الدكتور نورالديـن السـد يقرأ للروائية حنان بوخلالة

”سوسطارة” تنحت سرديـــة مقاومـة جديـدة

الأستاذ الدكتور نورالدين السد

 نمـوذج سـردي فريـد يُقـارب التجربــة الإنسانيــة مـن داخـل تمزقاتهــا

 الكلمـة فـي “سوسطـارة” تتحـول إلى ساحـة صـراع بــين المعنـى والصمـت

البنيـة السرديـة المقلوبــة تكشـف عـن وعـي سردي يـــرفض الخاتمـة

«سوسطارة”.. رواية تستحضر صوت الأنثى، عبر سرد متداخل الأصوات والمستويات الزمنية، من خلال شخصية زينب التي تسكن حي “سوسطارة”، وتواجه أزمتها الوجودية بين الحب والخذلان، وبين الذكرى والنسيان.
تبدأ الرواية بمأساة اختفاء والد زينب في ظروف العشرية السوداء، ثم تتوالى الأحداث مركزة على علاقتها بـ«عليلو”، ثم بـ«يوسف”، وتحوّلاتها النفسية والاجتماعية في ظل واقع سياسي مضطرب..
«سوسطارة”، تروي قصة حياة زينب، الشابة التي تعيش في حي شعبي يعكس بشكل مكثف التحديات الاجتماعية والسياسية التي عاشها المجتمع الجزائري خلال العشرية السوداء.. رواية تأخذ القارئ في رحلة مع زينب في ظل واقع مليئ بالخذلان والأمل المفقود، وتسلط الضوء على معاناتها النفسية والاجتماعية، وعلى صراعها الداخلي بين الحب والنسيان، بين الانتماء والضياع وبين المأساة الشخصية والظروف السياسية المتقلبة.

تبدأ الرواية بمأساة اختفاء والد زينب، في فترة مليئة بالعنف والاضطرابات السياسية، حيث كان العديد من الناس يختفون في ظروف غامضة، وعاشت زينب صدمة هذه المأساة منذ صغرها.. اختفاء والدها لا يعني فقط فقدان شخص عزيز، بل كان بمثابة بداية لأزمة وجودية كبيرة في حياة زينب، فغياب الأب جلب معه كثيرا من الأسئلة حول الهوية، والعدالة، والمستقبل، هذه الفجوة في حياتها كانت دافعًا قويًّا لتسعى نحو إيجاد المعنى في حياتها، وفي عالم يبدو ملبدًا بالظلام.
يُبرز السرد في هذه المرحلة التشتت النفسي لزينب، التشتت الذي يتجسد في إغراقها في الذكريات تارة، والعيش في الحاضر تارة أخرى، إن غياب الأب ينعكس على حياتها العاطفية والاجتماعية، ويجعلها تشرع في رحلة من البحث عن هوية ضائعة، حيث لا تستطيع زينب فَهم أو تفسير الأحداث التي تمر بها، وفي هذا المعترك تبدأ علاقة زينب بـ«عليلو” وهي العلاقة التي تمثل بالنسبة لها الأمل المفقود في الحب، “عليلو” ليس فقط حبيبها، بل هو أيضًا رمز للوطن المفقود، والمستقبل الذي كان يبدو في يوم من الأيام مشرقًا قبل أن تظلمه الأحداث السياسية، العلاقة بـ«عليلو” تبدأ بمشاعر حب وطموحات مشتركة، لكن سرعان ما تتبدد هذه الأحلام عندما يكتشف كل منهما أن حبهما لا يمكنه النجاة في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية القاسية التي تحيط بهما، حب زينب لـ«عليلو” يبرز بشكل واضح الصراع بين الواقع والأمل، الرواية هنا تعكس كيف أن الشخصيات، سواء كانت في علاقة حب أم لا، غالبًا ما تكون ضحية للوضع السياسي، الذي يعصف بها ويقوض علاقاتها العاطفية، العلاقة بين زينب و«عليلو” تصبح صراعًا داخليًا لكل طرف، يحاول فيه الآخر أن يهرب من أحزانه وألمه الداخلي، لكن في النهاية، يلتقيان بمصير يشبه الخذلان.

