وثيقـة فكريـة وسياسيـة كثيفـة تُعــبّر عـــن فلسفـة الحكـم

رسالة رئيس الجمهوريّة في عيد الاستقلال.. دلالات ورهانات

أ . د . نورالدين السد - الجزائر

 استثمار الرّأسمال الرّمزي في خدمة الاقتصاد الوطني 

الهويّة الوطنية قوّة إنتاجية تُترجم إلى اقتصاد مستقل

الذّاكرة هي الدرع الأقوى أمام حملات “تبييض الاستعمار” 

تلاحم الشّعب والجيش مصدر قـوّة الجزائر وحصنهـا المنيـع

الجزائــر معنيــة بحمايــة استقلالهـا في سيـاق التّكتّلات الدولية

جيشنا ليس فقط أداة دفاع بل رمز لقدرة الجزائر على حماية خياراتها الداخلية والخارجية

الجزائر  لا تعيش في جزيرة معزولـة

  إنّ رسالة رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون في الذكرى الثالثة والستين لعيد الاستقلال المتزامن مع عيد الشباب ليست مجرّد نص بروتوكولي لإحياء حدث وطني، بل هي وثيقة فكرية وسياسية كثيفة، تُعبّر عن فلسفة الحكم في الجزائر اليوم، وعن إدراك عميق لعلاقة الجزائر بتاريخها، ولتحدياتها الراهنة، ولحجم الرهانات العالمية التي تطوّق الدول المستقلة.

 إنّها رسالة تكتب الجزائر من جديد، لا بوصفها أمّة خرجت من الاستعمار في الماضي، بل بوصفها مشروعاً مستمراً للاستقلال، يخوض معاركه اليومية في السياسة، والاقتصاد، والمجتمع، والثقافة، والعلاقات الدولية.
يبدأ الخطاب في الرسالة بالبسملة والتسليم على الرسول الكريم، وفي ذلك تعبير عن هوية دينية توحي بأنّ السياسي لا يزال مشدوداً إلى مرجعية روحية تُضفي على المناسبة طابع القداسة، وهي بداية شائعة في الخطابات الرسمية الجزائرية، لكنها هنا تحمل أكثر من دلالة بروتوكولية، ففي لحظة عالمية يزداد فيها القلق من صدام الهويات، يُعيد الرئيس تبون تأكيدا أن الجزائر دولة لها روح حضارية، وليست مجرد كيان سياسي صلد، من هنا ينطلق الخطاب إلى تأسيس فكرة أن الاستقلال لم يكن مجرد حدث زمني انقضى، بل هو “حالة وعي مستدامة”، تقتضي استدعاء الذاكرة الوطنية ليس للتامل في أحداث التاريخ بل لاستلام العبر ومواصلة بناء الوطن، وصناعة حصانة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، تحمي الجزائر من هزّات عالم يسوده اضطراب عميق.
وتظهر الرسالة على أنّها تعبير عن وعي استراتيجي بمخاطر المرحلة، فالرئيس لا يتحدث فقط عن بطولات الماضي، بل يُحذّر من “تحولات العالم” التي قد تُعرّض الأوطان للأطماع والهزات، هنا لا نجد مجرد احتفاء بذكرى الاستقلال، بل محاولة لبناء يقظة سياسية جماعية، أساسها أن الشرعية الثورية التي أخرجت المستعمر ليست وحدها كافية لضمان بقاء الدولة، فلا يكفي أن تكون لك ذاكرة عبر مراحل تاريخ المقاومة والثورة والاستقلال، بل يجب أن تمتلك دولة قادرة على الصمود في عصر السيولة الجيوسياسية، وهذه رؤية عميقة تسعى الرسالة لتبليغها: الحرية ليست وضعاً نهائياً يُكتسب مرة واحدة، بل هي معركة مستمرة ضد محاولات الهيمنة بأشكالها الجديدة، ولعل تكرار مفردات مثل “التلاحم”، و«الحصانة الوطنية”، و«رص الصفوف” يشير بأن الرئيس يُدرك ما يتهدد وحدة الدول من أخطار “التفكيك من الداخل”، عبر توظيف قوى خارجية.

