تفترض هذه المداخلة، بناء على كتابها المحوري المعروض للدراسة، أنّ الخطابات النقدية الواصفة للإبداع الأدبي إنّما تتمظهر في مظهرين اثنين: مظهر رسمي مركزي مهيمن، يستمدّ شكله من المقالات والكتب التي تقدّم نفسها بالتسمية التجنيسية المألوفة “إذا افترضنا أنّ النقد الأدبي جنس تأليفي قائم بذاته، قابل للتفرّع إلى أنواع نقدية جزئية”، ومظهر ثانٍ هامشي متخفٍّ في أعماق أجناس وأنواع أدبية معروفة، حينا، وأشكال أخرى مجهولة التسمية، منزوعة التجنيس، حينا آخر.
تفترض أنّ نقد النقد (ومعه تاريخ النقد) قد أهمل المظهر الثاني واستخفّ بوجوده وجدواه، مقابل اهتمامه المطلق بالمظهر الأوّل، وأنّ كتاب “زحام الخطابات” للدكتور عبد الله-العشي (الذي صدر في حدود عام 2005) قد كان بدْعا من النقد الذي انتبه إلى ما لم تنتبه إليه الكتابات النقدية السابقة، وأنّه كان من الإحاطة بضروب تلك النقود المتوارية بحيث نعدّه كتابا تأسيسيا لما يمكن تسميته بنظرية النقد الهامشي.
العشي: قريبا من نظرية الأدب.. بعيدا عن النقد الأدبي!
بربط النقد الهامشي بنظريته، وبحكم التردّد اللافت لمصطلح (النظرية) في لغة عبد الله العشي النقدية، وإذا كان النقد – في أعمّ استعمالاته - ممارسة تطبيقية وفقا لرؤى منهجية تتوسّل آليات إجرائية لا سبيل إلى مقاربة النصوص بدونها، فإنّ الدكتور العشي – بالنظر إلى ذلك كله، وبالنظر إلى زهده في ذلك، وندرة نصيبه من تلك الممارسات - هو أدنى إلى المنظّر منه إلى الناقد؛ وذلك لأنّه أمْيَلُ إلى الانشغال بالكليات النظرية المجرّدة، وأزْهدُ في الممارسات الإجرائية الجزئية، وأنّ هواه النقديُّ ينزع إلى التفكير والتفلسف والتنظير والتجريد والتأصيل والتعميم، وأنّه - إذن - أقربُ إلى نظرية الأدب (ونظرية النقد) منه إلى النقد الأدبي.
ليس معنى ذلك أنّ عبد الله العشي لم يشتغل اشتغالا نقديا مباشرا على نصوص أدبية محدّدة، أو اشتغل عليها وأخفق في مسعاه!
لا، بل فعل ذلك، في قليل من المناسبات، ونجح في أفعاله القليلة تلك إلى حدّ بعيد، ومن تلك الممارسات ما صنعه في مطلع شبابه الأكاديمي؛ حين تتبّع الحسّ المأساوي لدى شاعره الأثير صلاح عبد الصبور، في رسالة ماجستير ناقشها بجامعة وهران عام 1984، أو ما فعله في الفصلين الثالث والثامن من كتابه (المشترك) “فقه الشعر”؛ حين اقترب من (هوية النص ونص الهوية في شعر ما بعد الحداثة) ؛ حيث قارب بعض الملامح الشكلية والأجناسية واللغوية في الكتابة الشعرية الجديدة (أدونيس، بنيس، سليم بركات،...)، وحاول بلورة هويتها ومرجعياتها.
وحين استوقفتْه (استراتيجية النص الجديد على المواقع الشبكية)؛ لاسيما موقع (جهة الشعر) النصي التشعبي (التفاعلي، المترابط،...) Hypertext، بزعامة الشاعر البحريني قاسم حداد.
ولكننا – خارج مثل هذه المواقع النقدية التطبيقية المحدودة- لا نكاد نرى عبد الله العشي إلا في هيئة ذلك المنظّر الولوع بنسج نظرية للشعر، فضلا عن ممارسة الشعر التي تمدّه بالمواد الخام لذلك النسج؛ أليس هو (العارف بالشعر.. شاعر العرفان) كما سمّيناه في إحدى قراءاتنا القديمة لديوانه الأول؟...
