لا ريب في أنّه ما من ثورة نالت من الاهتمام والتقدير مثلما حظيت به ثورة نوفمبر، فقد تحدّث عنها الصديق الحميم، والأخ الشقيق، وتغنى بانتصاراتها كثير من شعراء العالم، ولذلك يتعذّر على من يروم الخوض في هذا المجال، أن يحصى أقلام الشعراء المتغنين بها إحصاء، أو يعدها عداً، وحسبه أن يقتصر على نموذجات تمثيلية في هذا الشأن لا أكثر، وهذا ما فعلناه في هذه المقالة حيث إننا سنقف عند بعض الشعراء الجزائريين الذين اكتووا بلهيبها واحترقوا بلظاها من قريب أو بعيد، فقد ذاقت كل أسرة جزائرية شريها، واكتوت ببلوى غائلتها. والشعراء في مثل هذه المواقف المؤلمة أكثر تأثراً وأعمق تألماً، ولذلك انطلقت من حناجرهم زفرات، ومن أقلامهم جمرات، ومن أصواتهم قصائد خالدات، فأكثروا من الأناشيد والإبداع؛ موازاة مع بطولات المجاهدين في أتون المعارك بين القمم والنجود.
الحلقة الثالثة
ومن بين تساؤلات مفدي زكريا ما يُفصح عن السر ، وما هو بستر، بأن أرض الجزائر وسماءها تحالفا على دحر العدو فكان النجيع الأحمر هو الشهادة، وقرر جبل الأطلس الجبار الجهاد فاندكّ بقوته وصلابته جيش «الحلف الأطلسي» المتغطرس المتعجرف هو وعدته وعدده، وحينما شمر الشعب على بكرة أبيه إلى الجهاد، تكلم الرشاش فتعطلت كل لغة أخرى، مما أحدث رجرجة في الدنيا وصخباً وجزعاً لعبودية الاستدمار وقيوده، فقال:
غضب الجزائر ذاك؟ أم أحرارها *** ذكروا الجراح، فأقسموا أن يثأروا
و الأطلس الجبار بث قراره *** فاندكّ منه «الأطلس» المتجبر
والشعب أسرع للشهادة عندما *** ناداه عقبة للفداء وحيدر!
وتكلم الرشاش، جـــــلّ جلاله *** فاهتزت الدنيا، وضج النير
وأنشد في مهرجان شباب الجزائر في شهر أوت 1960 قصيدة ذكر فيها الحضور بواجبهم نحو بلدهم، وسرد عليهم جانباً من معاناة شعبهم مع المحتل البغيض، وما اقترفه من جرائم لا تصدق في حق الأبرياء ، وأوصاهم بضرورة ترداد ذكر الثورة وأحداثها فيما بينهم وفي أقسامهم لتظل ملامحها ماثلة في نفوسهم، فشعبهم قد عانى الويلات من المحتل المتسلط، ونبههم إلى الاستمساك بحبل الأمة والوطن، لأن الذي يتجاهل ذلك إنما هو عاق ناكر الجميل بلده، كما حثهم على تذكر قوافل الشهداء الذين وهبوا حياتهم رخيصة لتحيا الجزائر وتتخلص من قيود العدو الذي ظل حائماً على أرضها الطاهرة قرنا وثلاثين سنة، وألهب فيهم مشاعر الحماس والغيرة على أمتهم وتخليد تاريخهم بيد، ورفع العلم الوطني بيد أخرى، فيقول:
أنتم أكباد شعب ثائر *** قام بالنار يرد المعتدي
إن شعباً عقّه أبناؤه *** ويلتاه.. ليته لم يلد
فاذكروا الثورة في أقسامكم *** إن ساحات الوغى (كالمعهد) !