رسالـــة شديــدة العمــق

 اقتصادياً، يبعث الخطاب برسالة أقل مباشرة لكنها شديدة العمق، حين يتحدث الرئيس عن “لَقَدْ عَكَفَتْ الجزائرُ مُنْذُ بُزُوغ عَهْدِ استقلالِهَا على اسْتِثْمَارِ تلك المَحَطَاتِ الخَالِدَةِ الَّتي رَفَعَتْ شَعْبَنَا إلى أعلى مَرَاتِب الوطنِيَةِ الصَّادِقَةِ بَيْنَ شُعُوبِ الأرْضِ. وَلَقَدْ كان هذا الاستِثْمَار مَبْنِيًا على الوَفَاءِ لِتِلْكَ الدِّمَاءِ الَّتي سَالَتْ فِدَاءً للوَطَنِ وَتَقْدِيسًا لِلْأرْواحِ الطَّاهِرَةِ الَّتي قُدِّمَتْ قُرْبَانًا مِنْ أجْلِ حُرْمَةِ أرْضِهِ وَسَمَائِهِ وَمَصِيرِ أبْنَائِه”، فهو لا يكتفي باستثمار الرمزية الوطنية، بل يُشير ضمناً إلى ضرورة استثمار الرأسمال الرمزي في خدمة الاقتصاد الوطني، بمعنى أن الهوية الوطنية ليست مجرد حكاية عاطفية، بل قوة إنتاجية تُترجم إلى اقتصاد مستقل.
الجزائر – من منظور الخطاب – مطالبة بأن تحوّل انتماءها الوطني إلى قوة اقتصادية تُمكّنها من الفكاك من التبعية، وهذه نبرة جديدة في الخطاب الرسمي: لم يعد الاستقلال خطاباً معنوياً فقط، بل شرطاً مسبقاً لاستقلال القرار الاقتصادي، ومن هنا نفهم تأكيد الرئيس على أن الجزائر تخوض غمار مرحلة جديدة بروح جديدة، وكأنها تخوض “تحريراً اقتصادياً ثانياً”، هدفه حماية السيادة من أشكال الاستعمار الجديد: الهيمنة المالية، والابتزاز بالأسواق، والسيطرة على الثروات، ويُذكّرنا هذا الخطاب بأن الاستقلال ليس مجرد خروج المستعمر من الأرض، بل خروج التبعية من الاقتصاد.
إنّ الرسالة في ظاهرها سياسية وطنية، لكنها تحمل في عمقها إشارات اقتصادية بالغة الأهمية، حين يتحدث الرئيس عن “استثمار المحطات الخالدة” وعن “تعزيز الحصانة الوطنية”، فليس المقصود هنا حصانة أيديولوجية أو أمنية فقط، بل أيضاً حصانة اقتصادية، وهذه فكرة محورية في فلسفة الاستقلال الحديثة: لا حرية سياسية دون استقلال اقتصادي.
وفي الرؤية السياسية والاقتصادية، الاستقلال ليس مجرد غياب المستعمر، بل غياب التبعية البنيوية والوظيفية أي أنّ الجزائر لا تكون مستقلة حقاً ما دامت بنيتها الاقتصادية مرتبطة بأسواق أو مراكز مالية خارجية تُعرّض قرارها السيادي للابتزاز أو الضغوط، من هنا، نفهم قول الرئيس: “إن الجزائر اليوم تخوض غمار مرحلة عمادها التعامل مع مختلف الرهانات بنَفَس جديد…”، هذا “النَّفَس الجديد” هو في حقيقته دعوة إلى تحرير الاقتصاد الجزائري من الارتهان الأحادي للمحروقات، وهو ما يُفهم ضمنياً من السياق العام للخطاب والسياسات المُعلنة في السنوات الأخيرة (تنويع الاقتصاد، تشجيع الصناعات التحويلية، تحفيز الاستثمار، الاقتصاد الرقمي).
