ثورة نوفمبر في الشّعر الجزائري الحديث

أ - د - محمد مرتاض

 

 لا ريب في أنّه ما من ثورة نالت من الاهتمام والتقدير مثلما حظيت به ثورة نوفمبر، فقد تحدّث عنها الصديق الحميم، والأخ الشقيق، وتغنى بانتصاراتها كثير من شعراء العالم، ولذلك يتعذّر على من يروم الخوض في هذا المجال، أن يحصى أقلام الشعراء المتغنين بها إحصاء، أو يعدها عداً، وحسبه أن يقتصر على نموذجات تمثيلية في هذا الشأن لا أكثر، وهذا ما فعلناه في هذه المقالة حيث إننا سنقف عند بعض الشعراء الجزائريين الذين اكتووا بلهيبها واحترقوا بلظاها من قريب أو بعيد، فقد ذاقت كل أسرة جزائرية شريها، واكتوت ببلوى غائلتها. والشعراء في مثل هذه المواقف المؤلمة أكثر تأثراً وأعمق تألماً، ولذلك انطلقت من حناجرهم زفرات، ومن أقلامهم جمرات، ومن أصواتهم قصائد خالدات، فأكثروا من الأناشيد والإبداع؛ موازاة مع بطولات المجاهدين في أتون المعارك بين القمم والنجود.

