تفترض هذه المداخلة، بناء على كتابها المحوري المعروض للدراسة، أنّ الخطابات النقدية الواصفة للإبداع الأدبي إنّما تتمظهر في مظهرين اثنين: مظهر رسمي مركزي مهيمن، يستمدّ شكله من المقالات والكتب التي تقدّم نفسها بالتسمية التجنيسية المألوفة “إذا افترضنا أنّ النقد الأدبي جنس تأليفي قائم بذاته، قابل للتفرّع إلى أنواع نقدية جزئية”، ومظهر ثانٍ هامشي متخفٍّ في أعماق أجناس وأنواع أدبية معروفة، حينا، وأشكال أخرى مجهولة التسمية، منزوعة التجنيس، حينا آخر.
وقد أُضيف إلى هذا المثال مثال آخر قام به الشاعر المغربي إدريس الملياني، حين أنجز دراسة نقدية رائعة (أو نصّا شارحا باصطلاح عبد الله العشي) حول ديوانه (زهرة الثلج)، وفي مثل هذه الحالة يبدو النصّ النقدي مزيجا “من التجربة الشخصية والنقد الأدبي، ممّا يسمح للمتلقي بقراءة القصيدة بعين الشاعر”.
التحقيق:
هو عمل نقدي متعلّق ببعض النصوص التراثية التي تقود محقّقها إلى تحقيق نسبة النص إلى صاحبه، والترجمة لمؤلِّفه وللأسماء الواردة في نصه، وتصحيح ما علق بالنص من أخطاء، وشرح النص، والحكم عليه، وهي عمليات مختلفة لا تخلو من الوصف النقدي، تحتاج إلى “ثقافة أدبية ولغوية وتاريخية، بل قد تتعدّى إلى معارف أخرى خارج الأدبية...”.
يمثّل المؤلِّف للتحقيق – بوصفه فعلا نقديا- بصنيع عبد السلام هارون في تحقيقه لكتاب (المفضليات)، حثّ ترجم لأصحاب تلك القصائد، وتناول أجواء تلك القصائد وخرّج أبياتها، وشرح ألفاظها، ببساطة وعمومية لا تخلوان من “ممارسة نقدية”.
منظومة الخطابات السردية:
ويُقصد بها خطابات نقدية متضمّنة في خطابات أدبية تتّخذ من السرد عناصر لبنائها. من أشكالها:
القصة:
يمكن أن تكون (رسالة الغفران) للمعري نموذجا مثاليا لها، حيث يتقنّع المعري الناقد بشخصيات سردية يبثُّ أفكاره ومواقفه النقدية على ألسنتها، وحيث يصاغ “الخطاب النقدي في شكل قصصي من خلال استدعاء الشخصيات الأدبية ومحاورتها والحكم عليها”.
الترجمة:
يميّز المؤلّف بين الترجمة والسيرة بأنّ الأولى إنجاز ذاتيٌّ عن الغير، بينما الثانية إنجاز الذات عن ذاتها، وعليه فالترجمة غيرية بينما السيرة ذاتية، وهي مسألة خلافية على كل حال.
إنّ الترجمة عنده إذن هي “سردٌ موجز لحياة شخصية ذات اعتبار، تتناول بعض المعلومات الشخصية، وبعض الخصائص العلمية أو الأدبية أو العقلية أو غيرها، وتعرض بعض الشواهد من حياته أعمالا وأقوالا”. ومن أمثلتها في تراثنا: كتب الطبقات والتراجم والمعاجم (معجم الشعراء للمرزباني، وفيات الأعيان لابن خلكان، معجم الأدباء لياقوت الحموي، كتاب الأغاني للأصفهاني..).
السيرة:
تشتبك السيرة مع فنون سردية أخرى كالمذكرات والاعترافات واليوميات...، يتمّ فيها تقديم شهادات ومواقف نقدية لأصحاب تلك السير حول رؤاهم الإبداعية وأحكامهم على شخصيات أدبية معيّنة ونظراتهم إلى قضايا نقدية محدّدة، ويحتفي المؤلِّف بضرب خاص من تلك السير التي يغلب عليها الخطاب النقدي إلى حدّ “عدّها نظرية في الشعر”؛ كسير بعض الشعراء المعاصرين التي ترد بعنوانات من طراز (حياتي في الشعر، قصتي مع الشعر، تجربتي الشعرية)، ويخصّ بالذكر والتحليل صلاح عبد الصبور وسيرة حياته في الشعر.
