يجمع بين الممارسة النقدية والنشاط الاجتماعي والسياسي

هكذا نظّر المفكر عبد المجيد مزيان لـ «التاريــــخ» (2)

محمد ديدان جامعة مولود معمري - تيزي وزو

 تقويم المنهــج.. ضبـط المفاهيم وتحديـد الخطوات الإجرائيــة..

يرى عبد المجيد مزيان أنّ التّراث عبارة عن إنتاج إنساني تتبدى فيه اجتهادات البشر، وأشكال تفوّقهم، وأنماط قصورهم، وبالتالي من الطبيعي أن يوجد فيه ما يُستحسن وما يُستهجن، وما التراث الغربي بأوفر حظ من التراث العربي الإسلامي في هذا الباب، ما يعني أنّ ذم الانبهار بالثقافة الغربية والتعصب لها لا يسوغ التخندق حول الموروث الثقافي، وإعطائه صفة القداسة والعصمة - باستثناء ما وافق القرآن الكريم وصحيح السنة - بل يُعدّ تعصبا من نوع آخر ينشأ عن الذوبان في الماضي ضمن محاولة إثبات الذات، فيتم حينئذ التشبث بكل فكرة، والاستدلال لها بكل قول أو أثر يعزّزها، بصرف النظر عن درجة صحتها ومقدار موافقتها للواقع..

 نفهم مما سبق – في الحلقة الأولى من هذا المقال - أن حاجة المجتمع للنقد تزيد عن حاجته لما سواه، لأنّ أوضاع العالم الإسلامي في الوقت الراهن وعلى كافة الأصعدة تفرض ذلك، وتؤكد عليه من وجهين: الأول: تقويم ما اعوج من مفاهيم، وتهيئة الذات لممارسة التفكير، وتكييف الواقع مع الأصول والثوابت بطرائق سليمة تستند على الفقه والفهم، خاصة فيما يتعلق بمسائل التجديد، حتّى لا يُتخذ موقف الرفض المطلق إزاء الحضارة والتطوّر المادي، في وقت «أقرّ الإسلام منذ نوح عليه الصلاة والسلام بالتطور وحركة التجديد، وأخبر الله سبحانه وتعالى بذلك، والقرآن الكريم مليء بذلك، كما أنّ السنة أشادت بهذا إشادة تغني اللبيب».
الثاني: هو جانب يتصل بالأول، ويتعلق بكيفية الاستفادة من تلك الحضارة، حتّى يُصحح الخطأ فيها ويُبيِّن الصواب وهذا يستلزم من الدارس المتخصص أن يكون على قدر من الاطلاع بالواقع الثقافي، والأنموذج الحضاري السائد، وعلى درجة من المعرفة بالنقد وحدود الموضوع، «ذلك أنّ التفكير مهارة واسعة، فهي تشمل معرفة كيفية التعامل مع المواقف، والخواطر، والأفكار، والمفاهيم، واتخاذ القرار، والبحث عن الدليل، والابتكار، إلى غير ذلك من الجوانب».
إن بين الانفتاح والاستلاب خيط رفيع لا يُدركه إلا ناقد بصير أو مفكّر خبير، ثم إن الإصلاح الاجتماعي والتخطيط له متوقف على فحوى ذلك الإدراك، وإذا كانت الأشياء تُعرف بأضدادها، فلا يمكننا البتة الانفتاح على التجديد ما لم يكن هنالك وعي بالذات ووعي بما يحيكه الآخر، ليتم في ضوئه تحديد ماهية الاستلاب، ثم يكون التخلّص من تبعاته غاية في حدّ ذاتها، ذلك فإن تحقيق الكرامة والاقتراب من الكمال يستلزمان اجتهادا مستمرًا في إصلاح وجودنا المجتمعي، وفي تطبيق المبادئ والقيم العالية التي يقتضيها ذلك الإصلاح.

