نستند في هذه المقاربة القراءة على قناتين تمثلان الأرضية التي من خلالها نفكّك تمثلات ترهين الموروث في الكتابة المسرحية لجلاوجي، وهي عتبة منهجية تخرج ممّا هو آلي إلى ما هو تأويلي. حيث نمطّط المنهج الذي يحلّل دلالة الانبناء الجديدة ومدى شعريتها. وللإجابة على السؤال كيف تم هذا الترهين، نبتغي مقاربات جيرار جينيت من خلال نظرية العلاقات عبر النصية، بما تشتمل عليه من أنماط المناصّ والتناصّ والمتناصّ وباقي الأنماط (وهي نظرية تخرج من التفكيك اللّغوي، إلى فتح الأثر الأدبي على آفاق الثقافة والهويّة.
للإجابة على السؤال «لماذا» الذي يبحث عن سببية لجوء الكتابة المسرحية إلى هذا الانفتاح التطريسي والرؤيوي - وإن كان منطق الكتابة الأدبية لا يحتكم إلى الأسباب والمسبّبات - ننخرط في قراءة الأثر الأدبي بما تقدّمه نظرية الحوارية التي أرسى قواعدها ميخائيل باختين. ذلك أنّ عز الدين جلاوجي يحاول أن يقيّم - عبر طبقات مسرحياته المتشعّبة - علاقات حوارية «ميتا مسرحية وحكائية»، يراوح من خلالها بين صوت الذّات، وأصوات الحقول المعرفية والجمالية المختلفة، وهو ما يسم الكتابة المسرحية بتعدّدية صوتية تنأى عن المونولوجية النموذجية.
التحاورية التراثية.. قراءة خارجية
سنقرأ التأويل الدلالي والجمالي لتمثّل التراث في الكتابة المسرحية، على مستوى العتبات، ثمّة ظاهرة ملفتة وشديدة البروز في أعمال عز الدين جلاوجي المسرحية على مستوى المناصّ تمسّ العناوين الرئيسية والمؤشّر الجنسي. وهي تطريس التراثي للعنوان، ممّا يخلي الكتابة المسرحية تتشكّل كفسيفساء نصية، تتوخّى ملامسة الغواية والإشراق المتجلّي للّغة، وهو يروم تيمة التقاطع مع الجماليات التراثية. حتى وإن كان مسار المسرحية ومخيالها يتلولب في الرؤية الواقعية، وذلك على مستوى إحداثيات الواقع أو الوجود، وهي ظاهرة تستند إلى خلفية تراثية، إذ يحاور الناصّ وعي الكتابة التراثية الرقش واللّغة ومستوياتها ومدى نفاذها وتلويناتها على حسب السياقات، من حيث إدراك أهمية الحقول المعجمية كعلامات مؤشّرة تكشف عن هوية النصّ الجمالي، في حين تنكشف في جذور اللّغة وامتداداتها. وهي أولى تمظهرات الترهين التراثي الذي يبغي التأصيل لا المحاكاة والتقليد، إذ لا يرصّع الناصّ فضاء المناصصة بالعناوين المصاغة بالحياكة الجمالية، إلا ليجذّر الخلفية الدلالية للكتابات التراثية المحبوكة بهذه السيمياء في أغلبها، مثل المدوّنات الصوفية والأندلسية والشعبية وبالتالي النأي عن النماذج الغيرية المحتكمة بتصوّرات تحف الكتابة.
هذا ما نجده من خلال تمثل البعد الشعبي في مسرحية «أحلام الغول الكبير»، وهو عنوان يكثف البعد الدلالي للمرجعية التراثية الشعبية. فمن خلال وظائف العنوان التعيينية والدلالية واللغوية والشعرية التي وضعها جينيت، يرتبك المتلقّي بالمقصدية الكتابية للمسرحية عبر التماثل والتشكال، والانشداد في القراءة. فالعنوان يشكّل تناصّا داخليا وخارجيا، إذ يربط من حيث القراءة الداخلية بين سيمياء العنوان اللغوية وبين طرائق الكتابة في متن النصّ، فالتوشيح التراثي يحمل دلالة تركيب الجمل والكلمات في المسرحية، أيّ يمسّ الصياغة اللّغوية.
هذه الصياغة ذات الحمولة التراثية الترميزية، فعبارة العنوان مكثفة مديدة وهو ما نقرأه في النصّ يكتب الناصّ (أنتم يا مولاي يا سيدي الزعيم.. أكبر من الشورى والديمقراطية.. المسرحية (ص 14)، ويكتب (جانب من المدينة.. سوق شعبية عامة.. الناس صمتا مطبقا.. تجللهم سحائب من حزن (ص 13). فعبر مثل هذه الصياغات، ينشد التناصّ بين المناصّ/ العنوان، والمتن عبر تمثل التشكال والتماثل عبر الصياغة التراثية.