الخبر:
هو فعل نقدي متضمّن في معلومة قصيرة (تاريخية أو أدبية أو شخصية)، يُنسَج سردها على المنوال اللفظي الاستهلالي (حدّثني، أخبرني، قال لي، سمعتُ فلانا، بلغني)، حيث يتحوّل الناقد إلى راوٍ يبلور خطابا شفويا في نصٍّ مكتوب يسرد موقفا نقديا يبتغيه، من خلال الخبر الذي يتضمّنه أو من خلال تعليقه على الخبر. ويمثّل المؤلّف لذلك بأبي بكر الصولي (ت. 335 ه) في كتابيْه (أخبار أبي تمام) و(أخبار البحتري).
المقامة:
هي شكل سردي مألوف حمّلَهُ بعضُ كتّابه أثقالا نقدية غير مألوفة، بجوار ما حمَلَهُ من الأثقال الاجتماعية والسياسية والبلاغية...
تقوم المقامة – في هذا السياق النقدي - على أحاديث يرويها راوٍ من صنع خيال الكاتب/الناقد، يختفي وراء مهاراته المعرفية والبلاغية ليعبّر - بلسانه - عن مواقفه النقدية الشخصية. ويمثّل لذلك خير تمثيل بمقامة (مسائل الانتقاد) لابن شرف القيرواني.
منظومة الخطابات الضمنية:
هي خطابات لا تحمل موقفا نقديا في ظاهرها، لكنّ قيمتها النقدية ضمنية كامنة في أسباب تأليفها؛ كأنّها (توريات) أدبية تحمل معنييْن اثنين: معنى قريب لا يُراد منه سوى جمع متفرّقات أدبية أو تقديم نصوص، ومعنى نقدي بعيد مقصود يراد منه ترسيخ قناعة نقدية ما أو الدفاع عن شكل فنّي معيّن...
من أشكاله:
الاختيارات الشعرية:
كما في المفضليات والأصمعيات والجمهرة وكتب الحماسة والمختارات و(ديوان الشعر العربي)...
حيث يمكن أن نستخلص رؤية الناقد إلى العالم الإبداعي من خلال مختاراته، التي يريد أن يبلور مقاييسه النقدية انطلاقا من خصوصياتها النصية.
التوليف:
هو تجميع نصوص مختلفة لكاتب ما، تضمّ بعض مقالاته وتصريحاته وحواراته، يقوم بها ناقد مفترض قصاراه محاولة إبراز الرؤية النقدية النظرية للكاتب. وواضح محدودية المجهود النقدي المبذول في مثل هذه “التوليفات”، التي يكتفي فيها “المصنّف بتبويبها وتصنيفها ووضعها في سياق، بحيث تبدو وكأنّها نصّ واحد أُلِّفَ بقصد”، كما فعل حسن الغرفي، مع الشاعر العراقي حميد سعيد، في كتابه (حرائق الشعر).
النص المترجم:
إنّ نقل نصّ نقدي من لغة إلى لغة أخرى هو ـ في ذاته - نشاط نقدي لأنّه يعيد إنتاج ذلك النص “في لغته ومفاهيمه ومصطلحاته”، فيغدو كأنّه قراءة وتفسير وإعادة كتابة له. ومن الطريف أن ينتبه المؤلّف إلى أنّ هذا النشاط النقدي الترجمي قد أنتج خطابا نقديا آخر تابعا له هو “نقد الترجمة، ويعمل على البحث في مدى التناظر بين النصّ الأصلي والنصّ المترجم”.
منظومة الخطابات الشّخصية:
هي خطابات انطباعية حميمة، مطبوعة بالهيمنة الذاتية. ومن أشكالها:
الرسالة:
الرسالة النقدية بوحٌ حميم يتمحور حول الظاهرة الأدبية يبوح فيه المرسِل للمرسَل إليه بما يعتلج في أعماقه من خفايا، ممّا “لا يبوح به إلا لنفسه أو لمن هو في حكم نفسه”. ويمثّل لها الباحث بالرسائل المتبادلة بين محمود درويش وسميح القاسم، وأدونيس ويوسف الخال، ومحمد برادة ومحمد شكري...