ماضٍ يطارد ومستقبل غامض

أما علاقة زينب بـ«يوسف”، فتأخذ منحنى مختلفًا، فـ«يوسف” يمثل الشخص الذي تحاول زينب أن تجد فيه الأمان والطمأنينة بعد سلسلة من الخيبات، هذه العلاقة تختلف عن سابقتها لأنها تنطوي على محاولات لفهم الذات في إطار علاقة تحكمها أبعاد نفسية وعاطفية أكثر تعقيدًا، يوسف ككل الشخصيات الأخرى في الرواية، يعكس واقعًا اجتماعيًا معقدًا، وحالة من الفوضى النفسية، حيث لا يمكن للعلاقة أن تستمر بدون أن تترسخ في الأرض الوعرة للواقع الجزائري المأزوم آنذاك.
 إن زينب على الرغم من بحثها المستمر عن الحب والأمان، تجد نفسها محاصرة بين الماضي الذي يطاردها والمستقبل الذي يظل غامضًا. في علاقتها بـ«يوسف”، تحاول زينب أن تهرب من ذكريات والدها المفقود، ولكن يظل هذا الهرب غير مكتمل، حيث يظل الحنين للماضي هو المهيمن في وجدانها.
التحولات النفسية والاجتماعية التي تمر بها زينب في الرواية تشكل جوهر الحكاية، من خلال أحداث الرواية، تظهر زينب باعتبارها شخصًا يعاني من الازدواجية، بين احتفاظها بالذكريات، ومحاولاتها المرهقة لتجاوز واقعها المأساوي، الرواية تجسد الصراع النفسي العميق لزينب بين حبها لذاتها، وحبها للمحيط الذي يسعى إلى تحطيمها، ويُمكن اعتبار زينب بمثابة نموذج للمرأة الجزائرية في فترة ما بعد الاستقلال، التي تواجه تحديات على مستوى الهوية والحقوق في مجتمع يعج بالتناقضات، فالتحديات الداخلية التي واجهتها الجزائر، تدفع زينب إلى مواجهات مع الآخرين ومع نفسها.

واقع الجزائر في العشرية الســوداء

الرواية تعكس بوضوح الأوضاع السياسية المضطربة في الجزائر خلال العشرية السوداء، حيث كان المجتمع يعيش حالة من الاضطراب والصراع بين الجماعات المسلحة والسلطة، والسرد المتداخل بين الأزمنة يعكس كيف أثرت هذه الأوضاع السياسية على حياة الأفراد، وتحديدًا حياة زينب، إذ تتداخل الأحداث الشخصية لزينب مع الأحداث السياسية التي كانت تعصف بالبلاد، مما يخلق صورة مقلقة عن الوضع الاجتماعي والنفسي للجزائريين خلال تلك الفترة.
تسعى زينب طوال الرواية إلى إيجاد إجابات لأسئلتها الوجودية: لماذا اختفى والدها؟ لماذا هي ضحية هذه المعاناة؟ لماذا لا يمكنها أن تجد الحب الحقيقي في ظل هذا الواقع؟ كل هذه الأسئلة تجعل من الرواية سردًا يعكس الفوضى الداخلية في وقت كان فيه الأمل ضعيفًا، والظلام يحكم البلد.
تبقى خاتمة رواية “سوسطارة” مفتوحة للتآويل المتعددة، فرواية “سوسطارة” تنتهي بنهاية لا تترك  القارئ مع حل أو تفسير واضح، بل تبقى الشخصيات في حالة من البحث الدائم عن معاني وجودها، هذه النهاية المفتوحة تتيح للقارئ أن يؤول النص تآويل شتى، ومع ذلك فإن في الصفحات الثلاثة الأخيرة (129 +130 +131) في رواية سوسطارة تتجلى شاعرية السرد من خلال تواشج العاطفة بالحياة اليومية، حيث يُبنى الخطاب على تكرار شعوري و«تأنيس” الأماكن والشخوص (المستشفى، سوسطارة، يوسف...). يتكثف الأسلوب عبر التداخل بين الصوت السارد والصوت الداخلي، مما يولّد إيقاعًا تأويليًا يعكس الحنين والبحث عن المعنى وسط الألم والانتظار، نلاحظ هيمنة “الساردة المهيمنة” التي تعيد تشكيل الواقع عبر التأويل الذاتي والذاكرة الجمعية، كما في الأغنية الشعبية التي وظفت في الرواية كجسر رمزي بين الذاتي والذاكرة الجمعية، إن رواية سوسطارة تستبطن فلسفة للحياة قائمة على التقدم رغم الجهل بالنهايات، مما يمنحها عمقًا وجوديًا وتداولية شعورية عالية.

