فن أن تكـون دائمـًا علـى صــواب..

شوبنهـاور يشـرّح حيل الجــدال

سليمان.ج

يُعدّ كتاب “فن أن تكون دائمًا على حق: الجدلية المرائية” للفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور (L’Art d’avoir toujours raison: La dialectique éristique) نصًا فريدًا وعميقًا، لا يقدم مجرد قائمة من الحيل البلاغية، بل يغوص في أعماق الطبيعة البشرية، كاشفًا عن الدوافع الحقيقية وراء المناقشات والجدالات.. الفكرة المركزية التي يُعالجها شوبنهاور ليست كيفية البحث عن الحقيقة، بل كيفية الانتصار في الجدال، “بكل الوسائل الممكنة”، حتى لو تطلب الأمر التلاعب بالمنطق أو تجاهل الحقيقة الموضوعية.. إنه دليل تشريحي صارخ لسيكولوجية الجدال، مقدمًا “مجموعة استراتيجيات عدم الأمانة” التي يستخدمها الناس في سعيهم الدائم لأن يكونوا على حق.

يستهل شوبنهاور تحليله بتعريف الجدلية المرائية بأنها “فن الجدال، وهذا يعني، أن تكون دائمًا على حق، بأي وسيلة ممكنة”.. هذا التعريف الجذري يضع حجر الزاوية لكل ما يليه في الكتاب. فبينما يُعنى المنطق بالمبادئ الموضوعية للحقيقة (أي أن القول مطابق للشيء)، وتُعنى الديالكتيك (بالمعنى الأرسطي) بفن البحث عن الحقيقة من خلال النقاش، تأتي الجدلية المرائية كفرع مختلف تمامًا، لا يهتم بـ«الحقيقة الموضوعية للاقتراح” بل بـ«صلاحيته من حيث موافقة المعارضين والمستمعين”، ويُعد هذا التمييز جوهريًا؛ فالانتصار في الجدال لا يعتمد بالضرورة على صحة الحجة، بل على مدى إقناع المتلقين بها، وهو ما يُبرز النقطة الرئيسية لشوبنهاور: الهدف ليس الحقيقة، بل الانتصار.

ضآلـة الطبيعـة البشريــة والغرور الفطـري

لماذا ينحرف الجدال عن مسار البحث عن الحقيقة؟ يُرجع شوبنهاور ذلك إلى “ضآلة الطبيعة البشرية الفطرية”. فلو كان البشر “صادقين بطبعهم”، لكان هدفهم الأسمى في أي نقاش هو الكشف عن الحقيقة دون اعتبار لمصلحة شخصية، لكن الواقع، بحسب شوبنهاور، مغاير تمامًا، فـ«الغرور الفطري” المتأصل في الإنسان، وخاصة فيما يتعلق بـ«القدرات الفكرية”، يجعله يرفض قبول أن يكون رأيه خاطئًا أو أن رأي خصمه صحيح.. هذا الغرور يدفع الفرد إلى “التمسك بتأكيده حتى لو بدا له خاطئًا”، مدفوعًا بـ«الرغبة في أن يكون المرء على حق”
(la propension à avoir raison). وهو الميل المتأصل الذي يجعل البشر “ملزمين تقريبًا بأن يكونوا غير أمناء في الجدال، أو على الأقل يميلون قليلاً إلى ذلك”، وهي حالة طبيعية يُدافع فيها المجادل عن أطروحته “وكأنه يدافع عن مذبحه وموقده” (pro ara et focis)، حتى لو كانت هذه الأطروحة خاطئة.
هذه النظرة الساخرة للطبيعة البشرية، تُبرر وجود “الجدلية المرائية”. إذا كان الهدف الحقيقي للبشر في النقاش هو الانتصار وليس الحقيقة، فإن هناك حاجة لدراسة الأساليب التي تُمكنهم من تحقيق هذا الانتصار، ولا يحكم شوبنهاور أخلاقيًا على هذه الظاهرة، بقدر ما يصفها ويشرح آلياتها، معتبرًا أنها جزء لا يتجزأ من السلوك البشري في المواجهات الفكرية.