الوصية:
يعرّف (المعجم المفصّل في الأدب) الوصيّةَ بأنّها فنٌّ “من فنون النثر في العصر الجاهلي. وتتميّّز بطول الجملة، ووضوحها، وميل إلى السّجع ولكنّه أقلّ من وعظ الكهان (...) وأغلب موضوعاتها في العظة من أب إلى ابنه، أو من أمّ إلى ابنتها...”. أما الوصية الأدبية، التي غالبا ما تحتفظ بتلك الخصوصيات البلاغية، فهي نصّ نقدي توجيهيّ يعدّ “بمثابة درس من كاتب محترف إلى كاتب على الطريق أو إلى كاتب مفترض، يختصر له بها وفيها طرق الكتابة وكيفياتها، وتأتي غالبا في صيغ الأمر والنهي والحث والتحريض، وتركّز غالبا على جانبين: الجانب المتعلّق بالعالم النفسي للكاتب، أو بما قبل الكتابة، والجانب البنيوي الخاص بتشكيل النص شكلا ودلالة”.
ولعلّ أشهر مثال يتداعى في ذاكرة من يسمع كلمة وصية، في الحقل الأدبي، أن يكون (وصية أبي تمام للبحتري)؛ وهي ـ إن صحّت تاريخيا - درسٌ من شاعر كبير إلى شاعر مبتدئ في سياسة الشعر، وفي ما أصبح المعاصرون يسمّونه (سيكولوجية الإبداع الفني) يجيب عن الأسئلة النقدية المركزية: متى تكتب؟ وماذا تكتب؟ وكيف تكتب؟.
وقد حفلت الوصية ـ على قصرها - بمصطلحات نقدية متعارف عليها (رقة المعنى، رشاقة اللفظ، تنضيد المعاني، التشبيب...)، وأخرى جديدة اخترعها أبو تمام ـ كدأبه في شعره - (المعاني المجهولة، الخياطة اللفظية، الشهوة الشعرية). مع ذلك، فإنّ عبد الله العشي قد أشاح بأمثلته عن وصية أبي تمام وصحيفة بشر بن المعتمر، إلى وصية أخرى أقلّ شهرة وتداولا، هي وصية بن أبي الإصبع في “تحرير التحبير” (نقلا عن النواجي في “مقدمة في صناعة الشعر والنثر”).
التقريظ:
هو نصّ نقدي انطباعي موجز يُكتَب تكريما لكاتب أو كتاب، تقديرا له واعترافا، وإعجابا به، في سياق إيجابي لا يكاد يخرج عن لغة المدح والثناء. ويمثّل له بنصوص كتبها كل من: الشيخ البشير الإبراهيمي والعقاد وشكري فيصل وأكرم زعيتر وأمجد الطرابلسي، تقريظا لديوان (مع الله) للشاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري.
التصدير:
هو عتبة تقديمية تهيّئ القارئ لاستقبال الكتاب وتغريه بقراءته وتحيط بمواصفاته الشكلية والمضمونية. قد يكون التصدير ذاتيا (كمقدمة نازك الملائكة البيانية لديوانها “شظايا ورماد”)، وقد يكون غيريا، حين يستكتب المبدعُ ناقدا يتولى كتابة مقدمة كتابه.
وفي الحالتين فإنّ التصدير يمارس “وظيفة إقناعية إغرائية تستميل القارئ إلى قراءة العمل الأدبي، وتجعله يدخل العمل الأدبي بموقف مسبق قد يؤثّر على القراءة الموضوعية...”.
الشهادة:
هي كتابة استرجاعية ذاتية يكتبها كاتبٌ حول كاتبٍ بينهما علاقة أدبية وشخصية حميمة، في سياق مخصوص (تكريم، وفاة...)، كثيرا ما تجيئ مثقلة بالعواطف والانفعالات، وتعوّل كثيرا على إملاءات الذاكرة وانطباعات الخاطر...
وأمثلتها كثيرة جدا، منها في (زحام الخطابات) مجموعة النصوص/الشهادات التي نشرتها مجلّة (فصول)، في خريف 1997، تكريما لأدونيس.
التجربة :
تتداخل التجربة بالشهادة إلى حدّ يجعلنا نفهم أنّ التجربة هي مجرّد شهادة ذاتية، كما أنّ الشهادة هي تجربة غيرية. فالتجربة هي خطاب نقدي ذاتيّ واصف لخطاب الذات المبدعة، أو هي سيرة إبداعية، يمكن التماسها في ما يكتبه كبار المبدعين تحت عنوان: تجربتي الشعرية، أو تجربتي الروائية، أو قصتي مع الشعر،...
وقد رأينا المؤلِّف ـ من قبل - يتحدّث عن (السيرة) ضمن منظومة الخطابات السردية، حديثا يلتبس كثيرا بحديثه عن (التجربة) ضمن منظومة الخطابات الشخصية.