مقاومـة.. تاريــخ وذاكرة

يحضر المكان في “سوسطارة” كحيز دلالي ممتلئ بالمقاومة والتاريخ والذاكرة، بينما تؤدي الشخصيات أدوارًا سردية متعددة، خاصة شخصية الأم، ويوسف، وعليلو، والساردة نفسها، التي تكشف عن عمق الذات النسوية المتألمة من واقع الاستلاب والتهميش الاجتماعي والعاطفي، والرواية تعتمد بنية سردية متداخلة، حيث تتقاطع الرسائل (بين زينب وعليلو)، والحوارات، والتداعيات الداخلية، والذكريات، لتشكّل لوحة شديدة الإيحاء عن جيل يعيش على هامش المدن والذاكرة الوطنية، كل هذا يُعرض بأسلوب شعري رائق، متوتر، ينضح بالألم والأسى، ولكنه لا يخلو من روح التحدي.
تُعد رواية “سوسطارة” عملاً سرديًا يتجاوز التصنيف النوعي، لتتحول إلى نصٍّ يؤسس عبر اللغة، والتشظي، والذاكرة، مقاومة متعددة المستويات، لا تنحصر في السياسي أو الاجتماعي، بل تمتد إلى الأنطولوجي، إذ تتحول الذات إلى سؤال، والغياب إلى تكوين، والكلمة إلى ساحة صراع بين المعنى والصمت.
تقاطع الهوية السردية مع التناص الذاتي، أي كيف تتداخل أنا الساردة مع أنا المؤلفة، وكيف تتم إعادة تشكيل الذات عبر عمليات السرد لا بوصفها كيانًا واحدًا، بل بوصفها بنية متغيرة ومتماوجة.

نجاة مؤقتـة

والكتابة عند بوخلالة ليست حرفة بل فعل نجاة، في (ص48) تقول: “الكتابة لا تنقذني، لكنها تؤكد أنني كنت هنا”، وفي (ص34) تقول: “أبني الجمل كجدار يفصلني عن الانهيار”. اللغة تُستخدم كقناع لا لقول الحقيقة بل لسترها، كل جملة تُبنى لتخفي، لا لتفصح، وهكذا تتحول الكتابة إلى مأوى شعوري داخلي.
في “سوسطارة”، لا يمكن القول إن زينب هي البطلة ببساطة، بل تظهر في طبقات من السرد، تتخللها الشكوك، والتصدعات، وإحالات لا تنتهي إلى مؤلفة تختبئ ولا تتوارى. في (ص48) تقول: “حين أنهيتُ آخر سطر، شعرت أنني ما بدأتُ شيئًا، أنني أعدتُ فقط جمع ما تناثر مني”. هذه الجملة تعيدنا إلى أن لحظة الكتابة ليست خاتمة، بل ولادة متكررة للهوية، لا تكتمل، بل تنحلّ وتُعاد تركيبها.
نلاحظ أن الساردة لا تحكي باسم “أنا” ثابتة، بل عبر أنا تتغير بنبرتها، وبعلاقتها مع ذاتها، ومع اللغة. تقول (ص30): “هل كنت أنا؟ أم أنني أقنعت نفسي أنني أنا؟”. هذا السؤال يفتح البنية السردية على تشكيك ميتاسردي، حيث لا تُسلّم الذات بمرجعيتها، بل تعرضها للانهيار، ثم تعيد تشكيلها لغويًا.
في (ص42) تقول: “كلما كتبت عنها، شعرت أنني أكتبني، وكلما ابتعدت عن التفاصيل، عرفت أنني أهرب مني”، هذه الجملة تشير إلى تناص الذات مع ذاتها، أي أن عملية الكتابة تُعيد إنتاج الهوية لا كمصدر، بل كمفعول سردي، والذات هنا ليست أصلًا يُروى، بل نتيجة تتشكل عبر الرواية.
هذا التناص الذاتي يمكن قراءته في ضوء طروحات بول ريكور، خصوصًا حين يميز بين “الهوية المتطابقة” و«الهوية السردية”، أي أن الذات لا تبقى هي هي، بل تتغير عبر ما تسرده عن نفسها، في ضوء ذلك، يمكن أن نفهم قول زينب (ص31): “أخاف أن أتوقف عن الكتابة، لأنني حينها سأضطر أن أكون شخصًا واحدًا فقط”، هذا الخوف من التوحد، من الثبات، يعكس وعيًا بنيويًا بأن التعدد هو شكل الحماية من الانهيار.
في تقاطع مع أفكار جوديث باتلر، تظهر الذات في الرواية كمنتَج اجتماعي وهوياتي هشّ.. تقول زينب في (ص40): “أنا لا أعرف إن كنت أنا التي كتبت كل هذا، أم أنني تعلمت الكتابة من كوني امرأة مكسورة”. في هذا التصريح، يُعاد ربط الهوية بالتجربة الجندرية، لا بوصفها بيولوجيا، بل بوصفها ذاكرة جسدية، وصدًى لغوي للخذلان.
إننا أمام نص ينتج ما نسميه: الهوية المتشظية ذاتيًا، حيث تتحدث الساردة عن نفسها من الخارج، وتعيد كتابة ماضيها لا لتفسيره بل لتفجيره، في (ص33) تقول: “ربما أنا لستُ زينب. ربما هي فقط التي تحمل حزني”، هذا الفصل الداخلي يشرّع إمكانية تأويل الرواية بوصفها ليست فقط سيرة، بل خطة دفاع لغوي ضد اختزال الذات في تجربة واحدة.

