الكتـابة للمستقبل جماليـات النص ومعايير الجودة

من الأسماء العتيقة التي خلدها حرفها أبو الطيب المتنبي وأمير الشعراء الروسي ألكسندر بوشكين.
 تخيل عزيزي القارئ أمامك لوحة بلاستيكية بيضاء وقلم أزرق اللون وطلب منك أن تقسم اللوح رأسياً إلى ثلاثة أعمدة  وأفقياً 11خانة. في المربع  الأول من الأعلى ومن اليمين، أي في الخانة الأولى ضع كلمة (معيار) ومن ثم ضع على رأس الأعمدة التالية الاسم الأول فالثاني.أسفل الجدول في الخانة الأولى رأسياً من اليمين والخانة الأولى من العمود الأفقي الـ11 كلمة (مجموع). الآن فلنبدأ بملئ الخانات الأفقية واحدة واحدة.

كما نعلم تعريف المعيار من الناحية اللغوية هو المقياس، وفي الفلسفة: نموذجٌ متَحَقَّقٌ أومُتَصَوَّرٌ لما ينبغي أن يكون عليه الشيء; العلوم المعيارية: المنطق والأخلاق، والجمال، ونحوها.
إذن أترك لذائقتك أيها القارئ أن تضع المعايير التي تلائمك، في العمود الرأسي الأول توالياً مع كل عمود أفقي. لنقوم بتطبيقها عن طريق مقارنة لكل كتاب

أبوالطيب المتنبي:
يُقاتِلُني عَلَيْكَ اللّيْلُ جِدّاً
ومُنصَرَفي لَهُ أمضَى السّلاحِ
لأنّي كُلّما فارَقْتَ طَرْفي
بَعيدٌ بَينَ جَفْني والصّباحِ

ألكسندربوشكين:

