لم يتفطن لموته سوى طفلة لاحظت رسالة بيده اليمنى المتسخة مثل باقي أعضاء جسمه. قدمتها لأمها فتحتها وبدأت تقرؤها بعد تعقيم يدها ويد طفلتها مع بعض العتاب على لمسها شيء قذر مات...
قال فيها: كل شيء سهل سوى في الخيال قالها ومات، مات على فخذي يفترش التراب وليس السرير، قالها وهو في سجون الفقر أسير.
مات ولم يشبع الخبز ولم يحقق ظفرا مما أراد أن يحقق، كان مجرد كومة من الذكريات المؤلمة تتوجع داخل هذا العالم الظالم الذي لا يرحم أحدا مكسورا. الجناح كان مثلي، عالم لا يؤمن سوى بالقوي رغم قولهم العكس بأن المساواة قلبه وروحه، ولكن الواقع يثبت عكس هذا. أرض نسير عليها تكاد ترمي بنا خارج غلافها الجوي، الهواء الذي نستنشق يلعننا لا شيء فوق هذه الأرض تحب البشر حتى نحن نكره سلالتنا ونحاول تصفية بعضنا البعض.
كل يوم كنت أستيقظ متفائلا بغد أجمل إلا ووجدته ضيقا مثل خرم إبرة على اليوم الذي مضى فألتفت للذي مضى بنظرة اشتياق. وأقول بأنفاس تحرقه ليتني ما تقدمت لليوم الثاني وتجمد الوقت وتجمدت داخله مثل قنينة ماء بداخل ثلاجة ونسيت للأبد، كم أحن لليوم الذي غادرني وتركني لهذا اليوم الذي أنا فيه، ولكن برغم أذيته لا أريد منه الذهاب فالغد أسوء منه لأن التفاؤل الذي كان يؤازرني فقد الأمل في تفاؤله، كم أصبحت أحن للذي مات على حضني وما تركني برهة مثل ظلي وأكثر من هذا.
لقد مات الوفاء بموت كلبي الذي كنت أحدثه حين هجرني الجميع، بل الذي كان بطانيتي التي تدفئني في الصقيع حين أعانقه بل ذاك الذي لم يكن يأبه لشكلي ولبسي وطريقة عيشي هو الوحيد الذي أحبني أنا لأنني أنا وفقط.
حتى زوجتي التي كنت أحبها وتحبني على حسب قولها أو كانت تحبني من الزاوية الخطأ أو كانت تحبني لأنني كنت أدللها بالنقود التي أنفقها عليها دون حساب، وحين نفذت نقودي نفذ حبها وضبت ثيابها في حقائبها.
وحين سيرها في أروقة البيت كان صدى قبلات قدميها للأرض تتردد بين أرجاء المكان لشدة فراغه، فلم يبق له شيء يملكه حتى الأثاث قد باعه ليسدد جزءا من ديونه جراء صفقة خاسرة، وقفت وهو مطأطئ رأسه رمت حقائبها على الأرض بعنف.
نظر إليها بوجه شاحب وعينين ممتلئتين باليأس سألتها بكلمات متعبة أين أنت ذاهبة حبيبتي.
ردت بلهجة قاسية لم تكن تستعملها من قبل وخصوصا معه.
لست حبيبتك ومن اليوم لا علاقة تربطني بك لا من قريب ولا من بعيد.
رد عليها لماذا؟! بعد وقوفه ومحاولة معانقتها لتبعد يديه عنها وتدفعه على الحائط معيدة قولها وهي تصرخ بأعلى صوتها.
قلت لك أريد الطلاق، لا أريد العيش معك ألا تفهم؟
خرجت وبعد أشهر خلعته لتبحث عن شخص آخر ينفق عليها، هي في طريقة عيشها وحبها للرجال كطريقة النبات الطفيلي الذي يعانق الشجرة المجتهدة في تحضير مصدر عيشها لتأكله هي حتى تنهكها وتقتلها لتبحث عن شجرة أخرى.
باع آخر شيء يملكه بيته وسدد به باقي الديون ليصبح متشردا بعدما كان سيد الناس ومن أغناهم.
ذات ليلة باردة بحث عن مكان ينام فيه ولم يجد غير رصيف ضيق قرب بريد المواصلات، وفي منتصف الليل أحس بالدفء فتح عينيه فوجد كلبا بجانبه نائما ولشدة تعبه لم يأبه له وأكمل نومه، في الصباح الباكر استيقظ بركلة أحد المارة قائلا استيقظ أيها الحقير أنت تعيق المارة كان منبهه.
ركلات البشرة القاسية بينما كان منبهه في عز ثرائه صوت زوجته الرقيق العذب كأحبال كمان بين أنامل فنان مخضرم.
تعاقبت عليه الشهور والسنين ومن كثرة الضغوطات وانقلاب الساعة عليه بين ليلة وضحاها فقد عقله.
كان الجميع ينظرون إليه نظرة المجنون حين يحدث كلبه ويضحك أحيانا حين ينبح ويقوم ببعض الحركات كان يفهمها ويفسرها وكل نبح من نبيحه يترجمه.
كلبه لم يكن شرسا بقدر البشر حين كانوا يحاولون أذيته فيكشر أنيابه لإبعادهم عنه حتى صار مكروها مثله.
اجتمع أشرار الحي باحثين عن خطة يتخلصون بها من الكلب فلم يجدوا غير وضع سم بقطعة لحم قدموها له ليحملها الكلب ويأخذها لصديقه بدل أكلها كانت قطعة لحم دون عظم مشوية تغري الشبعان قبل الجائع.
أما الكلب فقد سبق وفاؤه جوعه وأحضرها لصديقه ولم يقضم منها ولو قضمة، حملها المنحوس كما كانوا يلقبونه أهل مدينته بعد خسرانه كل شيء، أكل نصفها وقدم نصفها الآخر للكلب ليأكلها وبعد سويعات بدأت أعراض السم تظهر عليها كانا يتعرقان كثيرا كأن غيمة انهارت عليهما ويتألمان أكثر.
المنحوس كان يأن قائلا جسدي يتقطع ساعدوني والكلب بجانبه مثله ولكن نسي ألمه والتفت لأوجاع صديقه المنحوس بلعق جبينه ووجهه حتى مات على حضنه ومات بعده المنحوس ودمعه على خده لموت كلبه.
وبقيت ركلات المارة على جسده حتى تيقنوا موته بتلك الطفلة البريئة.
حين انتهت أمها من قراءة الرسالة كان حولها حشد كثير منهم من بكى ومنهم من تحسر ومنهم ...ولكن هل ينفع كل هذا؟