الحب بنيـة إدراكية قابلـة للانهيـار

 الحب في رواية “سوسطارة” لا يقدم كعاطفة إنسانية، بل كبنية إدراكية قابلة للانهيار، ومن ثم تحليل لحظة الانفصال بوصفها نفيًا للتماهي، لا مجرد نهاية علاقة، ففي لحظة الانكسار يتم تحويل الحب من وعد بالاكتمال إلى شكل من التدمير الداخلي، وبانهيار المحبة تنهار اللغة تحت ضغط التجربة الوجودية.
تقول زينب في لحظة محورية من الرواية: “كنت أظن أنني أعرفه، كنت أظن أنني أعرفني حين أحببته. الآن لا أعرف شيئًا سوى أنني خُدعتُ بي” (ص34)، هذه العبارة لا تعبّر عن خيبة عاطفية عادية، بل عن انهيار الإدراك الذاتي، حيث يصبح الحب مرآة مشوّهة أسقطت على الذات صورة مزيفة عن نفسها، فليس الحبيب فقط من يخون، بل إدراك البطلة ذاته؛ لقد بنت تصوّرًا عن نفسها داخل الحب، وحين تفكّك، تهاوت معه ثقتها بهويتها، وهنا يطرح مفهوم الخذلان الإدراكي.
تقول في موضع آخر: “كان يعني لي الوطن، البيت، الغد، ثم صار رقما في هاتفي لا أجرؤ أن أمسحه ولا أن أتصل به” (ص29)، هذا التوتر بين الحذف والاحتفاظ يُظهر ترددًا سيميائيًا فريدًا: الحب لم يُمحَ، لكنه خرج من حيّز اللغة إلى حيّز الرمز المجمَّد، لم يعد اسم الحبيب ينطق، بل يتحول إلى أثر لا يزول، وهذا يقودنا إلى مفهوم الرمز المجروح؛ حيث يتحول اسم الحبيب إلى أثر بصري (رقم/ اسم/ محادثة محفوظة) غير ناطق لكنه جارح. في (ص31) تقول: “الرسائل القديمة مازالت هناك، لا أفتحها، لكنني لا أحذفها. كأنها تراقبني لأتأكد أنني لا أعود”.
هنا تصل الرواية إلى ذروة الانفصال المؤجل، والحذف لا يقع، لكنه يُعاش بوصفه فعلًا داخليًا لا يحتاج إلى إجراء تقني، إن الانفصال لا يتم في الزمن الخارجي، بل في الإدراك الداخلي.
تصل الرواية إلى ما نسميه “بلاغة الانفصال الكامل” حين تقول زينب: “لم أعد أريده، لا لأنني نسيت، بل لأنني لم أعد أجدني معه” (ص36)، الانفصال هنا ليس نتيجة صدمة، بل تحول جوهري في البنية الداخلية للوعي، لم تعد البطلة تطلب من الآخر شيئًا، بل انسحبت منه لأنها لم تعد تجد ذاتها ضمن نظامه العاطفي، وهذا يمثل استعادة سيادة الوعي على الهوية.

استعـادة التـوازن

تمزيق صور الحبيب، لكن بوظيفة تأويلية عكسية. تقول: “مزّقتُ صورته أمامي، لكن في داخلي بقي وجهه كما هو، كأن وجهي أنا هو الذي تمزّق” (ص39)، هنا يتقاطع الرمزي مع النفسي: الحبيب يُمزَّق جسديًا، لكن الانقسام يقع على الذات، هذا يُعيد تمثيل الحبيب بوصفه مرآة مقلوبة، وكل ما فعله هو أن كشف لها ما كانت تحاول أن تخفيه عن نفسها، وجسد اللايقين العاطفي كأداة بلاغية، والأمل المعطّل كبنية سردية مستمرة، ويتحول الحبيب إلى شاهد على هشاشة الذات لا على اكتمالها...