الثقافة بين الأصيل والدخيل
من بين الأهداف المنهجية التي سعى مزيان للوصول إليها، إزالة اللبس عن كثير من المصطلحات الثقافية التي أُلبست أثوابا متنوّعة، وتم النظر إليها من زوايا متعدّدة، فاختلفت مفاهيمها وتعددت معانيها تبعا لذلك؛ من بين تلك المصطلحات مفهوم الأصالة الذي انقسم المفكرون إزاءه قسمين: أحدهما ينظر إليه كمرادف للانكماش والاكتفاء بالمكتسبات القبلية، والموروثات الثقافية التراثية، والآخر يقسمها إلى أصالة تقليدية تشير إلى المفهوم السابق، وأصالة إبداعية لا تكتفي بالماضي، بل تسعى إلى تعزيزه بما استجد من علوم وفنون وثقافات، وبين هذا وذاك، وجد الباحث موطأ قدم مكّنه من الوقوف على مقربة من كلا الموقفين، فاستطاع تقديم نظرته الخاصة التي تتناسب مع ثقافة المجتمعات الإسلامية، التي طُرح فيها الإشكال على طاولة الفلاسفة والمفكرين والأدباء والنقاد.
إذا كان التعريف اللغوي لمصطلح الأصالة يحيل على عودة الشّيء إلى أصول معروفة، فإنّ التعريف الاصطلاحي له لا يبدو بنفس البساطة، لاقترانه بمفردات عديدة على سبيل الإضافة دون تقديم مبررات لها؛ فيقال شعب أصيل، وخُلق أصيل، وثقافة أصيلة؛ ما يعني أن تحديد المعايير موكول إلى المثقف تبعا لمرجعيته الفكرية، وخلفيته المعرفية، واستعداده الفطري، بدليل اتصال الأصالة بالعرق والجنس والعقيدة والتراث، خصوصا مع ظهور العولمة الثقافية التي حازت لنفسها على نصيب لا يمكن عزله أو اعتباره سطحيا، وإلا خُشي على تلك الثقافات انقطاعها عن العصر، «فهل يمكن أن نعتبر شعبا ما أصيلا لثبوته على مجموعة من القيم الحضارية واتصافه بميزات شخصية ردحا من الزمن وتمسكه بها ؟ وهل يعتبر أصيلا إذا كان يصدر في آرائه وتفكيره عن عبقرياته الخاصة؟ وهل يمكن في ميدان الفكر والثقافة ما هو لنا وما هو لغيرنا بصفة محدّدة؟».
تعتبر الأصالة من القيم الملازمة للإنسان في كل أطوار حياته، يتمكّن بموجبها من بناء نموذجه الخاص بعيدا عن القوالب المفروضة عليه؛ فرفض تلك القوالب يعد تحفيزا على الإبداع، وإعمالا للفكر، ما دام هذا الأخير ملكة متاحة أمام الجميع، أُلغيت بموجبها مختلف أشكال التمايز، وعليه فالاعتزاز بالأمجاد والتغني بالإسهامات التي لا تُنكر ولا تُنسى للحضارة الإسلامية والعربية، والتذكير بفضلها على الحضارات الأخرى، لا يعد عيبا في عرف الأخلاق والمجتمع والثقافة، إنما يكمن العيب في العيش عالة على ذلك الإرث، بمحاولة إحيائه كرة أخرى، بأصوله وعوائده وإيجابياته وسلبياته، دون عرضه على أضواء النقد وفق العقيدة والمنهج السليم؛ ذلك أنّ من آفات الفهم أن تعمد النفس إلى تقديس المحافظة على التراث إلى درجة تصبح معها عاجزة عن الإبداع، في حين أنّ الأصل أن تساير الركب فتغذي ذلك التراث بالتقنيات الحديثة وما استجد في ميدان العلوم، حتى تحافظ على البقية الباقية منه، يقول مزيان: «فإذا قست مجدك الماضي - مثلا - بحاضرك وادعيت أنه مجد مطلق، يمكن أن يُنقل بالحرف إلى الحاضر، فأنت مثبط لنفسك بنفسك، ذلك أن مجدك في الماضي كان مجدا بالنسبة لخمول الآخرين، أما اليوم فقد أصبحت حضارتك تلك خمولا وأي خمول بالنسبة لقفزة الآخرين».
من الصعوبة بمكان جمع مجتمعات وأعراق وعادات وعقائد مختلفة ومتنوّعة تحت دستور واحد يسودها ويسوسها، كما أنّ من الخطورة معارضة كل وافد من العلوم بلا وعي نقدي ولا حسّ فكري، لأنه يؤدي في النهاية إلى تقليد من نوع خاص؛ فليس من الأصالة التعامي عن عيوب تعتري التراث، والتخلف عن وضعها تحت أضواء النقد الذاتي، وليس منها الإغراق في العودة إلى الماضي بحثا عن إثبات حقائق علمية جاد بها الزمن المعاصر، كما أنّه ليس من التفتح نقل مبتكرات الآخرين بصورة صورية تنسلخ معها الهوية وتضيع معها الشخصية، فالقوانين الاجتماعية ترتبط بالوعي الإنساني الذي يمر بفترات متباينة صعودا ونزولا، وبالتالي فإنّ «التعريف الأصح لكلّ ثقافة أصيلة مربوط بدورها في التوعية، والتوعية إبداع مستمر، وتجاوز مستمر للأحوال الثقافية الماضية والحاضرة، بحكم التطوّر الدائم الذي لولاه لما حصل أي اكتساب علمي على الإطلاق».