لكن أعمق ما يمكن استشفافه من الخطاب هو ربط التنمية الاقتصادية بـ مفهوم العدالة المجالية والاجتماعية، وهذا يبرز خصوصاً في التوجّه إلى العناية بمناطق الظل، ولو أن الخطاب لم يذكر لفظ “مناطق الظل” صراحة، إلا أن إحالة الرئيس إلى تكفّل الدولة بـ “حاضر شعبنا الكريم ومستقبل بناته وأبنائه” تتضمن فلسفة اجتماعية واقتصادية جوهرها أن الاستقلال لا معنى له إذا بقيت فئات أو مناطق خارج مسار التنمية، في الفكر السياسي الحديث، يُسمى هذا “التنمية المتوازنة”.
إنّ العناية بمناطق الظل ليست مجرد سياسة اجتماعية، بل هي ركيزة من ركائز الأمن القومي، فمناطق الظل تمثل غالباً هامش الدولة، وحيثما كان الهامش مهمشاً، يصبح هشّاً أمام اختراقات التطرف أو النزعات الانفصالية أو الاستغلال الخارجي، لذلك فإن الاستثمار في هذه المناطق ليس مجرد عمل إنساني أو تضامني، بل هو  تحصينٌ لوجود الدولة ذاته.
يمكن تلخيص أبعاد الخطاب الاقتصادية في ثلاث محاور:
- التحرر من الريع: أي الانتقال من اقتصاد يعتمد على المحروقات إلى اقتصاد متنوّع منتج، وهذا ما يعنيه “النَّفَس الجديد”.
- العدالة المجالية: أي توجيه التنمية إلى مناطق الظل لردم الفجوات المجالية والاجتماعية، باعتبارها مناطق تمثل الخط الأمامي في معركة السيادة الداخلية، فالتنمية الاقتصادية شرط أساسي لحماية السيادة، ولا معنى للحرية إذا بقيت مناطق الظل خارج مشروع التنمية،
وتحويل الهوية الوطنية إلى قوة اقتصادية: أي أن الهوية الوطنية ليست مجرد رمزية، بل ينبغي أن تتحوّل إلى حافز للإنتاج والعمل والاستثمار، لأن المواطن الذي يشعر بالانتماء للوطن يصبح أكثر التزاماً بالمشاركة الاقتصادية، من هنا تصبح التنمية الاقتصادية في الخطاب ليست مجرد مسألة أرقام ومؤشرات نمو، بل مسألة وجودية تضمن استمرار الاستقلال الحقيقي.
إنّ رسالة رئيس الجمهورية تحمل نبرة مزدوجة: فهي تستحضر وحدة الشعب، وتحذّر من التفكك، هناك إدراك أن المجتمع الجزائري ليس مجرد كتلة صماء، بل نسيج متنوع ثقافياً ولغوياً وجهوياً. وحين يشير الرئيس إلى ضرورة “التلاحم”، فهو يُعلن أن المعركة الحقيقية ليست فقط ضد الخارج، بل أيضاً ضد المراهنين  على تُذكيه أزمات اجتماعية أو اقتصادية أو حتى حملات إعلامية خارجية، ومن هنا فالخطاب الذي تحمله هذه الرسالة في هذا السياق يحاول ترسيخ الوطنية بوصفها هوية مشتركة تتجاوز الانقسامات، إنه خطاب عن “الوحدة في التنوع”، يُدرك أن الدولة ليست مجرد آلة قانونية أو أمنية، بل رابطة وجدانية بين مواطنين يشتركون في ذاكرة ومصير.