ويبدو أنّ هواجس التنظير الشعري هذه قد تملّكتْه - خصوصا - في مرحلته الأكاديمية الحاسمة (دكتوراه الدولة)؛ حين انشغل بموضوع أطروحته المرتبط بــ(نظرية الشعر في كتابات الشعراء المعاصرين) ؛ وهو العنوان الذي انزاح إلى (أسئلة الشعرية- بحث في آلية الإبداع الشعري) ، حين تحوّلت الأطروحة إلى كتاب منشور هاجسه المركزي الطُّموحُ إلى “صياغة نظرية للشعر” ، قائمة على “المفاهيم الأساسية لنظرية الشعر انطلاقا من كتابات الشعراء النثرية وأحاديثهم التي سعوا فيها إلى بلورة مفاهيم حول قضايا الشعر” ، انطلاقا من قناعته الراسخة بأنّ الشعراء النقاد –لا النقاد المحترفين- هم الأحقُّ ببلورة عناصر تلك النظرية، وأنّ تأملاتهم النثرية من حول تجاربهم الشعرية هي المصدر الأمثل للصياغة النظرية المنشودة.
إنّنا – إذا شئنا أن نبحث عن مثيل مثاليٍّ لموقع عبد الله العشي بين نقد الشعر والتنظير له وللنقد والأدب عموما- انتصبت أمامنا صورة الشاعر الناقد/الصانع الماهر الأكبر أدونيس؛ وقد سُئل عن “ناقِديَتِه”، فأجاب دون تردّد “وبرغم منجزاته النقدية النظرية الكثيرة”:
«لا أزعمُ أنني ناقد (...) [ولكنني] راءٍ يتّجه نحو أفق غير مرئي”.
أشكال النقد الهامشي في “زحام الخطابات”:
النقد في “زحام الخطابات” خطابٌ واصف للخطابات الأدبية، ذو أشكال متفرّقة نائية عن الشكل النموذجي للنقد المتعارف عليه؛ المتعوَّد على إدراكه في كتب النقد المألوفة، أو المقالات المنشورة في الصحف والمجلات.
وهي أشكال يجمعها الكشف عن أسرار الصناعة الأدبية، لكنّها “منظومة خطابية، متعدّدة في أشكالها، مختلفة في طبيعتها، متنوّعة في آلياتها، متباينة في أنظمتها” .
ينأى (زحام الخطابات) بخطابه النقدي الضمني الخفيّ عن الخطابات النقدية المباشرة إلى أشكال نقدية ثانوية “تقع بعيدا عن الرؤية المباشرة (...) خارج التداول” ، يحاول بها تخطّي هيمنة الشكل النقدي الواحد (المقال والبحث) إلى أشكال أخرى “من حقّها أن تُعرف وتُصنّف وتُدرس”؛ كالرسالة والوصية والمناظرة والبيان والسيرة والشهادة والتقريظ والتصدير والحوار...
ولأنّ الكتاب يبحث عن النقد خارج مجاله الحيوي، وبعيدا عن منابته الطبيعية، فقد آثرتُ عنونة ورقتي هذه بذلك العنوان الإنشائي تناصّا مع البيت الجاهلي الشهير:
وهل يُنبِتُ الخطِّيَّ إلا وشيجُهُ *** وتُغرَسُ إلا في منابتها النخلُ
حيث لا ينشأ الكريم إلا في موضع كريم، تماما كما لا ينبتُ الشيء إلا من جنسه وأصله، ولا تُغرس أشجار النخيل إلا حيث يليق بها أن تنبت ويصلح نباتها.
ولكننا آثرنا قراءة البيت قراءة عكسية مقلوبة، تتيح لنا –استثناءً وخارج هذه القاعدة المتوارثة- أن نغرس نخيلا في غير منابته (أو منابتها؛ فأهل الحجاز يؤنثون النخل، بينما يذكّره أهل نجد، كما جاء في “لسان العرب”)، وأن نلتمس رماحا “خطّية” الملامح من وشيج مغاير!
تماما كما يفعل عبد الله العشي في كتابه هذا؛ حيث يعدل عن الفضاء النقدي الشاسع الفسيح الأليف، إلى فضاء غريب ضيّق تتزاحم فيه الخطابات وتحيا على هامش المركزية النقدية.