واقرأوا فيها كتاب الشهدا *** فهو وحي الله، في معتقدي
واذكروا شعباً، على أشلائه *** قام في سوق المنايا، يفتدي
من قتيل، يتنزى دمـــــــــــــه *** وسجين، وشريدٍ مُبْعَدِ
فاكتبوا العزة فيه بيد *** وارفعوا الراية فيه بيد
إن مفدي زكريا هو المؤرخ الأدبي لثورة نوفمبر من الوجهة الشعرية، فقد تعددت قصائده، وتنوعت موضوعاته التي حامت كلها حول ثورة نوفمبر حتى غدا عسيراً على الدارس أن يدمجه مع الشعراء الآخرين في الموضوعات الثورية، لأنه هو وحده يكاد يغني عن أي شعر آخر قيل في تخليدها والتغني بها، بيد أنه من الظلم للشعراء الجزائريين الآخرين أن نجزم بهذا الحكم، لأن كل من حاين هذه الثورة قد أعلن انتماءه لها والارتماء في أحضانها، وما من شاعر عاش في تلك الفترة العصيبة إلا وصرخ بشعره في أوجه الثعالب المحتالة التي كانت تختبئ في الكهوف، أو تتوارى داخل البروج المحصنة، فلم يجدهم ذلك فتيلاً؛ يقول مفدي زكرياء مهللاً ومستبشراً باندلاعها..
ويسخر من فرنسا حين جن جنونها من المقاومة والثورات المختلفة فزعمت أن الجزائر فرنسية وإذا كان الجنون صنوفاً وأنواعاً فإن جنون فرنسا من نوع المهلك لصاحبه، وحالها شبيه بلص يسطو على ما ليس له جلسة في تح الدجى، ثم يزعم أن هذا الذي في يده هو من ممتلكاته، فهل يُصدق أحد هذا الادعاء؟!.. أبداً، ولكن لا عجب في ادعاء فرنسا بعد أن فقدت عقلها وأضاعت صوابها والضلال والخساسة من شيمتها، فقد أصابها اعتلال في الرأي، وسقم في التدبير، فما درت ما تصنع، ثم إن من يسرق الأحرار الزعماء الخمسة في السماء لا يستنكف ولا يستحي أن يسرق شعباً بقضه وقضيضه، وهذا الصنيع لا يصدر إلا عن لص سفيه وضيع، أو مجنون هجين زنيم؛ يقول:
زعمت فرنسا في المحافل ضلة *** ملك الجزائر.. والجنون غرام
كاللص يسترق المتاع ويدعي *** ملكاً.. أيسمع للصوص كلام؟!
لا تعجبوا، فالقوم ضاع صوابهم *** يا ناس ليس على المريض ملام
من يسرق الأحرار في كبد السما *** يسرق شعوباً، واللصوص لئام !
ويقف الباحث حائراً إزاء قصائد شاعر الثورة: ماذا يصطفي وماذا يدع؟ وهل اختياراته وجيهة أو هناك ما هو أبلغ وأعمق تأثيراً؟.. هي أسئلة تراود كل مقبل على البحث في هذا الموضوع، أو لعلني أنا فقط أصبت بالذهول وأنا أقلب ديوانه، وسبق أن أعربت عن هذا الانشغال الذي لفني إزاء شعره. ومع ذلك، فلا بد من تسجيل نموذج آخر ارتأيت أن يكون ألصق بشهر نوفمبر، وأروع من الوجهة الإيقاعية، فقد نظم يوم فاتح نوفمبر عام 1958م قصيدة بمناسبة الذكرى الرابعة للثورة موسومة: «اقرأ كتابك»، وهو في غيابات سجن (البرواقية) العفن المظلم، وبعث بها إلى صوت العرب حيث ألقيت بالنيابة عنه، يقول:
هذا (نفمبر)، قم! وحي المدفعا *** واذكر جهادك والسنين الأربعا
واقرأ كتابك، للأنام مُفَصَّلاً *** تقرأ به الدنيا الحديث الأروعا!
واصدع بثورتك الزمان وأهله *** وافرغ بدولتك المرى و (المجمعا)
واعقد لحقّك في الملاحم ندوة *** يقف السلاح بها خطيباً مصقعا!
فهذا الصوت المجلجل الذي يطغى على القصيدة كلها من خلال الوصف الذي يحمل في مضمونه رجاً زلزل به العدو ومن شايعه من المجامع الكاذبة، فكتاب نوفمبر جلي السطور، واضح الخطوط، لا إبهام فيه ولا غموض، بعد أن تكلم صوت المدفع وتكررت سنوات الجهاد وتعددت ملاحم البطولات في أرجاء الجزائر، ثم يقول:
وقل الجزائر ... واصغ إن ذكر اسمها *** تجد الجبابر ساجدين وركعا !