المسألـة الثّقافيـة حاضرة بقـــوّة

 أمّا المسألة الثقافـية في خطاب الرئيس لا ترد مفردةً صريحة، لكنها حاضرة بقوة في خلفية الخطاب كله، فالحديث عن “محطات خالدة” و«دماء الشهداء” ليس مجرد تاريخ، بل هو سردية ثقافية تُشكّل الخيال الجمعي الجزائري، في الفلسفة السياسية، الشعوب لا تعيش بالقوانين فقط، بل بالرموز والأحداث والقصص وما تصنعه الذاكرة الجمعية، وما  ترويه عن نفسها، والرئيس يُدرك أن الذاكرة الوطنية هي الدرع الأقوى أمام حملات “تبييض الاستعمار” أو محاولات اختراق الهوية عبر القوة الناعمة، إن الخطاب يؤكد – ضمناً – أن الاستقلال الثقافي لا يقل أهمية عن الاستقلال السياسي والاقتصادي، وهو ينتمي هنا إلى مدرسة فكرية تقول إن الأمم التي لا تمتلك سرديتها الخاصة تظل مهيأة للاختراق والهيمنة.
وتركز الرسالة على البعد الديبلوماسي ودور الجزائر الدبلوماسي في الدفاع عن القضايا العادلة، وفاءً لمبادئ ثورتها التحريرية، وأدبياتها المرتكزة على الشرعية الدولية، هذا البعد الدبلوماسي، ليس مجرد محور منفصل، بل يشكّل  فلسفة “السيادة الشاملة” التي يريد الرئيس ترسيخها، فالبعد الدبلوماسي والدفاع عن القضايا العادلة، كما ورد في القسم الآخر من الرسالة، نلمس بوضوح رؤية الجزائر في العلاقات الدولية، وإن لم يذكر الرئيس تفاصيل محددة للقضايا الدولية، إلا أن عباراته مفتوحة على تأويل عميق جداً: “فإنها تدفعنا إلى النظر مليّاً حول ما يشهده العالم اليوم من تحولات، وكيف أن التلاحم والتكاتف والحس الوطني اليقظ هو أمثل مسلك لتجنيب الأوطان ويلات الهزّات والأطماع”، هنا يدخل الخطاب مباشرة في الفلسفة الدبلوماسية للجزائر، والتي تُسمى في الفكر السياسي بالسياسة الخارجية ذات المرجعية الأخلاقية، أي أن الجزائر لا تمارس الدبلوماسية من موقع المصلحة المجرّدة فقط، بل من موقع الالتزام بالمبادئ التي أسست ثورتها التحريرية، هذا ما يفسر على مدى العقود الماضية مواقف الجزائر الثابتة من قضايا فلسطين، والصحراء الغربية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ورفض التدخلات العسكرية الأجنبية، والتمسك بالشرعية الدولية.
إنّ محتوى الخطاب في هذه الرسالة يربط بشكل خفي بين الاستقلال الوطني والدفاع عن القضايا العادلة، وهو ما يعبّر عن وعي بأن سيادة الجزائر جزء من سيادة القيم التي تؤمن بها، ولعل أهم ما يميز المدرسة الدبلوماسية الجزائرية، كما تتبدى في هذا الخطاب، هو قناعتها بأن الاستقلال السياسي الداخلي يفقد معناه إن لم يُترجم إلى مواقف أخلاقية على الساحة الدولية، أي أن الجزائر لا تكتفي بأن تكون “بلداً مستقلاً” بل تريد أن تكون صوتاً أخلاقياً في العالم.