إنخدعتك الحياة،
فلاتحزنْ، ولاتغضبْ!
في اليوم الشجي اهدأ،
يوم الفرح، ثق، لا بدآت.
القلبي يحيا في المستقبل،
فالحاضر كئيب!
كل شيءٍ عابر، كل شيءٍ سيمضي،
وما سيمضي - سيصبح أجمل.
الآن ضع المعايير التي ترغب بها مثلاً: جزالة اللغة، الموضوع، وضوح الفكرة، الابتكار في التصوير/التشبيه، ...
وأمام كل معيار ضع رقم من 1-10 مقابل كل نص من الكاتبين، حيث عشرة هو أفضل تقييم وواحد أقل تقييم.  
ومن ثم قم بتجميع الدرجات وضعها في الخانة الأخيرة بالمستوى الأفقى رقم 11 لكل من نصي الشاعرين.
النتيجة؟ أياً كانت مقبولة فهي تنم عن ذائقتك. وحين النقاش والبحث مع أطراف أخرى وضعت تقييمها للنصين بذات الطريقة؛ بشرط الاتفاق على استخدام ذات المعايير لجميع الأوراق المدرجة. سنجد هناك أصواتاً تأتي بنتائج متباينة وهناك من يجد أن هذا الاختبار لا يجب ان يتم فالنص الأول يعود لصاحبه والثاني مترجم من اللغة الروسية للعربية فليس من العدل وضعهما في ذات الميزان.وعدة مقاييس قد نختلف أو نتفق عليها.
ماذا لو أجرينا ذات التطبيق على قصيدتين لأبو الطيب المتنبي؟ ماذا لو وضعنا قصيدة أخرى لأبوالطيب المتنبي مقارنة مع نص شعري للفيتوري؟ للسياب؟ ...الخ!
تناولنا لهذا التطبيق العملي ليس للنقد الأكاديمي بل فقط لجس درجة إحساس كل منا أمام النصين لنرى كيف كل متذوق وحسب خلفيته الثقافية والأدبية  ومخزونه المعرفي ودرايته بالشعر ومدى تأثره بالفنون قد أوصلاه لتقييم هذه النصوص بشكل مستقل ومحايد.
في ميزان المعايير هناك أمور شائكة قد يجب أن تؤخذ بالاعتبار قبل إعطاء الاحكام. هل يجوز أن ننشئ جهة اعتبارية محايدة من الخبراء والمتخصصين لتصدر شهادة جودة للنصوص؟ تماماً كما نفعل بالنسبة للخدمات والاجهزة التي نستخدم؟
للإجابة على هذا السؤال فلنتأمل  قصة المعايير ومارجريت تاتشر رئيسة الوزراء البريطانية في حقبة الثمانينيات من القرن الماضي. طلبت الحكومة البريطانية عبر مناقصات أعلنت حينها عبر الصحف وقنوات الاتصال وقتها بالإذاعة والتلفزيزن، دعت الشركات المحلية لتقديم عروضها لتوفير مواد وخدمات للمؤسسات العامة. وفي يوم فض العروض والإعلان عنها دخلت مارجريت تاتشر إلى قاعة كبرى يوجد بها آلاف المظاريف مكدسة ووجد المسؤولين حينها لأداء مهمة الكشف عن الأسعار. كانت للسيدة تاتشر كلمة اندهاش وتعجب حينها: كل هذه الشركات قدمت عروض؟! هذه الشركات ستدعم الحكومة بخدماتها وبضاعتها لأشهر وسنوات؟ ألديها هذا التاريخ والمصداقية ونعرف مؤهلاتها وتمتعها بالامكانيات اللزمة والتي تؤهلها لتزويدنا بما يقابل مشاريع بالملايين وربما المليارات  من  الجنيهات؟!
الاجابة كانت تشكيل لجنة من الخبراء والاكاديمين والمتخصصين لوضع معايير للنظر في الشركات بحيث توافق معلوماتها شروط حيادية وعلمية اتفق عليها ومن ثم اقرار تأهيلها للمشاركة في مناقصات حكومة المملكة. هنا نتحدث عن معايير الجودة  البريطانية على منحى اختيار الشركات التي يضمن التعامل معها تمويل الحكومة بالخدمات دون انقطاع أو تقصير خلال مدة العقد.
بالنسبة للكتابة الأمر يختلف جداً ومع ذلك هناك بديهيات تجعلنا نصنف النص من الناحية اللغوية مثلاً، الابتكار في فكرة الموضوع وكذلك الفائدة المرجوة بعد قراءة النص.. .