أما من حيث التناصّ الخارجي للمناصّ، فيتمظهر في شعرية العنوان، التي تستقرئ الكتابة التراثية الشعبية، أيّ تمثل المدوّنة الشعبية، إذ يحيل المناصّ إلى انشداد المسرحية إلى الأجواء واللّغة الشعبية، بما تكتنفه عبارة « الغول الكبير « هذه العبارة التي تواتر في المخيال الشعبي الجزائري والغول هي من الحكايات الأكثر تداولا في المدوّنة الحكائية الشعبية الجزائرية، وهو ما يوثق صلة الترهين التراثي للكتابة المسرحية. كما تشي هذه المناصصة «أحلام الغول الكبير» بالمحاورة التراثية، من خلال الصياغة التراثية، التي تعتمد على طول الجملة ورحابتها، وشعريتها، أيّ وضاءتها اللّغوية. فأغلب الكتابات الأدبية التراثية طرست بعناوين طويلة مثلما نجد في كتاب السرد الخالد «ألف ليلة وليلة» بعنوانيه الرئيسي والفرعي، والسير الشعبية، مثل « سيرة الأميرة ذي الهمة « وغيرها. وهي ظاهرة تفرّدت بها الكتابات التراثية. من هنا تتلولب المسرحية من خلال الإيحاءات المكثفة للعنوان - في المخيال التراث الشعبي.
وهو ما نجده كذلك في مسرحية «التاعس والناعس» التي تتحكّم في أنساقها الكتابية، الصياغات التراثية بدءا من العنوان وهذه الكتابة الموغلة في التطريس التراثي الشعبي تأخذ بسمات التشكيل التراثي على مستوى تطريس العتبات، من خلال خصائص الإزدوجية، أيّ دائما ثمّة عنوان يتناصّ داخليا وخارجيا، وكذا طول الجملة في التركيب الذي يأخذ تنميقا شعريا، وبالتالي، تثوير المنواليات الحكائية التراثية الشعبية، من خلال تمثلات انزياحية مشفّرة وفق جماليات دائمة الحركة. ويخرج هذا الترهين من الهيكلة التشكيلة ليمسّ الحضور الثقافي، أيّ هذه الكتابة تنقّب في خصوصية الهوية والذات. كما تتمرجع/تتناصّ الكتابة المسرحية لدى جلاوجي مع الموروث الشعبي في سياق التناصّ العام للمسرحية «أحلام الغول الكبير» و «التاعس والناعس» و»البحث عن الشمس» مع الحكاية الشعبية. أيّ تأخذ المسرحية الحكاية كإطار زئبقي متماه تبني عليه مسردية جديدة. فالمسرحية تتكئ على الحكاية كمرجع موحٍ فقط، يقوي صلة تناصّ المسرحية بالمدوّنة الشعبية. مثلما نجد في «أحلام الغول الكبير» التي تستضيء بحكاية الغول، أو الغولة. وتتكئ مسرحية «التاعس والناعس» على حكاية شعبية متواترة، وتتكئ مسرحية «البحث عن الشمس» على قصّة أهل الكهف.
هذه التقنية التي تستند على تمثل إهاب الحكاية أو الأسطورة الدينية أو الشعبية تقنية متداولة في الكتابة المسرحية العالمية والعربية، فبرناردشو حرك الأسطورة اليونانية في مسرحيته الشهيرة «بجماليون» وكذلك فعل توفيق الحكيم في «بجماليون» و»أصحاب الكهف» و»شهرزاد» غير أنّ حداثية جلاوجي تكمن في تهجين النصّ المسرحي، الذي تسبكه صيغ سردية وحكائية وميتا حكائية وميتاحوارية ومسرحية. من بدءا من المؤشر الجنسي، حيث يرصّع جلاوجي مسرحياتة بـ»مسردية» وهو ما يفتح النصّ على كتابة تأويلية هجينة تقتات من تهويمات السرد وتشعّباته. فالمسرحية - لدى جلاوجي بتمفصلاتها التراثية - حكاية وسرد ومسرح وشعر.
إنّ الكتابة وفق هذه الطرائق التي تبتغي وهج التراث، تموضع نفسها في نسق أدبي حضاري يخلي حضورها حيا كما هي حياة الموروث، أيّ كتابة تزداد توهّجا وألقا، كتابة تحاول أن تقول صوتها وصوت المرورث في آن، دون أن تفقد خصوصيتها وأسلوبيتها، كما يتمظهر المتناصّ التراثي في مسرح جلاوجي، من خلال إدراج مقاطع تاريخية، أيّ متناصّ تاريخي، وأحيانا يتمظهر المتناصّ الأدبي، والمتناصّ الديني. ويندسّ المتناصّ في لحمة النصّ، ويتفكّك في نسيجه، فيتمفصل كبينة متمّمة، لا تحدث نشازا. كما نقرأ في هذا المقطع في «أحلام الغول الكبير» (لبيك مولانا وسعديك) وهو متناصّ أدبي. ونقرأ في مسرحية «البحث عن الشمس» (سيدي الحكيم العظيم.. صاحب العقل، القويم والمنطق السليم، والحسب الكريم، أرفع إليك شكواي يامولاي (ص 51)، وهو متناصّ أدبي يدرج المسرحية في فضاءات الكتابة التراثية ممثلة في السير الشعبية.