هذا ليس مجرد خطاب مثالي، بل في الفلسفة السياسية، يمثل “تصدير المواقف الأخلاقية”، وهي إحدى آليات تعزيز قوة الدول الناعمة، الدولة التي تُعرف عالمياً بثباتها على المبادئ تكتسب وزناً ديبلوماسياً أكبر من قدرتها العسكرية أو الاقتصادية أحياناً، والجزائر تدرك هذا، ولذلك تُصر على أن تكون وفية لـ “أدبيات ثورتها”، وهي أدبيات ترتكز على: حق الشعوب في تقرير المصير، ومناهضة جميع أشكال الاستعمار القديم والجديد، واحترام الشرعية الدولية، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ونصرة القضايا العادلة كقضية فلسطين، وقضية الصحراء الغربية.
وفي السياق الراهن يكتسب هذا الموقف أهمية أكبر، لأن العالم يشهد تفاقماً في أزمات الشرعية الدولية، حيث تغدو القوة أحياناً أعلى من القانون، وتُنتهك سيادات الدول باسم “حقوق الإنسان” أو “محاربة الإرهاب” بينما تكون المصالح الخفية هي المحرّك الحقيقي، ومن هنا فإن خطاب الرئيس لا يقول فقط إن الجزائر مستقلة، بل يقول إن الجزائر تريد أن تحفظ للشرعية الدولية معناها الحقيقي، بعيداً عن الاستخدام الانتقائي أو التبريري للقانون الدولي..
إنّ الجزائر لا ترى سيادتها مجرد شأن داخلي، بل تعتبر نفسها جزءاً من مشروع عالمي أوسع، هو مشروع العدالة والحرية للشعوب، أي أن الوطن ليس فقط تراباً، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الإنسانية.
إنّ استحضار الجيش في الخطاب أيضاً له بعد دبلوماسي غير مباشر. فالجيش، في المخيال السياسي الجزائري، ليس فقط أداة دفاع داخلي، بل رمز لقدرة الجزائر على حماية خياراتها الداخلية والخارجية دون خضوع لأمالي أو محاور أو مشاريع من أي جهة كانت، من هنا نفهم وصف الجيش بأنه “حامي حمى الوطن”، وكذلك “سليل جيش التحرير الوطني”، أي أنه يحمل مهمة حماية السيادة ليس فقط عسكرياً، بل أيضاً ديبلوماسياً، عبر ما يُعرف في الأدبيات السياسية بردع الهيمنة الخارجية.
دور تلاحم الشعب وجيشه الذي هو من خيرة أبناء هذا الوطن، الجيش الوطني الشعبي هو امتداد لجيش التحرير الوطني، وينحدر من صلب الشعب، وهو في خدمة الوطن والمواطن.
إنّ تلاحم الشعب والجيش مصدر قوة الجزائر وحصنها المنيع ضد كل التهديدات، فالمؤسسة العسكرية والأمنية تؤدي دورها الدستوري في حماية السيادة الوطنية، ووحدة التراب الوطني، وتساهم في التنمية الوطنية،  والثقة المتبادلة بين الشعب وجيشه تحبط كل محاولات ضرب استقرار البلاد أو التشكيك في مؤسساتها، إنّ رئيس الجمهورية في هذه الرسالة يشيد بدور الجيش الوطني الشعبي في حماية الجزائر من كل المخاطر والتهديدات، ويعتبر أفراده من خيرة أبناء الوطن.
 إنّ  رسالة رئيس الجمهورية تكشف  إدراكاً حاداً بأنّ الجزائر لا تعيش في جزيرة معزولة، ففي حديثه عن تحولات العالم يُلوّح الرئيس إلى أنّ العالم يشهد إعادة رسم خرائط النفوذ، وأنّ الجزائر معنية بحماية استقلالها في سياق التكتلات الدولية، والصراعات على الثروات، والمعايير الدولية المتغيّرة، الخطاب يريد القول إنّ الجزائر قادرة على الدفاع عن نفسها دبلوماسياً، ليس فقط لأنها