إن الجزائر في الوجود رسالة *** الشعب حررها، وربُّك وقعا !
هي دعوة من الشاعر لكل غيور على بلده، فهو يجأر بها بفم عريض: «وقل الجزائر !»، لأن هذا الاسم زعزع الاستدمار، وراح يتهيب من سماعه، حتى إذا تناهى إليه أصابته ارتعاشة ودوران، فخر راكعاً وساجداً لذكرها، فالجزائر رسالة كانت مغيبة مقيدة، فانتفض الشعب برمته لخلاصها بتوفيق من المولى جل وعلا، وقد وصف الجزائر بأروع الأوصاف، فهي قطعة قدسية في الكون قام بتلحينها والضرب على أوتار أعوادها إيقاع الرصاص الذي تنوعت نغماته، وهي قصيدة خالدة أبياتها تلطخت بالنجيع، بعد أن هيأ لها نوفمبر المطلع والابتداء، فامتزجت قوافيها بالآلام والتضحيات مثلما شهدت عليه الجماجم في ساحة الشرف، ومثلما جرى دم الشهداء على ثراها فسقاه بلون قان لا يزول ولا يبيد.
وبعد أبيات ركز فيها على أن الجزائر التي رام لها المحتل البغيض أن تزول من الوجود، أضت لها شهرة تناهت إلى سمع الأصم، وإلى بصر الأعمى فاهتدى بها إلى الطريق، يخلص إلى الحديث عن الشعب الذي أقسم على تحريرها من ربقة الاستدمار الذي التحد إلى حيل شيطانية مختلفة لزعزعة وحدته وتشتيت صفوفه والعمل على إدماجه وقبر لغته وتحريف كتابه، فما أفلح وما نجح؛ يقول:
وأراده المستعمرون، عناصراً *** فأبي مع (التاريخ) أن يتصدعا
واستضعفوه، فقرروا إذلاله *** فأبت كرامته له أن يخضعا
واستدرجوه، فدبروا إدماجه *** فأبت عروبته له أن يبلعا
وعن العقيدة، زوروا تحريفه *** فأبي مع (الإيمان) أن يتزعزعا
الاحتفاء بالمقاومة الشرسة لجيش التحرير الوطني.
تغنى الشعراء بجيش التحرير الوطني، ومدحوا خصاله وبطولته ومحدوا إقدامه وتضحيته باعتباره قد ترك الأهل والصحب والفراش الوثير، والدفء في الغرفات، لينطلق مثل الأسود فيحيا بين الغابات والجبال والأحراش، ويتسربل بالجسارة والهمة والزحف على الأعداء حيثما حلوا وارتحلوا من حدود البلاد إلى الحدود، وفي هذا المعنى يقول محمد العيد:
نحن جيش التحرير جيش النضال *** نحنُ أُسْدُ الفدى نمور النزال
دمدمَ الطَّبْلُ للنفيرِ فَشُرْنا *** وهرزنا البلاد كالزلزال
واتخذنا من الجبال قلاعاً *** تقرع السمع بالصدى كالجبال
إنه صوت الحق والنصر؛ صوت انطلق كالزئير من الجبال يُعلن عن نفسه، ويؤكد قيمة هذا الجيش المجاهد واستعداده للتضحية والإقدام، وتوضيحه أن طبيعة هذا الجيش هي الإقامة بين الأدغال والأحراش في الجبال، وهذا المأوى الذي تخذوه فيها، منه تنطلق المعارك وتنصب الكمائن، وتجلجل الأصوات تخويفاً وترهيباً للمحتلين وأذنابهم.