إذا كان من البلاغة موافقة المقال لمقتضى الحال، فهذا يعني أنّ الخطاب الثقافي إذا ما أراد بلوغ نسبة عالية من الفاعلية، فعليه أن يتغير وفق المقام والسياق وأفكار المتلقين، وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل الحال الفكرية التي ذكرنا، إذ يبقى المفكّر خلالها بين نارين: إما تأييد العودة إلى التاريخ وقبول اتهامه بالرجعية والتقوقع، أو الدعوة إلى الانفتاح والرضا بتصنيفه في خانة التبعية والاستلاب، وبينهما موقف وسط يصعب إدراكه فضلا عن شرحه وإثباته، «ولا غرابة أننا نجد بعض المثقفين يضيقون مفهوم الأصالة لحصره في شبه تقليد لأسلافنا، مع التكاسل عن الأصالة الحقيقية التي هي الخلق والإبداع الذي تتطلبه النهضة الواجبة على أجيالنا الحاضرة».
إن التعصب للرأي وغلق الباب أمام الرأي الآخر، فتح المجال واسعا - بحسب مزيان - أمام التناحر المذهبي والعداء الفكري الذي كان أبرز طرفيه المحافظون والمجدّدون، وإذا كان حال المحافظين معلوما، وهو البحث عن الأصالة في صيانة التراث واستخلاص الدروس والعبر من التاريخ، مقابل الزهد فيما جاء به الآخر باعتباره مطية للوقوع في الاستلاب والاغتراب، وهو ما لم يقل به أحد من أهل العلم، بما أن الإسلام «دين رباني عالمي لا يصطدم مع أي تطوّر نافع من جهة، ولا يقرّ حرية الإلحاد، ويأبى أن تكون حرية منفصلة عن التربية الدينية والأخلاق من جهة أخرى»، فإنّ حال المجددين يبدو أكثر تعقيدا، لعلل في فهم المصطلح وصعوبة في تطبيقه، لأن معناه عندهم مسايرة الحداثة الغربية، مع محاولة فصل التراث وإبقائه في رفوف المتاحف ورميم الذكريات، بسبب عرقلته لحركة التطور والعلم الحديث الذي يقتضي التنزيه عن كل مرجعية تاريخية كانت أو أخلاقية، وشعارهم: «ما الماضي سوى تجربة توسع دائرة الإدراك (...) ولكنه يتحوّل لدى الإنسان الخامل إلى مجرد أغنية بلهاء».
تكمن الخطوة الأولى في سبيل التحرّر من هذا الإشكال بحسب الباحث في الخروج من ضيق الرفض إلى سعة الانفتاح، ومن الانزواء إلى التبادل المتكافئ للأفكار، ومن التلقي والاستهلاك إلى المبادرة والإنتاج؛ وهو ما جعله يحكم على الفريقين السابقين كليهما بالرجعية والتقليد، وإن توهما خلاف ذلك، «فأصل التأصيل المزيف في مثل هذه المعركة، تقليديون ورجعيون يدعون التقدمية؛ لأنهم يزعمون التخلص من رواسب الاستعمار، وبناء الشخصية بالرجوع إلى الأصل الأصيل، وأهل التفتح المزيّف تقليديون رجعيون أيضا يدعون التقدمية؛ لأنهم يزعمون التمسك بالحضارة والعلم، مع أنّهم منسلخون عن ماضيهم، ومتمسكون بماضي الآخرين».
اختار مزيان سبيل التدقيق في الفروق البسيطة التي تميّز كل مفهوم عما سواه، بدل البحث في عموميات المصطلح، فوصل إلى مفهوم خاص للأصالة وآخر عن المعاصرة احتمى به من الانحراف نحو الاستلاب، فلئن كانت الأصالة الحقة تقوم على النقد الذاتي والاستفادة من أخطاء السابقين حتى لا يُلدغ المرء من جحر مرتين، فإن المعاصرة - عنده - لا ينبغي أن تخلو من جزئية النقد، غير أنه يشمل في هذه الحال الذات والآخر بحكم التعايش معه، لأنه السبيل للاستفادة العلمية الصحيحة دون المساس بالقيم والعقائد والهوية، ما يعني أنّ التفريق بينهما يتطلب وضع المسألة تحت تصرف مناضلي الفكر والثقافة، على شاكلة ما قام به الفيتناميون والصينيون والكوبيون من أجل محو مظاهر التبدّي والعتاقة في بضع سنين.

