عندما وصل مقتلَعون فلسطينيون من ديارهم إثر نكبة 1948 بمئات الآلاف إلى الضفة الغربية، احتضنتهم المجتمعات الفلسطينية هناك ووفرت لهم المأكل والمأوى والملبس والطبابة، وغيرها، واعتنت بتنظيم تعاملهم مع السلطات الخدمية والرسمية (البلديات والمحاكم الشرعية)، لتخفيف المأساة عنهم، ولكي لا يعيشوا فوضى حياتية.
واضطلعت بلدية نابلس في شمال الضفة و«اللجنة العامة للعناية بشؤون النازحين العرب في فلسطين” و«اللجنة القومية العربية في نابلس” بقسط وافر من مسؤولية رعاية لاجئي حيفا ويافا واللد والرملة وقراهما، ظنًّا منها أنّ مسألة النزوح مؤقتة. ومع توالي السنين من دون أن تتيسّر هذه العودة، رغم صدور القرار 194 عن الأمم المتحدة القاضي بالسماح بعودة اللاجئين أو تعويض الحكومات أو السلطات المسؤولة من يقررون عدم العودة عن كل خسارة لحقت بهم، رضخت المنظمة الدولية وقبلت بإنشاء وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”. وعندما باشرت عملها في عام 1950 توقفت مساعداتُ البلدية واللجنتين الآنفتَي الذكر، مع أن عائلات كثيرة كانت محتاجة إلى استمرارها.
«التضامن”: وثائق فلسطينية صرف
يوضح المؤلفان في مقدمة كتاب التضامن في أوقات الأزمات أنّ الفكرة من وراء كتابة هذا النصّ التاريخي، تعود إلى هدفين: الأول كتابة فصل من التاريخ الفلسطيني في أبرز قضاياه وهو “اللجوء واللاجئون” من منظار الاعتماد على وثائق فلسطينية وعربية في الأساس. والثاني الكشف عن أهمية المجتمع المحلي ودوره في معالجة أزمات تقع عليه بفعل عوامل خارجة عنه، أو ليست في حدود مسؤولياته المباشرة. بمعنى آخر، إبراز دور هذا المجتمع في استقبال حالات نزوح كثيفة وغير مسبوقة تعرّّض لها جزء من شعبه، واستيعابها والعناية بها. وهذا موضوع تاريخي وأخلاقي واجتماعي وسياسي في الوقت ذاته. كيف يمكن أن يقف مجتمع محلي غارق في أزمة سياسية شملت عموم فلسطين، مساندًا جزءًا من مجتمعه تعرّض لأشكال مختلفة من الطرد والترحيل والاقتلاع من أرضه وبيوته وممتلكاته؟
الوثائق المستشهَد بها في الكتاب محفوظة في قسم الوثائق في المكتبة العامة التابعة لبلدية نابلس، وهي تسلّط الضوء على الدور التاريخي والإنساني للمجتمعات النابلسية ومجتمعات أخرى لم تلحظها الدراسة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتوفّر تفاصيل دقيقة تساعد في فهمٍ أوسع لأحداث عام النكبة وما تلاه، وتمكِّن من وضع نصّ سردي متكامل لرواية فلسطينية مسنودة بوثائق فلسطينية صرف، لا عبرية اعتاد مؤرخون فلسطينيون الاعتماد عليها من أرشيفات صهيونية سرقتها عصابات الدولة المغتصِبة من مكتبات فلسطين ومؤسساتها ونقلتها إلى العبرية، ولم ينجُ منها إلا قليل، منه وثائق “اللجنة العامة للعناية بشؤون النازحين العرب إلى نابلس”، التي غدت سندًا قويًّا لتعزيز الكتابة التاريخية الفلسطينية المستقلة.