قوية عسكرياً، ولكن لأنها تحمل شرعية تاريخية وسردية أخلاقية تجعلها تحظى باحترام شعوب العالم، وفي هذا امتداد لتقاليد الجزائر الدبلوماسية كدولة ذات سياسة خارجية مستقلة، ترفض الاصطفاف الأعمى، وتميل إلى مواقف التوازن والوساطة، لكن الخطاب يُدرك أيضاً أن هذه الاستقلالية لا يمكن حمايتها إلّا بقوة اقتصادية وبحصانة اجتماعية وثقافية، أي أنّ الدبلوماسية ليست مجرّد تحرّك خارجي، بل نتيجة قوة داخلية راسخة.
إنّ الدبلوماسية الجزائرية ليست دبلوماسية براغماتية باردة، بل دبلوماسية مبدئية، تستمد مشروعيتها من أدبيات ثورة التحرير، ومن التزامها بالقانون الدولي.
إنّ ما يميّز الخطاب في هذه الرسالة حقاً هو أنه يُحوّل الاستقلال من حدث ماضوي إلى حالة وعي مستدام، فالرئيس لا يتحدث عن الاستقلال وكأنه نهاية التاريخ، بل كأنه سؤال مفتوح: هل نحن مستقلون حقاً إذا كنا نعيش على اقتصاد ريعي؟ هل نحن مستقلون إذا كانت ثقافتنا تُخترق من الخارج؟ هل نحن مستقلون إذا تشرذمت وحدتنا الوطنية بفعل الأزمات الاجتماعية؟ هذه الأسئلة  هي ما يجعل الخطاب أعمق من مجرّد نص تذكاري بمناسبة وطنية خالدة وهي الذكرى الثالثة والستين للاستقلال واسترجاع السيادة، إنه على الرغم من  تمجيد هذا الحدث التاريخي المشهود وهو ذكرى الاستقلال وما له من هالة القداسة التاريخية في وجدان الأمة الجزائرية، فإنه يعيد تعريفه بأنه عمل يومي مستمر، وهو مكسب وطني وإنساني للشعوب الطامحة للحرية ولأحرار العالم، وهو ما يقتضي الحفاظ عليه بالعمل الجاد والجهد المتواصل والحرص الدائم على تحقيق تطلّعات المواطنين في تعزيز الأمن والاستقرار والتنمية الشاملة والمستدامة والمتوازنة.
وفي عمق هذه الرسالة، ثمة رؤية أخلاقية واضحة، وهي أنّ الوطن ليس مساحة جغرافية وتراباً فقط، بل هو منظومة قيم ومبادئ، ومن هنا تأتي نبرة الرئيس في دعوته إلى استلهام “المبادئ العظيمة التي سار عليها الشهداء”، هذا ليس مجرّد حنين عاطفي إلى الماضي، بل محاولة لبناء أخلاق وطنية تكون مرجعاً في السلوك السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي في عالم تذوب فيه المعايير الأخلاقية أمام مغريات المصالح، يريد الرئيس للجزائر أن تظل وفيّة لقيمها التحرّرية والإنسانية، إنه خطاب يعيد الروح  إلى السياسة، لأنّ السياسة فضيلة قبل أن تكون إدارة.
ختاما إنّ رسالة رئيس الجمهورية بمناسبة الذكرى الثالثة والستين لعيد الاستقلال والشباب ليست مجرّد نص تذكاري، بل مشروع وطني يرسم معالم جزائر تريد أن تكون حرة حقاً، في قرارها السياسي، وفي اقتصادها، وفي ثقافتها، وفي سياستها الخارجية، إنها رسالة تُعلن أنّ الاستقلال لم يكن يوماً لحظة عابرة، بل مساراً متواصلاً  لايكتمل إلّا بتحرير الإنسان الجزائري ذاته من التبعية بكل أشكالها، إنها رؤية سياسية تؤمن أنّ الحرية لا تُكتسب مرة واحدة، بل تُنتزع كل يوم.

