«بيال مراد «، شاعر وكاتب، من أب فرنسي، وأم جزائرية، ولد وترعرع على أرض الجزائر، فهام بها عشقا، حتى بلغ به الهيام أنه أحب جمال الحرف العربي لتاريخه العريق وأسلوبه البديع، ومنه استمد موهبته، متحديا، وليس متنكرا لجذوره الفرنسية.
في حواره مع «الشعب» حول «علاقة الأديب بمجتمعه وقضاياه الإنسانيه « قال أنّ «الكاتب ابن بيئته، ومرآة تعكس الواقع، لكن أغلبهم حاد عن دوره الحقيقي في التوعية ونشر الوعي والأخلاق واتجه نحو الأفكار والمضامين المبتذلة المكرّرة والمستهلكة، وكأنه قد انفصل عن مهمته، حتى صار هو الآخر يلعب دور المتفرج».
الشعب : كيف تمكنت من صقل موهبتك وترويضها ابداعيا وأنت القادم من جذور عرقية جرمانية، فرنسية وجزائرية ؟
الشاعر بيال مراد: لقد ظل عشقي اللامتناهي لهذا البلد العظيم الذي احتضن أجدادي، الأرض التي تمرغت في ترابها وترعرعت بين جنباتها، وربما تكون المفارقة أو الصدفة، كوني ولدت عامين بعد الاستقلال بولاية غليزان، ومنها انتقلت عائلتي للعيش في الحمادنة، ثم إلى عمي موسى في بيئة محافظة على عاداتها وتقاليدها العربية الأصلية، ومنها تشربت بالأخلاق والقيم، ما جعلني أقوّي شخصيتي وأطورها عمليًّا، وقد زاد في ثراءها الدروس والخصال الحميدة التي تعلمتها من والدي الفرنسي الأصل ذو الجذور الألمانية، ورغم كونه ترعرع في بيئة أوروبية، إلا أنه انضم رفقة أعمامي لصفوف الثورة التحريرية، فكان أفضل وأعظم قدوة، ومنه تشربت روحي بحب الوطن وقدسّت ترابه الطاهرة.
واعتبر أن كل تلك التفاصيل وما أمتلكه من رصيد حضاري ومخزون قيمي وأخلاقي صنع مني شخصا واعيا ومدركا للواقع، مكّنني من ربط تصور مغاير لكلمة «وطن»، ووضع الأشياء في مواضعها وتنزيلها منازلها، يضاف إليها ازدواجية الثقافة التي اعتبرها مكسبا من حيث ثراء رصيدي اللغوي، وكذا تفتحي على الأفكار والثقافات الأخرى فكانت لي نافذة أطل منها على آفاق أرحب، وأحلّق بفضلها بكل حرية وبوعي أكبر.
تسلسل الأحداث وتنامي الأزمات تمنح للمبدع مادة دسمة، فما مدى تأثيرها على المتلقي؟
من البديهي أن يتأثر الكاتب بأحداث محيطة به، وتلك الأحداث والأزمات والتحولات توفّر للمبدع مادة دسمة لتأثيثه نصه الروائي، إذ ﻳﺆرخ لتلك الأحداث، ويبقى شاهدا عليها مدى العصور، ومثال على ذلك مواضيع الأوبئة التي صارت تقليدا أدبيا راسخا في التاريخ الأدبي، فرواية «الطاعون» مثلا للكاتب ألبير كامو في مدينة وهران الجزائرية التي تزخر بالكثير من أوجه الشبه مع الأزمة التي نواجهها اليوم بمراحلها وأطوارها وحيثياتها وانعكاساتها، لا تزال حيّة في وجدان الملايين، رغم مرور قرن ونصف عن إصداره، وكذلك رواية «البؤساء» وأعمال كثيرة ألفها أصحابها في عز جائحة وبائية كالتي نعيشها ويعيشها العالم حاليا.
يذهب البعض إلى القول، أن الأديب حارس الذاكرة وحارس القيم، وأعتقد أنّ هذا الوصف صحيح، فالكاتب حين يقرر كتابة نص عن أحداث وبائية أو حروب، فإنه بالإضافة إلى سرديته للوقائع فإنه يعطي دروسا وعبر من خضم تلك التجربة المريرة التي عاشها وتعايش معها ووثّق لها من خلال أحداث روايات... وعلى خلاف الواعظ، فإن الكاتب يعطي حوصلته وما استنتجه من خلال معايشته لتلك الظروف العصيبة في خلاصة تكون هي عصارة ما تعلّمه من خلال تواجده في قلب تلك الوقائع، فالأديب، كما قلت ابن بيئته ومحيطه ويتأثر بقضايا مجتمعه ويؤثر عليه عبر معالجتها، وطبعا «الشاعر» له إحساس أكثر من أي شخص، كونه يحمل الهموم وتؤثر عليه سواء إيجابيا أم سلبيا، وبالتالي الضغط الذي يعيشه يتحول إلى مصدر إلهام وحافز لنظم القصائد والكتابة الفنية.
هل بإمكان الكاتب الغوص في مثل هذه الأزمة بالدراسة والتحليل على طريقة الباحث من خلال تقديم مجموعة من الحلول؟
أقول باختصار حين يقرر الكاتب تناول قضية أو ظاهرة ما، فإنه يقوم بدور الباحث والمتمعن والمحقق، فالتجربة التي يمتلكها الكاتب لا يمكنها أن تثمر نصا محكما، إلا إذا دعّمها بالبحث والإحاطة بكل تفاصيل الحدث، ودراسته بشكل دقيق مع تحليل كل جزئياته، كما يفعل المخبر أو محقق الشرطة، ويصل إلى نتائج تجعل نصه قويا ومؤثرا لدى الجمهور المتلقي.
