يجمع بين الممارسة النقدية والنشاط الاجتماعي والسياسي

هـكــذا نظّر المفكر عبد المجيد مزيان لـ ”التاريخ”

محمد ديدان جامعة مولود معمري - تيزي وزو

تقويم المنهج.. ضبط المفاهيم وتحديد الخطوات الإجرائية..

يرى عبد المجيد مزيان أنّ التّراث عبارة عن إنتاج إنساني تتبدّى فيه اجتهادات البشر، وأشكال تفوّقهم، وأنماط قصورهم، وبالتالي من الطبيعي أن يوجد فيه ما يُستحسن وما يُستهجن، وما التراث الغربي بأوفر حظّ من التراث العربي الإسلامي في هذا الباب، ما يعني أنّ ذمّ الانبهار بالثقافة الغربية والتعصّب لها لا يسوغ التخندق حول الموروث الثقافي، وإعطائه صفة القداسة والعصمة - باستثناء ما وافق القرآن الكريم وصحيح السنة - بل يُعدّ تعصّبا من نوع آخر ينشأ عن الذوبان في الماضي ضمن محاولة إثبات الذات، فيتم حينئذ التشبّث بكلّ فكرة، والاستدلال لها بكلّ قول أو أثر يعزّزها، بصرف النظر عن درجة صحتها ومقدار موافقتها للواقع..


 كما أنّ رمي الحضارة الإسلامية بالركود والرجعية، وتصنيف الخطاب الديني في خانة التراث نتيجة أقوال وأفعال نابعة عن مذاهب ومناهج لا تعبّر في كثير من الأحيان عن جوهر تلك الحضارة هو حكم تعسّفي يغذّي عملية الصراع والتدافع بين الحضارات؛ فالتاريخ ليس مجالا للمفاضلة بين الأمم، وإنّما هو وسيلة لوضع كلّ أمّة في مكانها اللائق بعد تقييم إسهامها وعطائها.