الدلالات الرمزية الوجودية للعلامات

الدلالات الرمزية لعلامة النافذة بوصفها أفق انتظار مفتوح، من هذه العلامات الباب: كدالة شعورية داخلية، والضوء: تمثيل تعبيري للهشاشة، والمطر: رمز مناخي شعوري صامت ومقاوم، والطفولة كمخزون رمزي في البنية اللاواعية للرواية كل هذه العلامات وسواها هي عبارة عن رسائل غير مرسلة وهي موظفة كاستعارة للخطاب المعطل.
أما المكونات الأسلوبية، فالرواية تستعمل لغة مكثفة، شعرية، مشحونة بالاستعارات والتشبيهات (“كنتُ قطة تختبئ في صدره...”)، ونلاحظ التكرار الأسلوبي: يتكرر ذكر كلمات مثل “لا أحد”، “الوحدة”، “الحزن”، ما يعمق التيمة الوجودية، وتستعمل السرد الذاتي: ويتم الحكي من منظور نسوي داخلي، يسلط الضوء على التجربة الفردية وسط عالم قاسٍ.
بينما المكونات البنيوية للرواية، فهي تعتمد البنية الزمنية غير الخطية، حيث يتداخل الحاضر مع ذكريات الماضي (العشرية السوداء، الطفولة، العلاقة مع الأب المختفي)، كما تعتمد التعدد الصوتي: تعدد الأصوات (زينب، يوسف، عليلو، ياسمين) مما يثري النص ويوسع أفق التلقي، وتستعمل تقنيات الحذف والفراغ مثل غياب الأب، اختفاء عليلو، توحي بعالم مأزوم تغيب فيه الحقيقة واليقين.
أما وظائف الشخصيات وأبعادها الفنية والجمالية والدلالية في رواية سوسطارة: فنجد شخصية زينب: وهي الشخصية المركزية، حاملة الوعي السردي، تتحول من فتاة مهزومة إلى امرأة مقاومة بالصمت والكلمة، وشخصية الأب وهو رمز الجيل المُغتال سياسيًا وثقافيًا، يمثل حلمًا ضائعًا ومأساة وطن، شخصية عليلو وهي شخصية رمزية تمثل الهرب، الإفلات، واللامعنى، وشخصية يوسف وهو رجل يحب من موقع الهامش، ويقدم الحنان في عالم بارد، وشخصية الأم وتمثل سلطة قمعية تعكس مأزق المرأة المضطهدة داخل النظام الأبوي.
أما وظيفة المكان الدلالية فتهيمن عليه “سوسطارة”، إن حي “سوسطارة” ليس مجرد مسرح للوقائع، بل هو ذاته شخصية سردية متعددة الطبقات والدلالات، إنه المكان الذي يستبطن التاريخ السياسي العنيف (العشرية السوداء)، والخيبات الاجتماعية، والانهيارات الجندرية، ويحتوي في آنٍ سردية الحي الذي قاوم، وانهار، ثم استحال إلى سردية شفاهية تتداولها النساء، نلاحظ أن الكاتبة تمنح للمكان وظيفة أرشيفية بديلة، تتحول فيها الأحياء الشعبية إلى مستودعات للذاكرة المقاومة، تقف ضد النسيان الرسمي، وهذا يتجلى بوضوح في تعبير الساردة عن “سوسطارة” التي “تسكنها الشمس”، إشارة إلى مركزية التجربة النسوية في المكان المهمش.
«سوسطارة” ليست مجرد حي شعبي، بل تمثل الذاكرة الجماعية، وحقل المقاومة ضد التهميش، كما يتجلى المكان في البيت: باعتباره فضاء للخنق والإقصاء العاطفي، والمقهى، والسيبار، والشارع الذي يمثل فضاءات العبور والانتظار والانكشاف.
ومن العلامات الموظفة في الرواية والحاملة لأبعاد سيميائية ودلالية في الرواية نجد “السلسلة” التي تعد علامة دالة على الرابط العاطفي والهوية الموروثة (هدية الأب، رمز الذكرى)، و«المنديل”: يمثل الحنان والذكورة الراقية، يرمز للحب النبيل في زمن القسوة، و«المندول” آلة موسيقية ترمز للهوية الفنية المفقودة والقمع الثقافي باسم الدين.