عطاء أحادي الجانب مثير للاهتمام
تطرّق مؤلفا الكتاب، وفق منهج تاريخي سردي تحليلي، إلى حالة لجوء أخرى مشابهة خارج فلسطين، وهي هجرةٌ لم يشهد العالم مثيلًا لها منذ الحرب العالمية الثانية لمئات آلاف السوريين - ومن ضمنهم فلسطينيون - إلى أوروبا، وبخاصة ألمانيا، عام 2015، وعقَدا مقارنة تاريخية واقعية بين مجتمعات نابلس المضيفة من جهة وحالتين رئيستين في ألمانيا لسلطتين محليتين مشابهتين ببعض مركباتهما مع نابلس، وإنْ كان الفارق الزمني موجودًا، منطلِقَين من موادَّ في أرشيفاتِ كلٍّ منها تساعد في فهم أساليب استضافتها، وخصوصًا مع محدودية الإمكانات، التي تضطرها أحيانًا إلى الاستنجاد بالبلديات، وأحيانًا يتكفل التضامن والألفة والتقارب الاجتماعي- الثقافي بالأمر، كما في حالة العطاء النابلسي الأحادي الجانب المثير لاهتمامات دارسي الأنثروبولوجيا الحديثة، الذين يأملون في تفعيلها في المجتمعات الحديثة حين يظهر اللاجئون فجأة.
يحاول الكتاب إثبات أنّ ما دفع النابلسيين إلى التصرف بإيثار ليس الانتماء إلى الشعب والثقافة ذاتيهما فحسب، بل تقليد لديهم في مساعدة المحتاجين ولو بموارد محدودة، أما البلدان المضيفة الأخرى فمن باب الاهتمام بالتنوع الثقافي أو لضرورات دينية وقيم عالمية، أو بالتبرع لأسباب إنسانية، وغير هذا. وأثبت أن تعامل الحكومة والشعب الألمانيَين مع موجات الهجرة في العقد الأخير، ولَّد قناعة بإعادة حالة نابلس المنسية تكوين حالة مشابهة، وإن اختلفت في الظروف والمكوّنات.
يتناول الفصل الأول أحداث سقوط حيفا ويافا واللد والرملة وغيرها، وتدفق نازحيها إلى الضفة الغربية ونابلس وجنين وطولكرم، وغيرها. ويعرض الفصل الثاني الخلاف بين القيادات العربية، السياسية والعسكرية، حول كيفية التعامل مع النزوح وإيجاد حلول له بعد الانهيار العسكري أمام الكيان الصهيوني. أما الفصل الثالث، فيستعرض حلول السياسيين الفلسطينيين والعرب والأجانب لمعضلة استيعاب النازحين في أماكن وجودهم، ومواقف النازحين من هذا التوجه. ويعرض الفصل الرابع دور “اللجنة القومية” التي شكّلتها “الهيئة العربية العليا” بدعم من جامعة الدول العربية في المدن الفلسطينية ونابلس لرعاية النازحين. أمّا الفصلان الخامس والسادس، فيتمحوران حول تشكيل “اللجنة العامّة للعناية بشؤون النازحين العرب في فلسطين” من خلال أوراق اللجنة المتوافرة في مكتبة نابلس العامّة، وكذلك تشكيل اللجان المتخصصة الفرعية في القرى والمدن الأخرى لمواجهة تدفّق النازحين، وتفاعل المجتمع الفلسطيني مع النازحين. ويتحدث الفصل السابع عن الموقف الدولي إزاء قضية اللاجئين والتعريفات التوضيحية لمفاهيم متعلقة بالموضوع ذاته. أمّا الفصل الثامن، فيلقي نظرة تاريخية واقعية على كيفية تعامل مدينة نابلس مع أزمة النزوح التي حلّت بها عام .1948 ويتناول الفصل التاسع والأخير تعامل بلدة ألمانية شبيهة بنابلس مع الأزمة قبل سبعة عقود، باعتبار نموذج نابلس عام 1948 مميَّزًا من حيث تفاعل الأطراف المتداخلة في الأزمة، ويحلل طروحاتٍ في المساهمة العلمية والفكرية والتاريخية في تجسير الهوّة في موضوع اللجوء. وبناءً على استمرار الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ومن ثم، النزوح، يبقى نموذج نابلس مثاليًّا لفهم حالات نزوح ولجوء وهجرة في مواقع أخرى من العالم.
يشتمل الكتاب في آخره على مئات الوثائق والمستندات الخاصة بـ«اللجنة القومية العربية” و«اللجنة العامة للعناية بشؤون النازحين العرب في نابلس”، وهي تشكّل ذخيرة للمؤرخين والباحثين لتطوير ما بين أيديهم برؤية معاصرة.