التاريخ بين التمثّل والنّقد

يذهب عبد المجيد مزيان إلى أنّ الاكتفاء بالماضي والركون إليه يورّث عقدة في التعامل مع الجديد، وصعوبة في التوفيق بينه وبين القديم، فنقع أسرى له بدل الاستفادة منه كوسيلة وأداة لفهم الحاضر، وصياغة مناهج نقدية للتأويل والشرح؛ ممّا يعيق عملية التفكير الموضوعي ويُلبس التاريخ ثوب الاستعلاء على الزمان والمكان الذي لا ينبغي إلا للوحي، نتيجة الاعتقاد أنّه يشتمل على أسباب الحضارة كلّها، وأنّه يحتوي على حلول للمشكلات جميعها، ولهذا يقول: «في كلّ مجهود فكري لوعي الذات ووعي الآخرين لا يجوز للمفكر الجدّي أن يتمسّك بمنهجية التباهي والمفاخرة حتى تلتبس عليه الحقائق فيرى عيوب حضارته مزايا ومزايا الحضارات الأخرى عيوبا».
إنّ ما لاحظه مزيان من غلوّ واحتفاء مبالغ فيه بالتراث دفعه لطرح وجهة نظر موضوعية لا تلغي البعد الرمزي والفائدة العلمية والعملية من الاستفادة من دروس الماضي في محاولة التعرّف على الأصول العميقة للمشكلات المعاصرة، ولا تبقى حبيسة النظرة التاريخية التي تلغي البحث عن حلول جديدة توافق التحدّيات والتعقيدات المعاصرة، وهو بذلك يبتعد عن الماركسية التي تؤمن بحتمية التاريخ، وتوجّه الإنسان إلى اتّباع عجلته دون محاولة توجيهها أو التأثير فيها، كما يبتعد عن النصرانية المحرّفة التي ترى في التاريخ سجلا لانحرافات البشر، ذلك أنّه يرى بالتفاعل الإيجابي بين التراث والواقع، حتى لا يكون التراث عرضة للزوال والأفول تدريجيا، لأنّ دوامه في إعادة قراءته، وتعدّد تأويلاته، وإخضاعه للنقد المستمر؛ وكلّ إنتاج ثقافي يظلّ محدودا بتاريخيته وإطاره الاجتماعي، «ولا يمكن للتاريخ المحلّق على أعلى القمم إلا أن يعطينا نظرات خاطفة عن الواقع المتشعّب، أمّا الواقع الاجتماعي الذي يردّ الأحداث إلى مصادرها الحقيقية فهو أقرب مادة - فيما يبدو لنا لاسترجاع الواقع الإنساني، ولإعطائنا عنه صورة جدّ قريبة من الموضوعية الحقّة.
إنّ من الخطأ - حسب مزيان - الاعتقاد أنّ الشفاء من العلل الثقافية والفكرية يتحقّق باكتفاء كلّ طرف بمفهومه الخاصّ عن الحضارة، لأنّ في ذلك مبالغة في النزعة الدفاعية المحافظة، التي تعطي الشرعية للأنا وتنفيها عن الآخر، وهو ما لا يقرّه المنهج الفكري السليم، الذي يعتبر العلوم والوسائل والمفاهيم المحرّرة من قيود الاستعباد الفكري السليم مكاسب إنسانية يجب الاستفادة منها بغضّ النظر عن مصدرها، مثلما يعتبر النقد الذاتي والمراجعة المستمرة للنفس من أهم مبادئه، وإذا رأينا أمة منحطّة تعيش على هامش العالم، وخارج حركة التاريخ، فإنّها - في الغالب - إما منقطعة عن أصولها تستجدي الترميز على أبواب الأمم المتحضّرة وإما منغلقة على ثقافتها، متعصّبة لها، وهي في الوقت نفسه غير قادرة على الاستفادة منها في تنمية وضعيتها؛ فالضمير التاريخي قد يكون مطية للتدليس والزور حين يساعد على تسرّب بعض الأفكار والمعتقدات الخاطئة إلى الوعي الجماعي فيتم تقبّلها بوصفها موروثا ثقافيا يحوز على الشرعية التاريخية أحيانا والثورية أحيانا أخرى، وإن خالفت الإجماع وتعارضت مع معطيات الواقع ومتطلّبات العصر، ويعطي مزيان مثالا على ذلك بالنظرة الاستعلائية من العالم الغربي للشعوب المسماة “فتية”، واعتبارها أمية منذ عهد اليونان إلى يومنا هذا، حيث يضعها على هامش التاريخ إلى حين اجتياز ما أسماه بامتحان الامتياز التاريخي، الذي يحتّم عليها الاندماج في الفكر الغربي ظاهرا وباطنا، وفي هذا الصدد يقول : « تُتّهم الشعوب الفتية بأنّها مصابة بداء التاريخانية، وكأنّها من منظار الناقدين تبحث عن أسباب حضاريّة عريقة، وإثبات للذات، وإيمان بالديمومة، من خلال فترات من الماضي منمّقة بأوهام من المجد والتاريخ.