الأبعـاد الوظيفيــة للخطـاب السردي

يشتغل الخطاب بوظيفة مقاومية ضد النسيان، ضد السلطة الذكورية، ضد التواطؤ السياسي.
إن هذه الرواية تحمل دلالة وظيفة تذكيرية/ أرشيفية: عبر استرجاع أحداث العشرية السوداء، كما تحمل وظيفة تفكيكية للخطاب الرسمي وتبيان تناقضاته، خاصة في قضايا المفقودين والمرأة خلال العشرية.
الرواية ترصد هشاشة العدالة الانتقالية وتغوص في عمق الأبعاد الثقافية والسياسية والاجتماعية في الواقع، وتنتقد العنف الرمزي الذي يمارسه المجتمع الذكوري على المرأة، وتحاكي تحولات الهوية النسوية في المجتمع الجزائري المعاصر، وتشير إلى مسألة مصير المفقودين والأمهات اللواتي يعشن الفقد الذي خلفته تلك المرحلة المأساوية بكل ما يحمله من ألم وحنين.

التناصات والمرجعيـات الثقافيـة

 تخلل الرواية التناص الديني: مع مفردات كـ«العدة”، “الاستغفار”، و«المعروف” ضمن نقد للخطاب الديني المهيمن آنذاك، وتخللها تناص سياسي: استحضار “المصالحة”، والمظاهرات، وقضايا المفقودين، كما وظفت التناص الشعري والفني: مع ثقافة الشعبي (راشدي، المندول)، والسينما (هاري بوتر)، والأسطورة (عروس البحر)، والتناص الشعبي الجزائري من الأمثال، والحكايات، والأغاني، وخاصة في ساحة الشهداء.
رواية “سوسطارة” ليست فقط شهادة نسوية، بل هي بيان سردي مقاوم، يُعيد تشكيل المشهد الثقافي والسياسي الجزائري من داخل أزقة “سوسطارة”، وهذه الرواية تستحق أن تُقرأ كـ«أدب مقاومة سردي”، يعلن تمرده على التاريخ الرسمي، والذاكرة المنتقاة، والسلوك والقهر الاجتماعي المتخلف، إنها نص يفضح الخذلان بكل أشكاله.
إن هذا الخطاب الروائي يُفجّر البنية السردية التقليدية عبر تبني شعرية الوجع الأنثوي، وبدل أن تكتفي الكاتبة بالبكاء على الأطلال، تُحيل الرواية إلى مساحة تأريخ ذاتي بديل، حيث البطلة تكتب، تحكي، تتذكر وتقاوم بالكلمات ما لم يقاوم بالسلاح.

البنية البصريــة للنـص الروائـي

البنية البصرية للكتابة وتوزيع البياض كأداة سردية، وتمثلات الفقد كمنظومة سردية توليدية، إن البياض، والشذرات، والفراغ أدوات للقول المقموع في رواية “سوسطارة”، وهي تقنيات في الكتابة الروائية لها تفسيرها، إذ لابد من معرفة أن المعنى لا يبنى فقط على ما يُقال، ويكتب، بل على ما يُحذف عمدًا أيضا، فالمساحات البيضاء بين المقاطع، والفراغات التي تفصل بين العبارات، وحتى التحول المفاجئ بين الأسطر، تشكّل كلها ما يمكن تسميته بـ«الاقتصاد البصري للصمت”، هذه ليست مجرد فراغات طباعية، بل أدوات بلاغية تؤسس معنى قائمًا بذاته، في أكثر من موضع، بعد كل اعتراف صادم أو جملة تفجيرية، تترك الكاتبة فراغًا في الصفحة، كأنها تقول: ما لم يُكتب أبلغ مما كُتب.
مثال دقيق على ذلك في (ص11)، بعد الجملة: “كنت لا أحد... لا شيء في كل شيء”، نجد سطرًا أبيضَ تمامًا، فراغًا يبتلع السياق، يوحي بانقطاع داخلي شديد، ويجبر القارئ على التوقف، ليس فقط لفهم العبارة، بل للشعور بالصمت النفسي المصاحب لها، إننا أمام شكل من البياض الوظيفي، حيث يصبح الصمت المكتوب تعبيرًا عن قلق لا يُقال، وموقف وجودي لا يُشرح...

 تمثيلات الفقد بوصفها بُنية توليد سردي

الفقد في رواية “سوسطارة” ليس حدثًا عرضيًا، إنه البنية المحرّكة لكل سرد، لكنه لا يُقدَّم كغياب جامد، بل كبؤرة طاقة مولّدة للغة، للذاكرة، وحتى للحب. تقول زينب (ص44): “حين غاب أبي، غاب كل شيء، وصرت أملأ حياتي بشيء لا أعرفه”، هذا الوصف لا يتحدث عن غياب الأب فحسب، بل عن تحول الذات إلى استجابة دائمة لفقد أولي، يجعل من كل علاقة لاحقة ترميمًا لما لا يُرمم، إن الفقد لا يولّد الحنين فقط، بل يُنتج لغته الخاصة، أسلوبه، طريقته في إعادة ترتيب العالم. وهنا نقترح مصطلحا جديدًا لتحليل هذه البنية: وهو مصطلح “الغياب التوليدي”، أي غياب لا يُلغى أو يُنسى، بل يُعيد تشكيل هوية الساردة عبر إعادة كتابة الفراغ، ومحاولة ملء فجوة لا تمتلئ.