الحلقة الثانية
 لقد سيطر الأمل على الشّعراء الجزائريين، واستبشروا بولادة فجر جديد عمّ ضياؤه مختلف جهات الوطن، وانطلقت مواهبهم الشعرية من قيودها لتتغنّى بوشوك الخلاص من المحتل الظالم، الذي لم يرحم صغيراً ولا كبيراً ولا شيخاً ولا رضيعاً، ومن الشعراء الذين احتفوا بها، يرد اسم الشاعر صالح خرفي الذي خص شهر نوفمبر بتحية خاصة، وآثره على سائر الشهور الأخرى، لأنه هو الشهر الذي جاء فيه الحق وزهق الباطل، وهو الشهر الذي فضح دسائس فرنسا المغتصبة وجيشها المندحر ببطولات المجاهدين وتضحيات الشهداء، وانصهار الشعب في بوتقة واحدة؛ ولذلك يعلن معانقة هذا الشهر واحتضانه فيقول:
بايعت من بين الشهور نفمبرا *** ورفعت منه لصوت شعبي منبرا
شهر المواقف والبطولة قف بنا *** في مسمع الدنيا وسجل للورى
فلأنت مطلع فجرنا وزناد بركان، أثرت كمينه فتفجرا
دوت بمطلعك الخصيب رصاصة *** فاهتزت (البيضاء) وانتشت الذرا
وانداح فجرك عن مصب من دم الأحرار فانتعش الجديب وأزهرا
قدستُ فيك النار تلتهم الدُّجى *** فتحيل ظلمته لهيباً أحمرا
قدمت فيك الموت مفتخراً بمن *** يعلو المفاصل كي يتيه ويفخرا
وللشاعر خرفي قصائد عديدة ضمّها ديوانه أطلس المعجزات، تتفجر كلها فخراً بالثورة وتفضح جرائم الاستدمار الفرنسي، وتتغنى ببطولة الشعب الجزائري ذكراناً وإناثاً وشباباً وشيباً، وهو في الأبيات الآتية يجأر بثورته ضد المحتل، ويذكره بهزائمه كي يحفرها في ذاكرته السوداء، وينشرها في صفحات تاريخه الملوث بالاندحار والانكسار، فيقول:
لهب يعتلي، وخصم يئن *** من يرد العذاب عنه ويحنو
سنوات في إثرها سنوات *** وجباه الطغاة للنار تعنو
ثورة كالأتون فتكاً، فويل *** ودمار على الذي منه يدنو
كم أطاحت بقائد ووزير *** وتداعى بها إلى الأرض ركن
أين (مولي) وأين منه (منوري) *** أين من يُظهر العدا، أو يُكن
حلم ساقه الدُّجى فتلاشي *** وتملى بطلعة الصبح حَفْنُ
إنّ خرفي، وهو الشاعر الملتزم الذي شرب من محن الثورة حتى فاضت كأسه، ورأى بأم عينيه ما قامت به جيوش الاستدمار من تخريب وتدمير وتقتيل وتشريد لم يعرف فمه الابتسامة، لأن النشوة إزاء ما يحدث في بلاده خيانة، ولذلك كان متجهّماً في هذه الأبيات غاضباً ثائراً مذكراً المحتلين بهزائمهم المنكرة التي تلقوها على أيدي أبطال جيش التحرير، ممّا أدى إلى إسقاط حكومات لهم توالياً تناثر وزراؤها كأوراق الخريف، ويذكرهم بأسماء (عظمائهم) الذين انتفضوا وأرغوا وأزبدوا، وزعموا أنهم سيجهضون ثورة نوفمبر في ربع ساعة، فإذا هم الذين يكنسون ويُقصون من الساحة قبل الأجل المحتوم.
ومن الذين تغنّوا بنشوب نار الثورة أيضاً، أبو القاسم سعد الله الذي يقول:
كان حلماً واختمار
كان لحناً في السنين
كان شوقا في الصدور
أن نرى الأرض تثور
غير أنّ الليلة الغراء شقت عن بطولة
والنداء الحر قد هز الرجولة
والشتاء السادر المقرور قد عاد ضرام
والولاء الوافر المخدور قد عاد انتقام
فأبو القاسم سعد الله جدّد في القصيد كأنه يشير بذلك إلى أنّ هنالك ثورة في كل شيء، أو أن الثورة الشعرية ما ينبغي لها أن تتخلّف عن الثورة المسلحة، فجاءت قصيدته خفيفة راقصة تنشد بلا معاناة، وتتابع فيها الأفكار دون تعقيد باعتماده على الإيقاع الراقص الذي يهز الأسماع في الأبيات الأولى، قبل أن يتغلغل في الصور التي وسمت الأبيات الباقية، حينما تحول الشتاء البارد إلى جحيم تتلقّى ناره لتحرق أعداء الحرية والأمن، وليتحقق الظفر على العدو وانتحاره المحتوم.
والواقع أن الفرح بانفجار الثورة هو القاسم المشترك بين الشعراء الجزائريين الذين هللوا وانتشوا؛ منهم أبو القاسم خمار الذي قال:
وثار القدر
وقامت زوابعه الهائجة
تصارع أيامنا الهاجعة
وفتحت عيني فكان الظلام
ولم أر غير الضباب الكثيف
هي طبيعة الشعر الثوري الذي جاء على هذا النسق المتتابع كسر أصحابه الأوزان الآلية التي سادت الشعر الجزائري قبل هذه المرحلة، فكأن التجديد في الشعر هو تعبير عن التجديد في الحياة، أو هو انعكاس لما آلت إليه، وهو ما يترجمه هذا النص الذي أسند الثورة للقدر، ولا أحد بإمكانه مصارعة القدر أو مخالفته أو الحيلولة بينه وبين ما يحدث؛ هذا القدر الذي نثر زوابعه الهائجة في كل البيوت والأسر التوقظ الساهين الغافلين، ومنهم الشاعر الذي فتح عينيه بعد أن تناهى إلى أسماعه الصخب المهول، فلم يبصر إلا الدّجى يسدل ستائره على الكون، ثم رجع البصر فلقه ضباب كثيف، وهذا الضباب الذي أضاف له صفة (كثيف)، هو رمز للأدخنة التي انتشرت عبر أرجاء الوطن، وهو أيضاً رمز لتلك الليلة الحالكة الداجية من أيام نوفمبر، حيث الخوف يلف الجبال والسهول والروابي، ولم يكن هنالك إلا ضراغم أو ضبارم، فهم قد آمنوا بالانتصار، وقرروا التصدي لكل الثعالب التي احتالت على عرائنهم فحاولت اتخاذها أوجاراً لها!
ومن الشعر الثوري الجزل الذي ضمنه صاحبه صوراً من صور الوصف للابتهاج بالثورة ما تغنى به الشاعر الطبيب محمد الصالح باوية في قوله:
دمدم الرعد وهزتنا الرياح *** حطموا الأغلال، وامضوا للسلاح
حطموها، واهتفوا ملء الأثير *** يا فرنسا اشهدي اليوم الأخير
هما بيتان من قصيدة للشاعر تغنيان عن الباقي من الأبيات، فهما يحملان صورة مدوية للثورة ضد المحتل الدخيل عبر كلمات مجلجلة تردادها زلزال رهيب للعدو، فالرعد يتلوه الطوفان الذي يجرف كل ما يُصادفه في طريقه، والرياح العاتية تأتي على الأخضر واليابس وتكسر كل من يحاول التصدي لضرباتها الشديدة. ويأتي فعل الأمر ليعبر بوضوح عن دعوة الشاعر إلى حمل السلاح، والمضي في الكفاح، وتحطيم الأغلال والقيود، وحينئذ يخلق أن تنشد أناشيد الانتصار على فرنسا وإرهابها بأنه قد انتهى جثومها على أرضنا الطاهرة، وأنه قد حام حين ارتحالها عنا إلى الأبد.
ويصرخ الشاعر صالح خباشة في وجه فرنسا الحالك، وفي وجه أعداء الجزائر قاطبة بقصيدة عنوانها: “صرخة ثائر”، موظفاً فعلاً طلبياً “اسمعوها”، وكأنه يريد أن يستقطب الأنظار نحوه قبل أن يكشف عما وراء فعل الأمر، فيحدد مدلول عبارته بأنه يريد صرخة الثوار، وهدير المدفع والرشاش؛ لأن الاستدمار الفرنسي وأعوانه من الحلف الأطلسي لم يبالوا بالكلام، ولم يصغوا للنداءات المتكررة التي حاولت أن تدفعهم إلى مغادرة أرض الجزائر، فجاء الرشاش والرصاص والمدفع ليرغمه على الانجلاء إلى ما وراء البحار، فالشعب الجزائري قد انتفض انتفاضة الأبطال، وآمن بوحدته وانتصاره، ويقسم الشاعر بثأره حتى لا ينسى، وأنه سيظل متأبطاً سلاحه إلى أن ترفرف راية الحرية خفاقة في كل شبر من أشبار الجزائر، كما أنه يبعث اليأس في نفوسهم بأنهم لن يبقوا في أرض الجزائر من الشمال إلى الجنوب، وأن عليهم أن يفروا بجلودهم قبل أن تحرقهم نار الثورة التي انتشر لهيبها في كل مكان، ولن تخمد إلا بعد تحقيق الهدف الذي من أجله تفجرت وفي سبيله اتقدت، فيقول:
اسمعوها صرخةً من كل ثائر *** صرخة المدفع والرشاش هادر
وحدة القطر وشعبي في الجزائر *** غاية الثوار في أرض المفاخر
يا بلادي أنا أقسمت بثأري أنا دون النصر لا تخمد ناري
لن تمسوا اليوم بالتقسيم داري *** لن تمدوا يدكم نحو الصحاري
فاسمعوها صرخة من كل ثائر *** لن تنالوا أي شبر في الجزائر