الخ. الأمر يتطلب جهداً عظيماً للوقوف عند جماليات النص والتي مع الكتابة للمستقبل نجدها تعتمد على ما يقدمه كل نص  على حده. هناك مسألة رئيسية في الكتابة للمستقبل وهو عنصر الامتاع والابتكار واستخدام تقنيات جديدة في السرد مما تسبب الاستمرار القسري في متابعة القراءة والتهيؤ لأي مسار يتخذه الكاتب والذي يجب أن يكون مغايراً لما هو معهود بشكل سلس وبه اضافة لحبكة النص. هناك سمة مهمة أخرى وهي المنحى الإنساني  في بصمة الكتابة للمستقبل حيث يغذي الكاتب نصه باللمسات المتعلقة بالقيم الفاضلة والاخلاقيات التي تحفز الانسان للتصالح مع ذاته ومجتمعه بشكل يجعل وجوده في هذه الحياة مصدراً للقوة والخير للكائنات حوله. كسر نمطية المعهود في تركيب الجمل واستخدام المفردة يجب أن يتم في نسق غير ارتجالي صادم بل يأتي كما تدرج طبيعي في لغة الكاتب التي تعكس خلفيته الثقافية والأدبية دون استعراض بل تلقائي وينتج إضافة جمالية للنص. كما ذكرنا سلفاً في عدة مقالات أن عصر التطبيقات الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي يجعلنا نميل للاقتضاب وعدم الاسهاب وتكثيف الصورة في ايصال الفكرة، ولا يمنع ذلك ابداً من استخدام الجمل الطويلة والطويلة جداً حتى، طالما يساعد ذلك في تقريب وتوضيح الفكرة بشكل مميز ويضيف رونق للنص ومع ذلك دون استعراضات لغوية متكلفة. بالاضافة إلى هذا الاستشهاد بالمعلومات العلمية لتبرير الشخوص في النص لما يمر بهم خلال الحبكة ولا يهم في الواقع العملي صحة أو خطأ ما يعرضون. هنا من الممكن استخدامهم نظريات علمية أياً كانت من علم الذرة وعلم الفلك والطب والاقتصاد والفلسفة وحتى عقلنة الخيال بشكل علمي. بعض النصوص قد يرادفها رسم أو تصوير أو جداول لوضع أرقام ومعلومات عليها. كل ذلك ممكن طالما ارتآها المبدع إضافة جمالية للنص غير مقحمة ولكنها لازمة لايصال وتأكيد صورة بعينها. بعض الأفكار في السرد من الممكن أن تكرر ولكن في كل مرة يجب أن يكون هناك مبرر وجدوى كأن يتغير أسلوب السرد أو لغة ايصال المعلومة المهم أللا تترك فرصة للقارئ للشعور بالرتابة والملل. القارئ في الكتابة للمستقبل عنصر مهم ويأتي دوره في التلقي والمشاركة معاً بحيث كل قارئ قد يستلذ بجماليات تعتمد على خلفيته الثقافية والأدبية لذات النص بشكل مغاير عن قارئ آخر بحيث أكثر من قارئ يمكنه أن يسرد قصة وأفكار ذات النص بشكل مختلف وكأنه عدة نصوص مختلفة. هنا دور المبدع في تخليق هكذا حبكات يتطلب زخم هائل من القراءة والمعرفة والاطلاع في مجالات عدة. أي أن مخيلته يجب أن تحفذ بمتابعات ودراسات تجعل الابتكار ديدنه فلا يكون له موضوع واحد أو اثنين يتناولهما في كل نصوصه وإلا يوصف في هذه الحالة بالعجز والمحدودية. الكتابة للمستقبل تتطلب الكتابة عن الذات الإنسانية بعمقها الفكري والوجداني ودور الحياة المعاصرة في تكوينها وتعاطيها مع الحياة. من أبجدية الكتابة عن الذات أن يتبحر الكاتب في علوم الاجتماع وعلم النفس وخرق مجالات معرفية تجعله أصدق ما يكون حين حديثه عن اشكاليات الانسان في هذا العصر والعصور اللاحقة ما أمكن.
أبوالطيب المتنبئ وبوشكين بنماذجهما المعروضة في هذه الورقة يمثلان ربما مدرستين مختلفتين او فلكين بعيدين عن بعضهما لا يجمعهما سوى ملكة الكتابة والإبداع والإمتاع. تبقى ذائقة المتلقي هي التي تحدد الجماليات وتطبيق معاييرها على النص ومن الحكمة أن يتم النظر بموضوعية وتجرد تام أمام أي نص معروض وكأنه أتى بدون اسم كاتب يزيله.
عزيزي القارئ بعد أن تنهي قراءة هذه الورقة آمل أن تجد الوقت وتعود لتطبيق معايير جديدة تستنبطها من هذه الورقة والنصين الذين تناولناهما أولاً.
عودة للمعايير الجمالية والكتابة للمستقبل، هذا منهج يتطلب من المتخصصين أن يمكثوا ملياً في الدراسة والتطبيق ومن ثم إصدار مقاييس جمالية كل حسب ما يرتأي. ستكون المعايير في هذه الحالة متنوعة وكثيفة لا بأس فلدينا الوقت لوضعها جميعاً معاً ومرة أخرى على المختصين أن يجتمعوا كما فعلت حكومة مارجريت تاتشر والاتفاق على جملة منها بحيث تفسح الباب للنصوص الجديدة القادمة من كُتاب هذا العصر ومتلقين يعيشون معنا وآخرون يلحقوا بنا ليواصلوا ركب التلقي وتذوق الإبداع والكتابة الماتعة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024