 الكتابة بوصفها رغبة في البقاء لا في الشفاء

في (ص47)، تقول: “أكتب لا لأشفى، بل لأمنع نفسي من التلاشي”، هذه العبارة تقلب كل مفاهيم الكتابة كعلاج التي شاعت في الأدب النسوي المعاصر، زينب لا تكتب لتتجاوز ما حدث، بل لتُثبت أنها لم تُمحَ بعد، وهذه نقطة تأويلية جوهرية تُحرّك الرواية بأكملها، الكتابة لا تمحو الجرح بل تثبّته، تحفره بدقة، ليصبح شاهدًا دائمًا على أنها كانت هناك، حيّة، موجوعة، واعية.

الشذرات.. هندسة سردية لذهــن مفكـــك

ليست الشذرات في “سوسطارة” مجرد خيار أسلوبي، بل تعبير بنيوي عن تشظي الوعي، إن زينب لا يمكنها أن تسرد تجربة حب أو فَقْد بشكل متماسك، لأنها تعيشها على نحو مفكك، الجملة التي تبدأ بالحنين تنتهي بالخذلان، والفقرة التي تفتتح بالأمل تنتهي بالقطيعة، مثلاً في (ص30) تقول: “أحببته لأنني كنت أحتاج أحدًا يرممني، فهدم ما تبقى”، هذه البنية السردية المقلوبة لا تمثّل مفارقة فنية فقط، بل تجسّد هندسة اللايقين، وتكشف عن وعي سردي يرفض الخاتمة، والاكتمال، ويرفض النهاية.

«سوسطارة” والذاكرة الجماعية الصامتة

 إن هذه الرواية يمكن النظر إليها كأرشيف غير رسمي لعشرية الفقد والاضطراب، وكيف يُعاد إنتاج السياسي عبر الحميمي، مع مقارنة بأعمال مثل: لـ«ذاكرة الجسد” لأحلام مستغانمي، و«الالتباس” لواسيني الأعرج، و«دفتر الخسارات” للكاتبة اللبنانية سمر يزبك.
وكيف تتحول رواية “سوسطارة” إلى أرشيف سردي غير رسمي للعشرية السوداء، حيث مفهوم الموت البيروقراطي، والحق الرمزي في الحِداد، ومظاهر الذاكرة الجماعية الصامتة، ومفهوم تجسيد الذاكرة السياسية، وهو ما يمكن استنتاجه من مقارنات بين “دفتر الخسارات” لسمر يزبك و«ذاكرة الجسد” لأحلام لمستغانمي، مع إبراز جماليات سوسطارة في شعرية التوثيق الجريح، وهي أعمال روائية تجعل من الذاكرة موضوعا للمساءلة، (وهذا ما يمكن تناوله في مقام آخر).
تمثّل رواية “سوسطارة” نموذجًا سرديًا فريدًا يُقارب التجربة الإنسانية من داخل تمزقاتها، فالرواية لا تُقرأ على مستوى الحدث أو الحبكة، بل على مستوى الشعور المُكثّف، والهوية المتشظية، والغياب الذي يتسلل إلى اللغة والجسد والذاكرة، إنها ليست رواية حكاية، بل رواية أثر، تُعيد تعريف العلاقة بين ما يُقال وما لا يُقال، بين ما يُكتب وما يُكتم، بين الذات والعالم.