وعي بالمخاطر

 إنّ الشباب الجزائري اليوم مطالب بحفظ مكتسبات الاستقلال، لأنّ الشباب هم الامتداد الطبيعي لجيل نوفمبر المجيد، وهم المعنيون بصون السيادة الوطنية والدفاع عن أمن البلاد واستقرارها، وعلى عاتقهم تقع مواصلة مسيرة البناء والتشييد، من خلال العلم والعمل والإبداع والابتكار، ليكونوا فاعلين في التنمية الوطنية. فالشباب مطالبون بالوعي بالمخاطر المحدقة بالوطن، والتمسّك بقيم الوحدة الوطنية، ورفض كل أشكال التفرقة أو المساس بثوابت الأمة.
إنّ رئيس الجمهورية  يؤكّد في هذه الرسالة كما يؤكّد دائما أنّ الدولة تراهن على الشباب باعتباره القوة الحية، لتأمين مستقبل الجزائر واستكمال مسار التحرّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هذا ما يجعل الخطاب في هذه الرسالة نصاً سياسياً عميق الرؤية، لأنه  يُعرّف الجزائر بوصفها جغرافيا ومنظومة قيم شاملة مستلهمة من تاريخ مجيد سطرته ملاحم الجزائريّين عبر الزمن، والرسالة تضع الجزائريّين أمام سؤال وجودي: هل نريد استقلالاً حدث في 1962 فقط ونحيي ذكراه كل سنة، أم نريد استقلالاً يتجدّد كل يوم؟ وهو ما يمكن القول إنّ خطاب الرئيس عبد المجيد تبون، في هذه الرسالة ليس مجرّد احتفاء بذكرى الاستقلال، بل هو تجسيد لفلسفة ترى أن: الاستقلال الحقيقي هو استقلال متعدّد الأبعاد، سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وثقافي، ودبلوماسي، ومنظور الوطن في رسالة رئيس الجمهورية ليس جغرافيا وحسب، بل هو كيان أخلاقي، وثقافي، ومنظومة قيم إنسانية خالدة، ومشروع تحرّري مستمر، وبهذه الرؤية يُحوّل الرئيس الاستقلال من حدث تاريخي إلى حالة يقظة متواصلة، تحرس الجزائر من خلالها على أن لا تكون مجرّد “دولة” في عداد الدول فقط، بل تحرص على أن تكون صوتا حرا، وفكرا حيا على الدوام، يحمل رسالة أخلاقية خالدة، ويزرع منظومة قيم إنسانية سامية في العالم...
يقول رئيس الجمهورية في رسالته بهذه الذكرى التاريخية والوطنية الجليلة: “وَنَحْنُ نَحْتَفِي بهذِهِ الذِّكْرَى الغَاليَةِ والمُتَمَيِّزَةِ في تَاريخ وَطَنِنَا، والمَقْرُونَةِ بِعيدِ الشَّبَابِ، أتوجّهُ إلى أَخَوَاتِي المُجَاهِدات وإخْوَاني المُجَاهدين وإلى كَافَة بَنَاتِنَا وأَبْنَائِنَا بأَسْمَى عِبَارَاتِ التَّهَانِي، كَمَا أُحَيِّي حَامِي حِمَى الوَطَنْ جَيْشَنَا الوَطني الشَّعْبي سَلِيلَ جَيْشِ التَّحرِيرِ الوَطَني، وكُلَّ الأَسْلاَكِ الأَمْنِيّةِ وَالنِّظَامِيَة التي تَحفظُ أَمْنَ الوَطَنِ والمُوَاطن، دَاعِيًا أَبْنَاءَ وَطَنِنَا العَزِيز إلى البَذْلِ والتَّفَانِي والوَعْيِ بالرِّهَانَاتِ تَأَسِيًا بِالمَبَادىء العَظِيمَةِ الَّتي سار على نهجها شُهَداؤُنَا الخَالِدُون.
عَاشَتْ الجزائرُ حُرَّةَ أبِيَّةً شَامِخَةً، المَجْد والخُلُودُ لِشُهدائِنَا الأبرَار”.

رسائل واضحة عن الوحدة الوطنية

 لقد جاءت  الفقرة الأخيرة في سياق تهنئة الأمة الجزائرية بذكرى عيد الاستقلال وعيد الشباب، وهو ربط رمزي بين ذكرى التحرير والشباب باعتبارهم الامتداد الطبيعي لجيل الثور.
وتوجيه التهاني إلى المجاهدين والمجاهدات، اعترافًا بتضحياتهم من أجل الاستقلال، وتحية خاصة للجيش الوطني الشعبي باعتباره سليل جيش التحرير الوطني، أي الامتداد الطبيعي للثورة، وإشادة بكل الأسلاك الأمنية التي تسهر على أمن الوطن والمواطن، في تأكيد على أهمية الاستقرار والأمن، ودعوة الشباب وسائر أبناء الوطن إلى البذل والتفاني، والوعي بالرّهانات والتحديات، اقتداءً بالمبادئ التي ضحّى من أجلها الشهداء، وختمت الفقرة بشعارات وطنية قوية: “عاشت الجزائر حرة أبية شامخة”، و«المجد والخلود لشهدائنا الأبرار”، فالخطاب هنا يحمل رسائل واضحة عن الوحدة الوطنية، التلاحم بين الشعب ومؤسّساته، خصوصًا الجيش، ويربط حاضر الجزائر بماضيها الثوري، ليغرس الإحساس بالمسؤولية لدى الجيل الحالي، ويعبر عن رؤية الدولة الجزائرية لمكانة الجيش كصمام أمان للدولة، ودعوة للتعبئة الشعبية لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
إنّ لغة الرسالة رسمية فصيحة، مفعمة بالشحنة العاطفية والوطنية، واستعمال عبارات التمجيد والتكريم (أسمى عبارات التهاني، المجد والخلود، حرة أبية شامخة)، وتكرار ضمير الجمع “نحن” يعبر عن شمولية الخطاب ووحدته، ويهيمن على الرسالة أسلوب إنشائي متمثل في الدعاء: “عاشت الجزائر”، “المجد والخلود لشهدائنا الأبرار”، وأسلوب نداء غير مباشر موجَّه للشعب عبر ضمير الغائب أو الجماعة (أخواتي المجاهدات، إخوتي المجاهدين، أبناؤنا)، والجمع بين التحية والدعاء والنداء، ممّا يعزّز الطابع الخطابي الاحتفالي، كما تضمّنت عبارات ذات طابع عاطفي وحماسي “حُرَّة أبية شامخة”، لإثارة مشاعر الفخر والاعتزاز.