آليــات الدحــض..

يُصنف شوبنهاور طرق الدحض إلى طريقتين رئيسيتين: الدحض المباشر (Ad rem): يُهاجم هذا النوع من الدحض الحجة في جوهرها، مُبينًا أن “أطروحته (أي أطروحة الخصم) خاطئة”. يمكن أن يتم ذلك إما عن طريق “إنكار مقدمات أطروحة الخصم”
(Nego majorem/minorem) أو “إنكار النتيجة” (Nego consequentiam) التي تتبع منها. أي أن المجادل يُظهر أن المقدمات التي بنى عليها الخصم حجته خاطئة، أو أن النتيجة التي توصل إليها لا تنبع منطقيًا من تلك المقدمات.
أما الطريق الثاني فهو الدحض غير المباشر (Ad hominem)، وهنا، يُهاجم الدحض أطروحة الخصم ليس بناءً على خطئها الموضوعي، بل بناءً على تناقضها مع شيء آخر قاله الخصم نفسه أو يؤمن به. يقول شوبنهاور: “نعترف بصحة أطروحته، لكننا نوضح أنها تتناقض مع تأكيد آخر له أو مع مبادئ مدروسة أو مسلمات يؤمن بها الخصم، أو مع أفعال الخصم”. هذه الطريقة لا تُثبت بالضرورة أن أطروحة الخصم خاطئة موضوعيًا، بل تُظهر عدم اتساق الخصم، مما يفقده مصداقيته أمام الجمهور. يمكن أن يتم ذلك عبر التأصيل (Apagoge/Reductio ad absurdum)، إذ يتم افتراض صحة أطروحة الخصم، ثم يتم إظهار أنها، بالاشتراك مع حقائق أخرى صحيحة ومعترف بها، تؤدي إلى “نتيجة خاطئة بشكل واضح” أو “سخيفة”. وهذا يُجبر الخصم على التخلي عن أطروحته لتجنب النتيجة السخيفة.

أما المثال المضاد (Instantia/Exemplum in contrarium)، فهو يبرز عندما تكون أطروحة الخصم عبارة عن تأكيد عام، يتم “إظهار حالة واحدة، أو حالات قليلة، تندرج تحت التأكيد ولكنها لا تنطبق عليه، وهكذا يتم دحضها”. مثال واحد مضاد يكفي لإبطال قضية عامة.

استراتيجيــات الجــدال..