الهويــة المتشظيـة

تقول زينب (ص31): “أنا التي أحببته، وأنا التي خذلته، وأنا التي خذلتني”، هذه العبارة تكشف أن الذات في “سوسطارة” ليست وحدة متماسكة، بل ساحة انفعالية يختلط فيها الفاعل بالضحية، تقول زينب (ص31): “كأنني أعيش الزمن نفسه كل يوم، لا هو يمضي، ولا أنا أخرج منه”، الزمن لا يُقاس بالساعات بل بالحزن. وفي (ص35): “كل مرة أنظر إلى المرآة، أرى امرأة غريبة تلبس وجهي”. هنا تتحول المرآة من رمز للانكشاف إلى رمز للانفصال الداخلي، الهوية تُبنى من الشك، لا من التماسك. وفي (ص35): “كل خلية فيّ تحمل أثر من تركني، من صفعني، من نسيني”. الجسد لا يُمثَّل بوصفه رغبة، بل بوصفه ذاكرة للخذلان، والصمت النسوي في الرواية بلاغة معاكسة للصراخ، تقول الساردة المهيمنة (ص38): “كتبوه ميتًا، لكننا مازلنا نحلم بعودته”، هذا الغياب يقاوم التوثيق الرسمي ويستبقي الحبيب ككائن سردي مفتوح، بلاغة الغياب في الرواية تُنتج النص، لا تعطلّه. في (ص38) تقول: “لم أبدأ العدّ إلا بعد أول حلم رأيته فيه”، يتشظى الزمن في النص ويتحول إلى زمن شعوري داخلي، الماضي لا يمرّ، بل يُقيم، والحاضر مجرد تكرار مؤلم لما انكسر.
الأنوثة في هذه الرواية ليست حالة بيولوجية بل سردية شعورية هشّة، تقول الساردة المهيمنة في (ص40): “كرهت كوني امرأة حين كنت أضطر للصمت حتى لا أبدو هستيرية”.

 بلاغـة الغيــاب

تقول في (ص44): “لم يبق منه شيء، لا صوت، لا صورة، لكنّه كل ما أراه حين أغمض عيني”، الغياب لا يعبّر عن نقص، بل عن حضور مُراوغ يقيم في الذاكرة. تُقدّم رواية “سوسطارة” تجربة وجودية مكتوبة بلغة الانكسار، إذ ليست الرواية بحثًا عن نهاية أو حل، بل عن تأريخ للحيرة، وتأويل للفقد، وبحث عن معنى داخل الغياب، وهي لا تتبع نمط السرد الكلاسيكي، بل تبني زمنًا مكسورًا، وشخصيات متشظية، ولغة ترفض الإفصاح، إنها رواية تُكتب من داخل الوجع الإنساني، ومن عمقه وليس من خارج التجربة. تنبني رواية “سوسطارة” على توتر شعوري بين الحنين والفقد، ص(129) حيث تشكّل “الساردة المهيمنة” بؤرة تأويلية تُعيد تشكيل العالم وفق تجربة ذاتية غامضة، تتجلى بنية الانتظار والألم من خلال تكرار العبارات (“مازلت”، “سأخبرك”، “سأنتظرك”)، مما يخلق إيقاعًا تأويليًا دائريًا، تُشخصن الأماكن (سكانة، سوسطارة) وتتحول إلى رموز داخلية، بينما تُستحضر الأغنية الشعبية ص(130) كبنية رمزية تربط بين الماضي والواقع، وتُعبّر عن هشاشة الشعور الجمعي، ويخلق التوتر بين الضحك والدمع مفارقة وجدانية تعمّق المأساة، في حين تمنح استعارة “عروس البحر” بُعدًا وجوديًا لطيفًا للموت، يحضر الزمن كتجلٍّ تأويلي مفتوح لا يُقاس بالوقائع بل بالانفعالات، الرواية تحتفي بالحياة رغم الألم، وتؤكد قيمة كل خطوة في المجهول، ص(129+130+131)، مما يمنحها عمقًا إنسانيًا ووجوديا.
رواية “سوسطارة” ليست مجرد عمل فني، بل صرخة داخلية بلغة مكبوتة، تكتب البطلة لتبقى، تصمت لتبوح، تحزن لتعيش، الرواية تعيد تعريف مفاهيم كثيرة؛ من الكتابة إلى الهوية، ومن الغياب إلى اللغة، ولهذا فهي نص مفتوح للتآويل، عصيّ على التصنيف، متجذر في الوجع، وراسخ في الذاكرة. إن رواية “سوسطارة” تعد عملاً سرديًا ينتمي إلى فئة الأدب النسوي ما بعد الكولونيالي، غير أنها تتجاوز هذا التصنيف لتصوغ خطابًا سرديًا هجينيًا يمزج بين السيرة الذاتية الجمعية والاعتراف الوجودي، في فضاء حضري متهالك هو حي “سوسطارة”، إن سردية “سوسطارة” لا تشتغل ضمن ثنائية القمع والتحرر كما هو معتاد في الأدب النسوي، بل تنحت لنفسها سردية مقاومة جديدة، مبنية على تقويض بنى المعنى ومواجهة الخطابات السائدة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19828

العدد 19828

الإثنين 21 جويلية 2025
العدد 19827

العدد 19827

الأحد 20 جويلية 2025
العدد 19826

العدد 19826

السبت 19 جويلية 2025
العدد 19825

العدد 19825

الخميس 17 جويلية 2025