الحوارية الفنية - قراءة داخلية
من خلال ما تقدّمه نظرية الحوارية، نفكّك البنية التراثية المترسّبة في الكتابة المسرحية لجلاوجي والحوارية ترصد حضور المرجعيات التراثية في النصّ، عبر قنوات عديدة أهمها : الأسلبة والتعدّد الصوتي. أيّ تحاول الإجابة عن السؤال «لماذا»، من خلال تحسّس الصوت التراثي المندسّ والمتناثر في معمار وبنية المسرحية. وإذ نقرأ مسرحية «غنائية الحب والدم» نجدها تعجّ بالأصوات التراثية، ممثلة أساسا في الغناء والشعر الشعبي، إذ بدت المسرحية قصيدة شعبية ممسرحة، وهو ما يشي به عنوان المسرحية بدءا (غنائية). وهنا يمكن حوار الفن للفن، أيّ ترهين المسرحية لخصائص الغناء الشعبي، ومن ثمّة تأخذ المسرحية شكل القصيدة الشعبية، أيّ تتأسلب بأسلوبها والأسلبة تشتغل ضمن التوليد القصدي، من خلال إبداع صورة جديدة للغة والأسلوب في الكتابة من حيث استدعاء صوت الآخر (إذ يستخدم المؤلف خطاب الآخر ليمنح توجيهاته الخاصة أسلوبا تعبيريا)، ويتدغم هذا الأسلوب في الصوغ المسرحي، وتتخصّب الإنتاجية الأدبية من خلال التأويل العام للمسرحية. إذ تتعاضد رؤية الخطاب الوافد مع الخطاب المشفّر.
وإذ نرصد التعدّد الصوتي - وهو إحدى مظاهر التشخيص الأسلوبي للخطاب، ويعني تعدّد الأصوات - فيكمن القول إنّ مسرح جلاوجي يمتح من المدوّنة الشعبية بشكل كثيف وواع يغني جمالية الإهاب المسرحي ويقوي دلالاته الرؤيوية، إذ تعجّ المسرحيات بأساليب الحكي وأساليب الأسطورة وصور السرد الشعبي والغناء الشعبي في تفاعل وسجال. كما يتموّج النسيج النصّي بالإيقاع الشعري الشفيف صياغة ومعمارا، ففي «غنائية الحب والدم»، تتدفّق الحكم الشعبية والغناء الشعبي، وهو أجلى تحاور/تفاعل/تناصّ للمسرحية مع المدوّنة التراثية الشعبية، بمختلف أطيافها وغاياتها وأشجانها. يكتب الناصّ: (واختالفت لقوال.. بين قايل وقوال.. بين عالم وجهال.. بين صحيح معلال.. قالوا من الشمس جاو وبانو.. كي نجوم السما لمعو وضواو..). ويكتب كذلك.. (شفتو يا سامعين يا حضار .. انفوس تقسدها وحدو من ثلاث اخطار.. مال يملى لجيوب ويعمرها تعمار).
وهكذا تصدح الأغاني الشعبية في المسرحية، محيلة بنيتها إلى قصيدة طويلة هجينة، يثورها شبق الشعر، ويحكمها منطق السرد المسرحي. وتحضر هذه الأغاني في كثافة، لتخصيب النصّ المسرحي على مستوى البنية السردية، إذ تحضر هذه الأغاني بأشكالها الشعبية المتواترة، أيّ بمقطوعاتها في تشكيلاتها، ومن ثمّة تتموّج المسرحية بإيقاع شعري كثيف، أيّ يتخلّق السرد المسرحي في نسق شعري من حيث الصوغ، حيث تتهلهل نصّية السرد المسرحي في منعرجات التقطيع الشعري، فتنزاح القراءة إلى المحمولات الاستهامية الاستعارية.
وضمن هذا النسيج المتشظي، تتحلّل الأجناس الأدبية في (مقولة النصّ الواحد)، إذ تذوب مقطرة صورتها الشعرية، فتتبدّل هندسة الكتابة في المشهد النصّي. من هنا تترافد وتتعاضد الحكاية الشعبية والأسطورة والأغنية الشعبية، في تحاورية تراثية، وحوارية فنية لتوهّج النصّ المسرحي، الذي يسمك بين ناصية صوت الذّات المبدعة، وصوت الموروث في آن واحد، في كتابة تتجذّر في هويّتها، وتقول ثقافتها.