يُعالج الكتاب، في سبعة فصول، منظومة هذه الخطابات المتزاحمة المتدافعة في ذلك الفضاء المكاني (النقدي) الضيق، ويصنّفها ضمن أصناف لا عهد لنظرية النقد بها:
منظومة الخطابات التنظيرية:
وتُعنى بالرؤى النظرية المجرّدة المتعلقة بالظاهرة الأدبية من حيث أصولها ومفاهيمها. ومن أنواعها:
البيان:
هو نصّ ثوري انقلابي، فرديٌّ أو جماعيٌّ، في هيئة نقدية نظرية، يُنجز في سياق تاريخي وثقافي حاسم، بدعوى التحديث والتجاوز، وكثيرا ما يكون “إرهاصا بتجربة جديدة في الكتابة الأدبية”، ويمكن أن يتحوّل إلى إعلان عن ميلاد حركة أو مدرسة أدبية جديدة.
من أمثلته في النقد العربي بيانات أدونيس وبنيس وقاسم حداد وأمين صالح...
والبيان في نظر العشي هو “أكثر الخطابات النقدية جرأة في الفكر، وإبداعية في الأسلوب، وقوة في التأثير” .
المنظومة :
هي أفكار وآراء في الشعر والأدب تبتغي التنظير للأدب كما ينبغي أن يكون، لكن تلك الأفكار إنما تُنْظم شعرا تقريريا تعليميا باردا مباشرا، الغرض الجوهري منه هو توسّل ذلك القالب الإيقاعي لتسهيل حفظ تلك المادة المعرفية.
ومن أمثلتها (فن الشعر ) لهوراس، و(فن الشعر) لبوالو.
وقد أغفل الباحث ذكر نماذج عربية منها.
النظم:
إذا كانت المنظومة فعلا نظريا موضوعيا موسّعا، مبتغاه التنظير للشعر خصوصا، فإنّ النظم فعل جزئي (ميتاشعري) كثيرا ما ينطلق من التجربة الذاتية للشاعر في تعامله مع القصيدة وأجوائها، ولذلك كان أجملَ شعريةً وأوهجَ عاطفةً برغم جفاف موضوعاته.
ويستشهد الباحث لذلك بنماذج متفرقة لسويد بن كراع، وعدي بن زيد، والناشئ، وابن رشيق من القدماء.
وأخرى لمحمود درويش وشوقي بزيع من المحدثين.
إنّ المنظومة والنظم خطاب نقدي استبطاني يتّخذ فيه الشاعر من الشعر موضوعا له، وفيه “يلتقي النص بالتفكير في النص، تلتقي المعرفة الأدبية بالمعرفة النقدية ويتحوّلان إلى خطاب واحد” ؛ هو ملتقى الذات والموضوع، وملتقى الأدب (الشعر) والعلم (النقد).
منظومة الخطابات الجدالية:
هي خطابات نقدية حوارية على قدر من الفرجة والإمتاع، تتحاور فيها الأصوات المتخاطبة وتتنافس، من أنواعها:
المناظرة:
هي نص نقدي حجاجي قائم على التخاطب بين شخصيتين حقيقيتين، أو فكرتين مجرّدتين.
يمثّل لها المؤلف بتلك المناظرة النقدية التي صاغها الآمدي في كتابه (الموازنة) بين أنصار البحتري وأنصار أبي تمام، وقد اختار لكليهما قارئا نموذجيا يُدافع عن التوجّه الشعري لصاحبه.
الحوار :
هو خطاب ثنائي، لا تنافس فيه ولا صراع (بعكس المناظرة)، بين طرفين: أحدهما سائل مثير والآخر ناقد مستجيب ضمّن إجاباته قدرا من الأفكار والرؤى النقدية.
ومن أمثلته: كتب جهاد فاضل المختلفة (قضايا الشعر الحديث، أسئلة الشعر، أسئلة النقد، أسئلة الرواية) التي حاور فيها عددا كبيرا من كبار الشعراء والنقاد والروائيين العرب.
المحاورة:
إذا كان الحوار قائما “على شخص واحد بمساعدة شخص ثانٍ” ، فإنّ المحاورة خطابٌ متعدّد الأصوات، يشترك في إنتاجه ما لا يقلّ عن شخصيتين اثنتين، حول موضوع إشكالي يمثّل محور المحاورة.
ويستشهد المؤلف على ذلك بتلك الندوات التي كانت تُقيمها مجلة (فصول) المصرية حول قضايا نقدية محدّدة، تتحاور فيها مجموعة من الشخصيات النقدية المعروفة.
التعقيب:
هو نصّ نقدي وجيز مبني على “نصّ أصلي سابق يستدعيه بوصفه استكمالا أو تعديلا أو نقضا أو ربّما تقريظا وثناءً...” ، يُحاوره محاورة هادئة تقوم على الأخذ والردّ، بخلاف المناظرة التي تقوم على المفارقة والمعارضة.