يكتشف المتأمّل في النظرة الغربية نزعتها الانتقائية التجزيئية في التعامل مع التاريخ، والتركيز على الإسهام الغربي الممتدّ إلى الحضارة الرومانية والإغريقية، مقابل تناسي الحضارة الإسلامية، وتغييب دورها في التفاعل بين الحضارات، في قفز متعمّد على حواجز الزمن، « وقد جهدوا ليكشفوا نقائص ذلك التراث، ثم تعميمها عليه ليقولوا للناس بعد ذلك : ليس لديكم ما تفخرون به، ثم إنّ تقدّمكم - على النمط الغربي - مرهون بنبذ ذلك التراث والتخلّص منه»؛ وبهذا انقلب التاريخ من وسيلة سرد لحقائق وتثبيت لوقائع إلى أداة مسخ وتدليس وتصنيف وتهميش، بما يخدم مصالح جهات معيّنة تدّعي لنفسها الوصاية باسم الضمير التاريخي الذي صنّفت بموجبه الأمم إلى متحضّرة بصفة دائمة وبدائية بصورة مطلقة، والحروب إلى مشروعة عادلة وأخرى غير عادلة، وليس افتراء الفيلسوف الألماني هيغل منا ببعيد، حين عرض تصنيفاته الفكرية والسياسية للأمم على ما سماه “التاريخ كضمير”، وحينما ادّعى أنّ الهمجية كلّها في غير أوروبا والحضارة والفكر كلّه في أوروبا”؛ ما جعله يقترح استعمار الغرب لما دونه كحلّ لما أسماه “غباء الهنود وتأخّر الصينيين المستفيدين لقواهم الحضارية من قرون بعيدة.
أحدثت تلك المعطيات نوعا من الاضطراب في الفكر الإنساني، فساد الإجماع على مقاربات نقدية جديدة لقراءة التاريخ، وكان أن اقترحوا مصطلح “التاريخانية الجديدة كبديل عن المفهوم البنيوي الشائع، وهو مصطلح ينتمي إلى الحقل المعرفي ما بعد البنيوي، بانفتاحه على العمليات الإجرائية التحليلية، واستفادته من النزعة التأويلية المنفتحة على الخلفية السياسية والثقافية والاجتماعية، المساهمة في إنتاج الخطاب التاريخي وبلورة دلالاته بعد رفع القداسة عن الحدث التاريخي ورجالاته، والحكم عليه بعد الرجوع إلى الملابسات والظروف التي أنتجته، فالخطاب التاريخي يتضمن بنيات خفية تحتاج إلى قراءات جديدة ومتعدّدة للكشف عنها، وهو ما يدخل في باب “ممارسة التأويل بطريقة صرف الجلي إلى الخفي من النص”.
ومهما يكن من أمر فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ عبد المجيد مزيان لم يتعامل مع التحديد البنيوي لمفهوم التاريخانية، الذي يدرس التاريخ كمفهوم مكتف بذاته ضمن نسق مغلق ينطلق منه وإليه يعود، باعتباره (التاريخ) حاملا للدلالة ومنتجا لها، وهو التحديد الذي أوقع أهل الفكر في مزالق عديدة، منها القول أنّ الظواهر الاجتماعية والثقافية يحدّدها التاريخ، ومنها الاعتقاد بأنّ القوانين التاريخية تحكمها قوانين معيّنة، ومنها الميل إلى اعتبار التطوّر التاريخي المكوّن الأكثر أهمية للوجود الإنساني، وهي أفكار تلتقي في الحقيقة المحاولة إثبات أنّه لا وجود لقيم ولمبادئ أبدية ثابتة، وأنّها أفكار نسبية ترتبط بالسياق الاجتماعي والتاريخي الذي وجدت فيه، وبالتالي لا يمكن لأيّ قوّة خارجية متعالية أن تتدخل في الحوادث التاريخية التي تجري وفق معايير وضوابط داخلية معلومة، ما يعني استبعاد البعد الغيبي والإرادة الإلهية في توجيه التاريخ، وهو فكر تسلّل إلى العالم الإسلامي - مع الأسف الشديد - في أواخر القرن الماضي، على أيادي مفكّرين تبنّوا الطرح التاريخي حتى في قراءة النصّ الديني القرآن والحديث، وقالوا بضرورة التمسّك بتاريخية كلّ البنى الاجتماعية والفكرية والدينية، التي وُجدت حسبهم بفعل الإنسان نتيجة تطوّر تاريخي سابق، وبالتالي لا يمكن اعتبارها شيئا مطلقا أو مجردا يقبع خارج حدود الزمان والمكان؛ فقالوا بتاريخية القرآن من حيث بنيته واختصاصه بمجتمع معين وبيئة معيّنة، وبالتالي قدّروا أنّ أحكامه وتشريعاته كانت استجابة لظروف وملابسات اجتماعية واقتصادية وسياسية معيّنة، فرفعوا بذلك التعالي والتقديس عن النصّ القرآني، وبئس ما صنعوا.

