في نهاية عشرينيات القرن العشرين، وعندما كان عمرها تسع سنوات احتفلت سلطات الاحتلال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، ولم تكن هي تعرف شيئا عن كل ذلك، لأنها لم تكن تكتب ولا تقرأ.
ومع بدايات الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)، دخلت الفتاة التي كانت تسمى خديجة بن عايدة إلى مدينة الجزائر لأول مرة في حياتها، ولم تغادرها بعدها إلا في حالات استثنائية حتى ظنّ البعض أنّها أصيلة القصبة أو من «الفحص» العاصمي، بعد أن تعرّفت على الفنان مصطفى قصدرلي وارتبطت به.
ورغم أنّ زوجها كان فنّانا مسرحيا وكانت له جولاته الفنية، فلم تفكّر زوجته الشابة في السير على طريقه، واكتفت بمهنة الخياطة التي كانت تتقنها، لكن سحر الخشبة جذبها من حيث كان زوجها لا يدري.
ولأنّ مصطفى قصدرلي كان فقيرا معدما وكانت فرقته الفنية المتواضعة في حاجة إلى المال مهما كان قليلا، فقد اضطر رفقة الفنانين بوعلام رايس ومصطفى بديع وغيرهم للاقتراض من تلك الخيّاطة التي استطاعت أن تدّخر مبلغا ماليا، فوافقت على الأمر شرط أن ترافقهم في جولاتهم الفنية حبا في المسرح وفي السفر إلى بعض مدن الشرق الجزائري مثل قسنطينة وسطيف التي لم تكن تعرف عنها شيئا.
ولأنّ الفرقة لم تكن فيها نساء، وكان بعضهم يلعب دور «متسوّلة» في مسرحية، جاء فكرة اقتحامها الخشبة ولعبها ذلك الدور الذي أدّته بمهارة، لفتت انتباه الجميع رغم معارضة زوجتها في البداية، ومن حينها ولدت الفنانة «نورية» بعد أن أطلق عليها مصطفى بديع وبوعلام رايس ذلك الاسم الذي ارتبط بها حتى نسي الجميع اسمها الأصلي.
وعندما اكتشفت نورية «أوبرا الجزائر» مع الفنان محيي الدين باشتارزي، لم تكن تفكّر أنّ تلك البناية الكولونيالية الجميلة التي لم يكن الجزائريون يدخلوها إلا بصفة استثنائية ستتحول إلى بيتها الثاني مع بدايات الاستقلال بعد أن أصبحت تسمى «المسرح الوطني الجزائري» الذي انضمّت إليه عند تأسيسه، وتقدّم أعمالا خالدة رفقة باشتارزي ثم الفنان مصطفى كاتب.
وما لم يكن الكثير من معارفها يتصوّره أن تلك المرأة التي لا تقرأ ولا تكتب القادمة من الهضاب العليا الغربية، والتي بدأت مسيرتها الفنية بأداء أدوار بسيطة ضمن تمثيليات و»اسكاتشات» عادية، ستكون سيدة للمسرح وتقدّم أدوارا مميزة في مسرحيات عالمية على غرار أدائها لدور مميّز في مسرحية «بيت برنادا ألبا» للشاعر الإسباني المغدور فيديريكو غارسيا لوركا.
وقبلها أبدعت في تمثيلية «أبناء القصبة» للفنانين بوعلام رايس ومصطفى بديع في صيغتها الثانية عندما تحوّلت من المسرح إلى التلفزيون بعد الاستقلال مثلما أبدعت في فيلم «الليل يخاف من الشمس» الذي كان يصوّر بشاعة الاحتلال الفرنسي.
وبعيدا عن الأدوار «الجادّة» عرف الجمهور الجزائري الواسع نورية في أدوار شعبية هزلية على غرار دورها في فيلم «خذ ما أعطاك الله» للمخرج الراحل الحاج رحيم عندما مثّلت دور أم العروس المجنونة التي تدخل في نوبة هيستيريا من الضحك ولا تتوقف إلا عندما تسكب عليه كوبا من الماء.
وبعد غياب طويل على خشبة «المسرح الوطني»، وقبل موتها سنوات قليلة عادت نورية مرة أخرى إلى بيتها الثاني في شكل مكلة متوجة، ضمن حفل تكريمها الذي أسعدها كثيرا وعاد إليها ذكريات تمتد إلى أكثر من سبعين سنة.
لقد كان الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي يقول: «المكان الذي لا يؤنّث لا يعوّل عليه»، وبالفعل كان المسرح الجزائري قبل نورية «مذكّرا» بامتياز لكنها أدخلت إليه تاء التأنيث رفقة صديقتها الفنانة الراحلة كلتوم، وليس بعد ذلك التأنيث مثل قبله.