والتعقيب “قراءة انطباعية سريعة” ، مكمّلة للنص الأصلي المعقَّب عليه.
لم يقدّم المؤلّف مثالا محدّدا له، لكنّه اكتفى بالإيماء إلى تشكّل هذا النوع من الخطاب في أعمال (المؤتمرات العلمية).
والحقيقة –في نظرنا- أنّ في ندوات مؤسسة البابطين، على اختلاف دوراتها، أفضل الأمثلة التي بلغ فيها خطاب التعقيب مبلغا نقديا عالي المستوى؛ حيث انتقل من الشفهية إلى الكتابية، ومن الانطباعات السريعة إلى الأحكام النقدية المتأنّية المعلّلة، ومن الإيجاز النصي إلى المقالة المطوّلة المُلحقة بالبحث الأصلي؛ حيث نقرأ –على سبيل التمثيل- في دورة البارودي (1992) بحوثا لنقاد كبار معروفين (يوسف خليف، محمد فتوح، محمود علي مكي، عبد القادر القط، رجاء النقاش، عبد الله الغذامي، نعيم اليافي،...)، متبوعة بتعقيبات نقدية مطوّلة لنقاد من الوزن الثقيل ذاته (إبراهيم عبد الرحمن، عز الدين إسماعيل، محيي الدين صبحي، حمادي صمود، سلمى الخضراء الجيوسي،...)، لا يقلّ عدد صفحات التعقيب الواحد عن عشر صفحات، بل إنّ تعليق د.إبراهيم عبد الرحمن على بحث د.يوسف خليف قد بلغ عشرين صفحة كاملة وهو حجم بحث كامل قائم بذاته.
وقد كُتبت أسماء المعقّبين، على غلاف كتاب الندوة، مباشرة بعد أسماء أصحاب البحوث المُعقَّب عليها، بحيث صار المعقِّبُ شريكا للمؤلِّف في تأليف ذلك الكتاب
منظومة الخطابات الشارحة:
هي خطابات تشرح النصوص الأدبية وتفسّرها، ولو ببساطة لا تؤهّلها إلى درجة العمق النقدي.
قد تتجاوز الوجودَ في هوامش الكتب إلى التموقع في المتن، وتتّخذ أشكالا مختلفة منها:
الشرح الوصفي:
ويشكّل ظاهرة في الثقافة العربية، تقرّبه ممّا “يسمّى بالنقد التطبيقي” ، ويمثّل له المؤلِّف بشروح ابن جنّي لشعر المتنبي، وشروح سقط الزند، وشرح المرزوقي لحماسة أبي تمام،...
الشرح الإبداعي:
تمثّله بعض الشروح التراثية الاستثنائية التي يتعانق فيها الشعر والنثر؛ حيث تقوم استراتيجية الشعر “على هدم النص وإعادة بنائه من خلال نصٍّ يتحدّى النص الشعري، غير أنّ هذا التحدّي يتحوّل إلى خدمة النص الأصلي” .
ومن أمثلته –في نظر المؤلّف-: كتاب (المنثور البهائي) لعلي بن محمد الهمذاني (ت. 414 ه)، و(نثر النظم وحلّ العقد) لعبد الملك بن محمد الثعالبي، و(الوشي المرقوم في حلّ المنظوم) لابن الأثير، ورسالة (ملقى السبيل) لأبي العلاء المعري،...
النصّ الشارح:
برغم ميوعة هذا المصطلح الذي قد يوهم القارئَ بدلالات أخرى عامة غير المقصودة هنا، فإنّ النص الشارح –في مراد المؤلِّف- هو شكل نقدي يلجأ فيه الكاتب الناقد (الذي كثيرا ما يكون الشاعر) إلى شرح نصّه الإبداعي (قصيدته أو ديوانه...) شرحا مضيئا يُدخل القارئ إلى أعماق نصّه ويكشف له أسراره المظلمة؛ حيث يصبح وسيطا نقديا بين النص والقارئ، وهي الوظيفة التي يشغلها -عادة- الناقد المحترف.
من أمثلة هذه النصوص الشارحة، في التراث العربي، ما صنعه ابن عربي في كتابه (ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق). وفي عصرنا هذا ما فعله الشاعر العراقي حميد سعيد في كتابه (الكشف عن أسرار القصيدة).
الحلقة الأولى