النقد الذّاتي وتجديد الوعي

يعتبر مزيان أنّ المراجعة المستمرة والدائمة للذّات هي خطوة لا يُستغنى عنها بحال في ميدان النضال الثقافي، إذ فضلا عن كونها تطهّر النّفس وترتقي بها إلى مصاف المثالية وتكسبها صفة الفاعلية والديناميكية، فإنّها تقرّبها أكثر من الموضوعية التي تكفل النزاهة في البحث والشفافية في الطرح والنقد، والتي تقوم على وعي بما عندنا وما عند الآخر على السواء، فتكون الأساس الصحيح واللبنة الأولى في بناء الصرح الثقافي بمعناه العام، « إنّ أحد النضالات يمثله الاجتهاد المستمر في معرفة أنفسنا قبل كلّ شيء، وفي التصارح معها وترقيتها إلى درجة التمييز بين الخطأ والصواب، بين الدغماتية العمياء والتبصّر المنير » (بوقلي حسن، 2002م، ص65).
تعتبر الثورة الجزائرية المجيدة من بين المحطات التي توقّف عندها مزيان بالدراسة في إطار النقد الذّاتي، لأنّ تقديس الأشخاص وإيعاز النصر لهم قد غطى على الجهد الجماعي، وأضرّ بروح الثورة الأصيلة التي قامت على الجماعية والتلاحم والوحدة؛ حيث جسّد ذلك في نقده للنزعة الفردانية التي “تركب إرادة المجتمعات في إرادة قادتها، وتصهر مجموعة الأوضاع الاجتماعية في المظهر الأكثر بروزا، وليس كمثل الحادث السياسي، والقائد العسكري، والمفكّر الكبير تشخيصا حيّا للأحداث والتطوّرات”.
يرى المفكّر عبد المجيد مزيان أنّ الخطوة الأولى في مسيرة الإصلاح ينبغي أن تكون الذّات مبدؤها، من خلال النظر إليها نظرة نقدية، وإعادة تقييم التراث وقراءة التاريخ قراءة أخرى، بهدف إعادة بناء الصرح الثقافي على أسس جديدة يستند فيها على المرجعية الفكرية والأخلاقية، قطعا للطريق أمام النزعة المادية التي لا تعبأ بالوسيلة، ولا ترى الحقّ إلا فيما ينفع ويوافق الهوى، لا فيما يطابق الواقع وتقوم الأدلّة على صحته، فتغدو الحضارة مادية فارغة من كلّ محتوى فكري أو أخلاقي؛ ما يترتّب عنه عجز وإفلاس حضاري، ومجتمع استهلاكي لا يعرف للإنتاج سبيلا، ولا للإبداع طريقا؛ وهي خطة استعمارية معلومة الأهداف قائمة على إحداث القطيعة بين المجتمع وماضيه باتخاذ طريقتين:
الأولى: استحداث نقطة صفر افتراضية لا يوجد معها ما يُلتفت إليه، تحت غطاء العولمة والحداثة، وهو نوع من الحواجز والسدود تُضرب على الأفكار فتُغلق أبواب النقد والإصلاح ومراجعة الأخطاء دونها، وبالتالي يتم إجهاض كلّ محاولة للنقد الذّاتي في مهدها، فيتواصل العمى الثقافي والقصور الفكري، ويغدو الحلّ الوحيد للتصدّي لهذه الحملة مخالفتها، حيث « يجب أن نثور ثورة عاقلة، وأن تكون أول ثوراتنا على أنفسنا، فنغيّر مناهجنا وسلوكنا وتكتيكنا، ثم نحدّد خطّتنا، ونعني أهدافنا، وننطلق بإيمان لا نلتوي بعده مهما تعاورنا من محن أو تأكّدنا من عقبات”.
أما الثانية: فهي سوء الفهم لمقاصد النقد الذّاتي، نتيجة تلقّي النقّاد والمثقّفين درسا مفاده أنّ الماضي شرّ كلّه، وأنّ النقد يستلزم الرفض والقدح لا التقويم والتصحيح، وبالتالي لا فائدة ترجى من إعادة قراءته، بل يُعدّ ذلك مضيعة للوقت والجهد، وأنّ من المبالغة في تقديس التراث محاولة انتقاء النقاط المضيئة فيه في خضمّ ظلام حالك أرخى سدوله على واقعهم في تلك الحقبة من الزمن، إذ يُصبح الأمر - حسبهم أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قشّ؛ حيل انطلت على كثير ممّن يُحسبون على الثقافة والنقد، فأدلوا بدلوهم بأسوأ شكل ممكن، وكانوا عونا للاستعمار على تراثهم، ووبالا على أوطانهم ومجتمعاتهم، قال فيهم مزيان: “توجد في كثير من بلاد العالم الثالث اليوم طوائف من المثقّفين لقّنت النقد الذّاتي من مرايا مشوّهة، تعكس لهم وجوههم في أبشع الصور، وحسب الرسوم التي يرسمها لهم مستعمريهم القدماء، وينتج عن هذا التشويه أنّهم كرهوا صورتهم أشدّ الكراهية، وأرادوا استعارة وجه جديد”.
تقتضي مواجهة هذا العبء الفكري المفروض على دعاة التغريب حسب مزيان - فتح جبهة مضادّة تقوم على إعداد باحثين ونقّاد بمرجعيات وأفكار مخالفة، من خلال إعطاء الأهمية اللازمة للبحث الاجتماعي والعلوم الإنسانية، ووضعها على نفس الخط مع التقنيات الحديثة والعلوم التجريبية، إذ تقع مسؤولية ذلك على العنصرين الفاعلين في القضية الدولة بإمكاناتها المادية والبشرية، والمثقّف بغزارة إنتاجه، وفعّالية أفكاره، وملاءمتها للبنية الثقافية التي يقوم عليها المجتمع، إذ « لا يمكن استدراك الخلل إلا بإجراء نقدي قويّ على الوضعية الحالية، ولا يمكن أن يصدر مثل هذا النقد الذّاتي إلاّ من لدن الخبراء أنفسهم لأنّهم أدرى الناس بمشاكلهم”.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19607

العدد 19607

الإثنين 28 أكتوير 2024
العدد 19606

العدد 19606

الأحد 27 أكتوير 2024
العدد 19605

العدد 19605

السبت 26 أكتوير 2024
العدد 19604

العدد 19604

الخميس 24 أكتوير 2024