يُقدم شوبنهاور قائمة شاملة من الحيل (Stratagèmes) التي تُستخدم لتحقيق الانتصار في الجدال، وهي تُشكل جوهر الكتاب وتُظهر براعته في تحليل السلوك البشري. هذه الحيل تتراوح بين التلاعب اللغوي والتشتيت النفسي والهجمات الشخصية، فالمجادل الذي يبحث عن “الانتصار” يحتال من أجل توسيع الموضوع، وهذه – وفق شوبنهاور - حيلة بارعة تتضمن “مد تأكيد الخصم إلى ما وراء حدوده الطبيعية، وتفسيره بأكثر الطرق عمومية ممكنة، وأخذه بالمعنى الأوسع الممكن والمبالغة فيه”. وفي المقابل، يتم تقليص تأكيد المتجادل نفسه إلى أضيق الحدود. هذا يهدف إلى جعل حجة الخصم تبدو سهلة الدحض لأنها مُبالغ فيها.
الحيلة الثانية تتمثل في استغلال الاشتراك اللفظي (L’homonymie)، وهي تعتمد على استخدام كلمة تحمل معنيين لغويين مختلفين، ولكن يُنطقان بنفس الطريقة، لربط حجة الخصم بمعنى غير مقصود، ثم يتم دحض هذا المعنى الزائف بوضوح، ويرى شوبنهاور أن نجاح هذه الحيلة، يكون مضمونا إذا كانت الكلمة التي تحمل المعنيين “قريبة بما يكفي إلى درجة عدم ملاحظة التبديل”.
تحويل النسبي إلى مطلق.. هذه الحيلة الثالثة، تأخذ تأكيدًا أدلى به الخصم في سياق معين، أو بشروط محددة، وتجعله يبدو كأنه تأكيد عام ومطلق، ثم يُدحض هذا التأكيد المطلق، مما يوحي بأن الحجة الأصلية للخصم قد تم دحضها، لتأتي الحيلة الرابعة، وهي استراتيجية في الجدال، لأنها تستدعي “إخفاء الاستنتاج”، فبدلًا من عرض المقدمات والاستنتاج بوضوح، يتم “الحصول على المقدمات كل على حدة ودون نظام، من خلال أسئلة تُطرح هنا وهناك”. هذا يشتت انتباه الخصم ويمنعه من استباق النتيجة النهائية التي ستقوده إلى الهزيمة.
الحيلة الخامسة شريرة للغاية، وهي تتمثل في استخدام مقدمات كاذبة، إذ يمكن للمجادل الباحث عن الانتصار (عوضا عن الحقيقة) أن يستخدم مقدمات كاذبة، خاصة إذا كان يعلم أن الخصم لن يقبل المقدمات الحقيقية، ويتم تقديم هذه المقدمات الكاذبة إما كـ«اقتراحات خاطئة في حد ذاتها ولكنها صحيحة من منظور الخصم
(ad hominem)” أو كـ«افتراضات صحيحة، ولكنها لا علاقة لها بالموضوع”، أو حتى “توسل المصادرة” (petitio principii)، أي افتراض صحة ما يراد إثباته.
الحيلة السادسة تقتضي تسمية الأشياء باسم آخر (Dénominations)، إذ يمكن استخدام تسميات مختلفة لشيء واحد، ولكن بظلال معنوية مختلفة. فإذا كانت صفات الخصم مُتعمدة أو تُثير اشمئزاز الجمهور، يمكن استخدام “تعبيرات مهينة”. على سبيل المثال، بدلاً من “إيمان”، يمكن القول “خرافة”؛ وبدلاً من “ورع” يقال “تعصب”، وهذا كفيل بتغيير تصور الجمهور للحجة.
ولا شكّ أن المجادل يبالغ في كل شيء، فالحيلة السابعة تقتضي المبالغة في السؤال (Exagérer les questions)، وإذا كان الخصم يتهرب من سؤال معين، يجب “الإصرار على نقطة معينة في الاعتراض”. وهذا يُربك الخصم ويُظهر للجمهور تردده.
ولا تتوقف الحيل التي يشرّحها شوبنهاور عند هذا الحدّ، ولكنها تتوسع أكثر إلى حيلة “استفزاز الغضب” (Rendre l’adversaire coléreux)، فـ«إذا كان الخصم يغضب من حجة معينة، فيجب استخدام هذه الحجة بشدة”، ذلك أن الغضب يُفقد الخصم قدرته على الحكم السليم، ويُفقده التركيز، ويُفسد المنطق، ما ينتقل بنا إلى الحيلة التاسعة، وهي “التشتيت وتغيير الموضوع” (Mutatio controversiae/La diversion) التي تُستخدم عندما يشعر المجادل أنه على وشك الخسارة. فيسارع إلى “تغيير الموضوع” إلى نقطة أخرى لا علاقة لها بالموضوع الأصلي، أو حتى بموضوعات فرعية، وذلك لإلهاء الخصم وتحويل الانتباه عن نقاط الضعف الخاصة به، يمكن أن يكون هذا التشتيت “خجولًا” أو “جريئًا” حسب قوة تأثيره.
ولا يتورع الباحث عن الانتصار عن “الهجوم الشخصي (argumentum ad personam)، وهذه هي الحيلة النهائية والأسوأ، فعندما يُدرك المجادل أنه لا يستطيع الفوز بالحجج المنطقية، فإنه “يقول كلامًا مهينًا ومؤذيًا وفظًا”.. هذا يعني “مغادرة موضوع الجدال.. والانتقال إلى الخصم، ومهاجمته بطريقة أو بأخرى في شخصه”، بقصد الإساءة للخصم بشكل شخصي، مما يُربكه ويفقده تركيزه، أو يدفعه إلى الرد بنفس الطريقة مما يُفقده مصداقيته أمام الجمهور.
الاستئناف إلى الجمهور (Ad auditores)، بدروه حيلة فاعلة تُستخدم عندما يُدرك المتجادل أنه يخسر أمام الخصم، لكنه يعتقد أن الجمهور أكثر استعدادًا لقبول حجته. يتم طرح “اعتراض غير صحيح” لكنه “يبدو صحيحًا” للمستمعين الذين ليسوا خبراء في الموضوع، إضافة إلى حيلة مصادرة المطلوب (Petitio principii)، وهي أن يتم إدراج ما يجب إثباته ضمن مقدمات الحجة، وكأنه أمر مسلم به، مع اللجوء إلى حيلة “التحدي للتعريف” (Exiger la définition) عندما يضطر الخصم للمرواغة أو التهرب من تحديد موقفه، فيُطلب منه “تحديد أطروحته بدقة شديدة أو تحديد بعض كلمات التعبير”، إضافة إلى تفنيد الخصم بالقول والفعل بإظهار أن ما يفعله يناقض ما يقوله، مع استخدام “الاستقراء المضلل”
(Utiliser l’induction trompeuse) من خلال عرض أمثلة فردية صحيحة، تستغل في استنتاج قواعد عامة خاطئة، أو مبالغ فيها.