ثم يبعث جيش التحرير برسالة إلى كل الأصقاع تكشف عن هدفه من الجهاد، وهو أنه يسترد حقاً ضيعه الاستدمار في قرن وثلاثين سنة، وهو لا ينشد إلا الحق ونشر العدالة، ولا يفخر أو يتعجرف أو يهاب، وإنما يرسل ناراً تلظى لتحرق الأعداء، ويتغلغل في المعارك لا يبالي بجهنمية العدو، وإنما يقتحمها ويحولها نحوهم لتبيد جيوشهم وتفني أعدادهم، وهذه الإغارة الفتاكة هي التي دمرت قضهم وقضيضهم، وقبرتهم في طي النسيان، وحققت لشعبنا الظفر عليهم؛ فيقول:
كم أقمنا شواهد الحق فيها *** وضربنا شوارد الأمثال
واقتحمنا الهيجاء ناراً تلظى *** كل صال منا بها لا يبالي
وأدرنا رحى الوغى فانتصرنا *** وأذقنا الأعداء من النكال
وقبرنا استعمارهم وفككنا *** شعبنا من سلاسل الأغلال
وأشاد بجيش التحرير في قصيدة أخرى معدداً محامده وأفضاله على القاعدين درجة وأجراً عظيماً، وذكر بعض الأعمال التي قام بها في الجبال متحدياً جهنمية الاستدمار جيشاً وأعواناً وعُدة رهيبة بإيمانه وبسالته وترخيصه النفس في سبيل الله. وقد تناص مع ما حدث لقوم عاد من هلاك بالريح العاتية، ومع ما ورد بشأن السنوات السبع الشداد في سورة يوسف (عليه السلام) ليعقبها عام مخصب فيه الإغاثة والعصر؛ فقال:
وثـار عـلى جور الطغاة بعاصف *** كعاصف عاد عاد في سبعها الغبر
فكان على الأعداء عملاق ثورة *** ومسعر حرب في معاركه الحمر
سنو يوسف السبع الشداد تصرمت *** وأعقبها عام الإغاثة والعصر
إن الشاعر محمد العيد كان ثورياً حتى النخاع، مخلصاً لدينه ولغته ووطنه، ولم تفته مناسبة من المناسبات الوطنية إلا و يخلدها بقصيدة رقيقة مؤثرة من غير وجل أو تكوص، ولذلك كثرت هذه القصائد الثورية مما يجعل الاستشهاد ببعضها يتخم هذا البحث، وهذا ما دعانا إلى انتخاب أبيات قليلة من قصائد كثيرة له، منها الأبيات الآتية التي أشاد فيها ببطولة جيش التحرير تارة أخرى، وعاد إلى التذكير بأعماله الجليلة التي أربكت العدو، وهزت أساس الاستدمار من جذوره، واقتلعته من أصوله، تشهد على ذلك الجبال الشم، والغاب الملتفة الأشجار، والأدغال الرهيبة التي كان يجتازها كما لو كان من جنس الضراغم والنمور، وهو يطارد جيش العدو الفار من وجهه كالذئاب العاوية!، أو بنات أوى الجائعة، يقول :
إذا جيشنا لاقى الفرنسيس ساقهم *** فلولاً إلى قفر فكان لهم قبرا
سلوا عنه «أوراس» العتيد فرأسه *** لهم منحن عطفاً، بهم شامخ فخرا
سلوا عنه أطواد البلاد جميعها *** ففيها بحق طابق الخبر الخبرا
هذا هو شاعر الجزائر الذي ظل وفياً لمبدئه الذي خطه في حياته، فلم تغره مناصب، ولم يلهث وراء جاه سياسي أو اجتماعي، وإنما ظل على اقتناع بأنه ملك في عرشه مع شعبه وتلامذته وأصدقائه، ولم تغب عنه الوطنية لحظة بل تمنطقها واحتضنها وجهر بها في مختلف القصائد التي خصصها لها.
كما احتفل الشاعر أحمد سحنون بفصائل الثوار التي توسم فيها الخلاص الكامل من المحتل الأجنبي؛ حيث رحب بجيش التحرير قائلاً:
نصر الله هذه الأوجه الغر *** وجوه كتائب التحرير
وحباها ما يستحق أولو الفضل من الاعتبار والتقدير
إن فرحة الشاعر أحمد سحنون بكتائب التحرير التي تطوّعت في سبيل الله من أجل تحرير وطنها وفي غمرة الدهشة الإيجابية التي طالته كسائر من حضر انفجار هذه الثورة لم يتمالك نفسه أو يشحذ ذهنه فجاء البيتان خاليين من الشعرية، وكانا عبارة عن نظم لا أكثر، ولكنهما ينمان عن وطنيته وإخلاصه للوطن، وكأنه تعمد أن تكون افتتاحيته هذه لقصيدته سهلة لينة قبل أن يقول:
إن من هاهنا سينشق فجــر يمحي من سناه ليل الشرور
وستهتز بالحياة وبالخصـــب بلاد ( الشمال ) بعد دثور