ولمحمد العيد قصائد تمجد الثورة إثر اندلاعها، وهذا ليس بغريب عليه، لأنه تشرب الوطنية منذ نعومة أظافره، وظل الحارس الأمين للأمة يُحارب الطغاة والمترفين، مثلما أسلفنا، ويُنافح عن اللغة العربية والإسلام، وينبذ كل تفرقة أو تشتيت للأمة، وقصائده الثورية تتوزع زمنياً قبل الثورة وبعدها، وقصيدته “ثامن ماي” التي غدت أنشودة يترنم بها كل غيور على وطنه وأمته قد حملت في مضمونها ما يحث على الثورة، ويهيئ لقيامها، إلى جانب قصائد أخرى أنشدها قبل الثورة، أما في أثناء الثورة، فإن لسانه ظل يلهج ببطولة أبناء الجزائر وانتصاراتهم الباهرة على جيش العدو وأعوانه؛ وكان محمد العيد من السباقين للاحتفاء بها والتأريخ لأحداثها وذكر الدواعي التي فجرها الشعب من أجلها، ووجه خطابه المشحون بالغضب والتهديد لفرنسا الاستدمارية فكان مؤرخاً لها مخلداً ما حدث في أثنائها، فيقول:
زحفنا عليها نزدري بعتادها *** وبالنار والبارود نصهره صهرا
وفي النار والبارود أبلغ حجة *** ترد بها الدعوى على من طغى كبرا
صبرنا على المكروه حتى أمضنا *** وذقنا من الإرهاق ما يَفْلِقُ الصخرا
فلما أبي إلا العتوّ عدوّنا *** وما زاد إلا في الغرور به سُكرا
نهضنا إلى الغارات نمحو غروره *** بحد المواضي، فارعوى وصحا فكرا
ويأتي الآن دور أعظم شاعر عرفته الثورة حتى نسب إليها ونسبت إليه، ولا ينتظر المتلقي طويلاً ليستكشف وحده من هو..إنّه الشاعر مفدي زكريا الذي التحم شعره مع الثورة واصطبغ بها، حتى غدا أشهر من نار على علم في الأقطار العربية كلها، فقد أوتي صوتاً جهورياً ووهب إلقاء مجلجلاً يزلزل السامع، ومنح موهبة شعرية غطت على كل الشعراء الجزائريين في هذا المجال الثوري، وما نحسب أن أحداً يُصارعنا في هذا الحكم أو ينقض رأينا بمن في ذلك الشعراء أنفسهم.
وهذه الشهرة الواسعة للشاعر جعلت اختيار أبيات من ديوانه الذي ينوب اسمه عن محتواه: “اللهب المقدس” مستعصية، ولكن هذا لا يحول دون أبيات من ديوانه الذي استفتحه بكلمة يقول فيها: “ديوان اللهب المقدس الذي طبع عام 1961 - والمذابح على أشدها - أنصع وجه مشرق بثورتي الانعتاق والانطلاق بمواكبته خطوة خطوة مختلف أحداث الجزائر الثائرة”.
ومن شعره في الديوان المذكور قصيدته العصماء التي أنشدها بمناسبة ذكرى احتلال الجزائر عام 1959م، يفضح فيها المستدمر الفرنسي، ويُلقي أسئلة أمام محكمة الخيال، ظلت عالقة عملياً ولكنها أجيب عنها ضمنياً، عنوانها: و«تكلم الرصاص جل جلاله”، تلفه الحيرة مما يرى ويشاهد ليس في نفسه، ولكن مما يجري، فالأكباد انفطرت، والقلوب من بواطنها انتثرت والرؤوس انحصدت، وهذه الحالات حدثت فأحدثت لهيباً متقداً وأجيج نار مشتعلاً حتى تساءل في تعجب: أهذه جهنم فغرت فاها، أم زلزال الهي رج هذه الأرض فزلزلت زلزالها؟! يقول فيها:
أكباد من..؟ هذي التي تتفَطَّرُ؟ *** ودماء مَنْ..؟ هذي التي تتقطر؟
وقلوب من..؟ هذي التي أنفاسها *** فوق المذابح للسماء تتعطر؟
ورؤوس من..؟ تلك التي ترقى إلى *** حبل المشانق، طلقة تتبختر؟
ومن الذي..؟ عُرْضَ الجزائر شبها *** من كل شاهقة، لظى تتسعر؟
أجهنم..هذي التي أفواهها *** من كل فج، نقمة تتفجرُ؟
أم أرْضُ ربك زلزلت زلزالها *** لما طغى، في أرضه، المستعمر؟
ثم ينقل التساؤل نحو الجزائر ليربط كل ما سبق بها، فهل هي التي تميزت من الغيظ؟ أم أحرارها الذين أهينوا في كراماتهم وأعراضهم ذكروا ما سامهم من المحتل الجائر فقرروا أن يثوروا؟!

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19733

العدد 19733

الإثنين 24 مارس 2025
العدد 19732

العدد 19732

الأحد 23 مارس 2025
العدد 19731

العدد 19731

السبت 22 مارس 2025
العدد 19730

العدد 19730

الجمعة 21 مارس 2025