حمولة وطنية وثورية

 كلمات الرسالة لها حمولة وطنية وثورية: المجاهدات، المجاهدين، شهداؤنا الخالدون، جيشنا الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني، وهي ألفاظ تعبّر عن الواجب والمسؤولية: البذل، التفاني، الوعي، الرهانات.
- إنّ هذا الخطاب يهدف إلى التذكير ببطولات الماضي، وربطها بالحاضر لاستنهاض الهمم، وتعزيز روح الوطنية والانتماء لدى الجزائريين جميعًا، وتأكيد الدور الحيوي للشباب في حماية مكتسبات الاستقلال واستكمال مسيرة البناء الوطني، وترسيخ صورة الجيش كمؤسسة وطنية منبثقة من الشعب، مهمتها حماية الوطن وسيادته، وتعزيز الوحدة الوطنية، وصد كل محاولات المساس بأمن الوطن أو استقراره، وشحن النفوس بالأمل والفخر بماضي الجزائر وحاضرها ومستقبلها.
- وأكّد رمزية المناسبة “عيد الشباب” مقترن بـ«عيد الاستقلال” باعتبار ذلك رسالة ضمنية بأن الشباب هم حاملو مشعل الحرية، وأن الاستقلال لا يُحفظ إلّا بأيديهم ووعيهم، وتحمل عبارة “جيشنا الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني” تأكيد  استمرارية الروح الثورية في مؤسّسات الدولة الحديثة، وفي جملة “المجد والخلود لشهدائنا الأبرار”، تجديد عهد الوفاء للشهداء، والربط الدائم بين تضحيات الماضي ومسؤوليات الحاضر.
- إنّ الفقرة الأخيرة في الرسالة مكثفة جدًا دلاليًا، فهي تجمع بين التهنئة والنداء والدعاء والتحفيز الوطني، وتُظهر اعتزاز الرئيس بالتاريخ الثوري، وثقته في أجيال الشباب، إنّ هذه الرسالة تتضمن خطابا جامعا، موجّه إلى كل فئات المجتمع، بروح إيجابية وحماسية.
انتهت رسالة رئيس الجمهورية بتمجيد هذه الذكرى الوطنية الغالية والتاريخية الخالدة، وعبّرت عن احترام كبير لكل الذين أسهموا في حرية شعبنا الأبي، واسترجاع سيادة الجزائر وكرامتها، وخاصة أولئك البررة الذين قدموا أرواحم الزكية فداء للوطن، لتنعم أجيال اليوم بالحرية والاستقلال، وتتحمل مسؤولية الذود عن حياضه وسلامته.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19815

العدد 19815

الأحد 06 جويلية 2025
العدد 19814

العدد 19814

السبت 05 جويلية 2025
العدد 19813

العدد 19813

الخميس 03 جويلية 2025
العدد 19812

العدد 19812

الأربعاء 02 جويلية 2025