الغزو الثقافي وسبل مجابهته
 مال أئمة من أهل الفكر إلى تبنّي مصطلحات التبعية والقابلية للاستعمار كبدائل لمصطلح الغزو الثقافي، لترجيحهم فرضية الانبهار بالآخر وتقليده على نظرية المؤامرة، وإرجاعهم سبب ذلك إلى الفراغ الثقافي؛ فعندما تفقد الأمة السيطرة على واقعها والتصرّف في مستقبلها، وحين تفقد الأمل في فعالية مناهجها، ويحل عالم الأشخاص أو الفكرة (الوثن) محل عالم الأفكار، تدخل الطبقة المغتربة على الخط لتقدم حلولا بديلة، تتمثل في مناهج الغالب وعقائده وثقافته، فتقع الأمة مرغمة في شراك التبعية، وتعجز عن الانعتاق منها، «إن الشعوب المتروكة للصدف أصبحت اليوم تتأثر بالغرب الرأسمالي، وكأنّها تغزو نفسها بنفسها، إنّها - من هذا المنظار - ذات حصانة مكذوبة تدعي الرفض صوريا، ولا تستطيع أن تقاوم في أي ميدان، افتح جهاز التلفزيون في أي بلد من البلاد المتخلفة، أو اقرأ الصحف، أو شاهد سلوكات البشر، فإنك ترى تأثير العالم الغربي واضحا في كل ميدان، إنّنا نتطرّق إلى مشاكل ليست مشاكلنا، ولنا سلوكات وأذواق وبيت على نمط غربي، فنحن نعشق الموضة من باريس، ونهوى الأفلام الأمريكية».
تشديد الباحث على التسلّح الفكري وما يندرج تحته من اعتبارات يعود لصعوبة الانعزال عن الحضارة العالمية، والمحافظة على البنيات والأطر الاجتماعية القديمة في ظل الفراغ الثقافي الذي تعاني منه أغلبية البلاد العربية والإسلامية، ما يعني أن مواجهة هذا المدّ لا يكون إلا بتجاوز الفهم المجرد والمعنى الظاهر في قبول أو رفض ما جاد به العصر الحديث من مذاهب، وشنّ هجوم معاكس في شكل حرب أفكار تكون الفاعلية هي النقطة الفارقة فيها، والمحافظة على العقائد والأصول أسمى غاياتها، «ولنأخذ مثالا حيا في بلادنا، فمقاومة الجزائر لحضارة أجنبية غازية وهي الحضارة الفرنسية كانت في أواخر القرن العشرين مبنية على عقيدة هي العقيدة الإسلامية، لأنها كانت قوية في ذلك الوقت، مما أدى إلى تجنيد الشعب بأكمله من أجل مقاومة حضارة أجنبية، مع ما فيها من قوة مادية وثقافية معا».

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19604

العدد 19604

الخميس 24 أكتوير 2024
العدد 19603

العدد 19603

الأربعاء 23 أكتوير 2024
العدد 19602

العدد 19602

الثلاثاء 22 أكتوير 2024
العدد 19601

العدد 19601

الإثنين 21 أكتوير 2024