يظل المثقف ابن بيئته، لكن بالمقابل هناك انتقادات طالت الكاتب بسبب انفصاله عن دوره التربوي والتوعوي، فما رأيكم؟
من المسلّمات المتعارف عليها، أن المثقف فاعل في مجتمعه، وخادما له، من خلال ما يقدمه من أفكار وتوجيهات، كونه يخاطب جمهور واسع، ويعمد إلى كسبهم وجعلهم يتأثرون بأعماله... والكاتب يستخدم رصيده المعرفي والقيمي، ويقدم توجيهات ونصائح وعبر، ولكن طريقة تقديمه لتلك النصائح، تكون ضمنية من خلال إقحامها في الأحداث وجعلها جزء من مغامرته السردية، ويؤثر بذلك في نفس القارئ من خلال غرس الحس المدني والروح الوطنية وحب الخير والسعي له....
وإنّما في الآونة الأخيرة لم يعد الكاتب يلعب ذلك الدور التوعوي المنوط به، لما فيه خير للعباد والبلاد، بل صار يكتفي بسرد أحداث ووقائع، دون الاهتمام بغرس القيم والمبادئ والأخلاق، ولاسيما ما تعلق بالحس المدني وروح المواطنة، فصارت بعض أحاديث المثقفين مجرد اجترار لأفكار سابقة مكررة وجامدة، وكأنه قد انفصل عن مجتمعه وبات هو الآخر يلعب دور المتفرج، ولم يعد النصح والتوجيه والإرشاد وأمورٌ داخلَ نطاق اهتمامه من أولوياته، فبعض الكتاب وحتى المثقفين باتوا يشجعون على التمرد على بعض القيم والتقاليد والمثل، ويدعون للتنكر للأصول وحتى للأوطان في بعض الأحيان، كما يحرضون على العنف بكل أشكاله وأساليبه في كتاباتهم وحتى في أقوالهم بشكل ضمني، ومن خلال القراءة بين السطور لتلك الأعمال نكتشف أن الكاتب قرّر توقيع القطيعة والاستقالة من دوره التربوي والتوعوي من خلال عصارة تجاربه الحياتية، فلم يعد يقدم نصوصا مبهرة بل نصوص مبتذلة لا دور لها، ولكن لحسن الحظ، ليس كل الكتّاب بلا ضمير وحس مدني أو أخلاقي، فالضمير هو الفيصل والحكم، ونتمنى أن يتحلى مثقفونا بقدر من المسؤولية الوطنية والوعي، لأنهم لسان المجتمع وبوصلة توجيهه.
هل يمكن للقارئ الاطلاع على بعض مشاريعكم القادمة ؟
أولا في جعبتي إصدار واحد، عبارة عن ديوان شعري، اخترت له عنوان: «ظل الغزال « صادر عن «دار خيال للنشر والترجمة «، ويحتوي على نصوص شعرية في الغزل، وقد سبق وأصدرته بمصر عن دار «ديوان العرب» التي يديرها الشاعر والكاتب الأستاذ محمد وجيه، ولكن بتصميم مغاير وقصائد أخرى، من بينها قصيدة «ما أروعك» والتي بلغت مرحلة متقدمة من المفاوضات سيغنّيها مطرب مشرقي كبير، سأكشف عن اسمه قريبا، وبالإضافة إلى كل ما ذكر، لدي رواية، وهي حاليا تحت الطبع بأوروبا بعنوان: «رعب في قطار لندن»، تجمع بين قصص الجوسسة والرومانسية، ويمكن تصنيف النص في خانة رواية الحركة أو «الاكشن».
وحاليا وباقتراح وتشجيع من الأخ والصديق الأستاذ «رفيق طيبي»، بتأليف مشترك أقوم بكتابة مسودة عن تاريخ عائلتي «بيال» منذ بداية هجرتها من فرنسا، مرورا بانضمام والدي وأعمامي للثورة التحريرية وحتى وقتنا الحالي.
وككل كاتب أحمل طموح سام، يحاكي عنان السماء دون غرور أو تفاخر، والطموح في نظري حق مشروع ما دام الإنسان يرنو للأفضل، فأنا أرغب حقا في إثراء المكتبة الوطنية بمؤلفاتي ورواياتي وأشعاري، وأسعى دوما لأن أترك بصمة جميلة ومميزة، فنحن العابرون نحو الزوال، ولا يبقى من ذكرى مرورنا إلا الحروف التي نخطها، «فكل من عليها فان»، وتبقى الكلمات خالدة.
في كلمة أخيرة، ماذا يمكنكم القول؟
أريد أولاً أن أشكر عميدة الصحافة في الجزائر جريدة «الشعب» التي توفّر للأدباء والشعراء والمثقفين والفنانين جسرا للتواصل مع المسؤولين وصناع اﻟﻘرار واﻟﺠﻤﻬور، كما تفتح المجال أوسع لتوصيل أفكارنا وآرائنا إلى الآخرين، بما فيه خير للقطاع وأهله، كما أنوّه إلى تنصيبي كمدير فرع دار المثقف للنشر والتوزيع بفرنسا وإنجلترا وألمانيا وإسبانيا لنشر إبداعات الأقلام الصاعدة ومساعدتهم بأسعار تنافسية عالمية.