الغرض الأسمى للكتـاب..  فضــح التلاعـب

خلافًا لتفسيرات خاطئة شائعة، فإن “فن أن تكون دائمًا على صواب” ليس دعوة للعبث بالمنطق أو الترويج للسفسطة. بل هو “كتيب دفاع ذاتي” في عالم مليء بالنقاشات غير الشريفة.
ويرى شوبنهاور أن الغرض الحقيقي للجدلية المرائية ليس تعليم المرء كيف يكون ماكرًا، بل جعله “مدركًا لهذه الحيل” و«قادرًا على التعرف عليها” عندما يواجهها. فـ«الوعي” يُمكّن الفرد من “دحضها” بفعالية. إذ يؤكد الفيلسوف المرح أن “الهدف ليس فقط أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا من خلال دحض حجج الآخرين، بل أيضًا أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا من الحيل التي يستخدمها الخصوم”.
في النهاية، يُقدم شوبنهاور تحليلاً جريئًا وغير مريح للطبيعة البشرية. ويُجبرنا كتابه على مواجهة حقيقة أن الجدالات غالبًا ما تكون “ساحات قتال” لإثبات الذات، وليست دائمًا رحلات تعاونية نحو الحقيقة. في عصر تتفشى فيه المعلومات الخاطئة والنقاشات المستقطبة، يُظل “فن أن تكون دائمًا على صواب” نصًا ذا أهمية بالغة، يُقدم بصيرة لا تقدر بثمن في آليات الإقناع والتلاعب التي تُشكل جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.. إنه بمثابة دليل توجيهي لكل من يسعى لفهم، ليس فقط كيف يفوز بالجدال، بل كيف يتجنب الوقوع في فخاخ أولئك الذين لا يهتمون بالبحث عن الحقيقة، قدر انشغالهم بتحقيق انتصارات شخصية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19819

العدد 19819

الخميس 10 جويلية 2025
العدد 19818

العدد 19818

الأربعاء 09 جويلية 2025
العدد 19817

العدد 19817

الثلاثاء 08 جويلية 2025
العدد 19816

العدد 19816

الإثنين 07 جويلية 2025