منظومة الخطابات التصنيفية:
يعترف الباحث بأنّ الخطابات التصنيفية ـ القائمة “على الجمع والتبويب والتصنيف” - تتداخل تداخلا كبيرا مع الخطابات الشارحة (الشروح الشعرية، التحقيقات،...).
ولها شكلان أساسيان:
الفهرس:
الفهرسة نشاط نقدي، تقني بالأساس، يقدّم مداخل مفتاحية للباحثين، ينطلقون منها ويرومون توسيعها وتعميقها. تلك المداخل هي في الأصل “نتائج بحوث قام بها المصنّف”، الذي لا شكّ أنّه ـ قبل تصنيف فهرسه - قد “قرأ بالتأكيد الأعمال الأدبية وصنّفها، وعرف -أيضا- أجناسها وأشكالها وتاريخها وسياقاتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية”. ومن أمثلتها التراثية: (الفهرست) لابن النديم، و(بلوغ الأرب) للألوسي، و(كشف الظنون) لحاجي خليفة.
أما من المعاصرين فيستشهد الباحث بما صنع عبد السلام المسدي حين ذيّل بعض كتبه بفهارس توثيقية للدراسات الأسلوبية والنقدية، ولو أنّها فهارس مبسّطة تقف عند حدود التسمية ولا تتجاوزها إلى التعريف والنقد، فضلا عن شكل آخر من الفهرسة، أكثر اتّساعا وشمولا كما في (بانوراما الرواية العربية)...والحقيقة أنّ هناك أمثلة أخرى للفهرسة ـ في خطابنا النقدي المعاصر- أجلى وأجود وأجهد وأعمق وأكثر صلة بمقصدية الباحث من وراء عقد صنف مستقل لهذا الشكل النقدي، لعلّ أمثلها ـ في تقديري الشخصي- ما صنعه الدكتور حمدي السكوت (من مواليد 1930) في سلسلة (أعلام الأدب المعاصر في مصر)، وهي “سلسلة بيوجرافية نقدية ببليوجرافية” كما كُتب على غلافها.
وقد اطلعنا على الجزء المتعلّق بعبد الرحمان شكري (والذي أنجزه بمعية د.مارسدن جونز)، فألفيناه عملا نقديا تقنيا كبيرا يتتبّع سيرة شكري بالتفصيل البيوغرافي والببليوغرافي الدقيق، مثلما يخصّص عشرات الصفحات لدراسة شعره وتقويمه. وهو المنهج نفسه الذي سار عليه في الجزء المخصّص للعقاد، حيث أنشأ سيرة بيوغرافية للعقاد في أربعين صفحة، ثم عقد قسما (في زهاء 125 صفحة) بعنوان (عباس العقاد: دراسة وتقويم)، يتقصّى أعمال العقاد الشعرية ودراساته النقدية وإسلامياته...قبل أن يخصّص فهرسة ببليوغرافية رهيبة لكلّ ما يتعلّق بالعقاد (ممّا كتبه، أو كُتب عنه، في الكتب والدوريات والرسائل الجامعية)، وقد صنّفها وبوّبها تصنيفا محكما دقيقا لا يكاد يترك شاردة أو واردة ذات صلة بالعقاد، في ما لا يقلّ عن 400 صفحة كاملة.
ومن أمثلة ذلك في النقد الجزائري ما صنعه عبد الله الركيبي وإبراهيم رماني حين أعدّا فهرسا للأدب العربي في الجزائر، يرصد المادة الأدبية الجزائرية خلال فترة طويلة (1989-1920)، بتفاصيلها التوثيقية، وقد صنّفاها تصنيفا خماسيا (الدراسات، الشعر، الرواية، القصة، المسرح).
المعجم:
المَعْجَمَة المقصودة في هذا السياق النقدي هي صناعة معاجم “تهتم بالمصطلح النقدي في صياغته وشرحه والتمثيل له بنصوص أدبية”، ابتغاء ضبط اللغة التقنية للخطاب النقدي و«تكوين لغة نقدية مشتركة بين الممارسين تُبعد الالتباس والغموض عن اللغة النقدية”، كما في (المعجم الأدبي) لجبور عبد النور، و(معجم مصطلحات الأدب) لمجدي وهبة، و(معجم مصطلحات نقد الرواية) للطيف زيتوني، و(معجم مصطلحات النقد الأدبي المعاصر) لسعيد علوش، و(دليل الناقد الأدبي) لميجان الرويلي وسعد البازعي، و(معجم السرديات) لمحمد القاضي وشركائه...
الحلقة الثانية