أحـــداث اليمـــن: خلفــا درْ

بقلـــم: دكتور محيي الدين عميمور

لم يبق ما يُقال بعد تصريح الرّئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، الذي تمسّك فيه بتحالفه مع الحوثيّين، وقال أنّه سيقاتل إلى جانبهم دائما تأكيدا لذلك التّحالف، وبهذا يجب على كل من يتعامل مع القضية اليمنية أن يقف وقفة لممارسة النّقد الذّاتي الذي يفرض اليوم نفسه أكثر من أي وقت مضى.
وأنا شخصيا لم أخفِ تعاطفي مع ما أطلق عليها عاصفة الحزم، والتي افتتح بها الملك سلمان بن عبد العزيز عهدته الملكية، وكنت قلت أنّ أكثر ما كان يُسبّب لي الضّيق والحرج هو أنّني وجدت نفسي في نفس الخندق مع من لا أحتمل رفقتهم حتى في جنّة الخلد، هذا على افتراض أنّنا سنكون من الفائزين بها.

لم يبق ما يُقال بعد تصريح الرّئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، الذي تمسّك فيه بتحالفه مع الحوثيّين، وقال أنّه سيقاتل إلى جانبهم دائما تأكيدا لذلك التّحالف، وبهذا يجب على كل من يتعامل مع القضية اليمنية أن يقف وقفة لممارسة النّقد الذّاتي الذي يفرض اليوم نفسه أكثر من أي وقت مضى.
وأنا شخصيا لم أخفِ تعاطفي مع ما أطلق عليها عاصفة الحزم، والتي افتتح بها الملك سلمان بن عبد العزيز عهدته الملكية، وكنت قلت أنّ أكثر ما كان يُسبّب لي الضّيق والحرج هو أنّني وجدت نفسي في نفس الخندق مع من لا أحتمل رفقتهم حتى في جنّة الخلد، هذا على افتراض أنّنا سنكون من الفائزين بها.
وحاولت، باسترجاع أحداث الماضي، أن أفسّر الغضبة الخليجية التي أحسستُ، وبعضُ الإحساس وهْم، أنّها موجّهة أولا للولايات المتّحدة قبل الحوثيين وعلي عبد الله صالح، الثّعبان الذي خدع الجميع منذ اغتيال الحمدي ثم الغشمي، رحمهما الله.
وكنت أتصوّر أن جلّ الخليجيين أدركوا، بعد غيبوبة طالت أكثر من اللازم، الحقيقة التي اعترف بها مؤخرا توماس فريدمان، صاحب المنصة التي انطلق منها صاروخ سُميَ «المبادرة العربية»، واحترق على منصة الإطلاق، بينما لا زال بعضنا ينتظر خيرا من حُطامه.
وذكرت بأنّ فريدمان اعترف بأن تحركات واشنطن منذ الثمانينيات كانت تفسح المجال أمام تطور النفوذ الإيراني، حيث أنّ الولايات المتحدة قدمت خدمات جليلة لإيران، فقد سحقت ألدّ أعداء طهران وأحجار العثرة في طريق طموحها السياسي والإيديولوجي، وأولهم حكومة طالبان في أفغانستان، وهي خصمٌ «سُنّي» عنيد على الحدود الإيرانية، ثم أسقطت نظام صدام حسين، الذي نجح في تجنيد شيعة العراق ضد ولاية الفقيه، وأمريكا تدعم إيران اليوم في تصديها لكل الحركات السنية المناوئة لها، أي أنّها كانت تعبث بدول الخليج منتهزة فرصة أمراض الشيخوخة التي أصابت بعض قادتها، وربما كان ذلك ما فهمه الأسد وتصرف على ضوئه.
لكن تعثر نتائج العاصفة أعطى الشّعور بأن صورة الواقع اليمني لم تكن واضحة أمام صاحب القرار السعودي، وإن كنت أشكّ بأنّها كانت بنفس الغموض أمام أصحاب القرار في واشنطن، وبالتالي فقد كان غريبا ألاّ تعرف الرياض حقيقة قوة الحوثيين وتحالفاتهم مع علي عبد الله صالح، وبحيث تعثّرت عملية كان المفروض أن تكون عملية جراحية ناجحة، يجريها جرّاح يعرف أين وكيف يجري مبضعه لاستئصال الورم الحوثي، بدون أن يُصاب وريد أو تمزّق عضلة.
لكن يبدو، على ضوء تطور الأحداث، أنّ قرار عاصفة العزم اتخذ بشكل متسرّع تتحمّل المخابرات السعودية مسؤوليته، لأنّها، وهي المكلفة بمعرفة كل شاردة وواردة في البطن الرخو (le Ventre mou)  للمملكة، والذي تشكّله اليمن.
لكن تحميل المخابرات السعودية وحدها مسؤولية الفشل في القيام بتقييم سليم للموقف قد يكون فيه بعض التجاوز، لأنها، وعلى عكس ما يحدث في بلدان كثيرة، لم تكن مسؤولة تماما عن المعلومات المقدّمة لصاحب القرار السياسي، والذي كان يعتمد، وربما كان يفرض الاعتماد، بشكل مطلق على المعلومات المقدمة من واشنطن.
وأعتقد أنّ هذا هو الخطأ الرّئيسي الذي تتحمّله القيادة التي اتّخذت قرارها في فترة التحول الحرجة من عهد الملك الراحل إلى ولاية العاهل الجديد، بكل ما يصحب ذلك من خلل في ميكانيزمات اتخاذ القرار، وفي دراسة المعلومات المخابراتية وتأكيد صدقيتها.
وكان يكفي أن يسترجع صاحب القرار أحداث التسعينيات التي أدّت إلى تدمير العراق، وقادت بالتالي إلى اختلال في موازين القوى الجهوية لغير صالح الوطن العربي، ليكتشف أنّ نصائح المخابرات الأمريكية ليست خالصة لوجه الله.
يومها، وبناء على خرائط معقدة قدّمها ديك تشيني لمن لم يُعرف عنه خبرة عسكرية، راح يحدّق فيها على ضوء ما يقوله تشيني، بدا أن قوات صدام حسين تتجه جنوبا لغزو المملكة العربية السعودية، وهو ما كان خديعة كبرى ارتكبتها واشنطن بشكل متعمّد لانتزاع طلب من الرياض، يبرّر لها إنزال قوات التّحالف على الأرض السعودية، حيث تنطلق منها نحو القضاء لا على النظام العراقي، ولكن على العراق نفسه، وذلك تحقيقا لأهداف أمريكية إسرائيلية، لا علاقة مباشرة لها بخطيئة غزو الكويت، والتي كانت عملية قام بها صدّام بعد أن تأكّد أنّ إغراق السوق بالنفط هو للأرزاق، وهو أخطر من قطع الأعناق، كما عبّر عن ذلك في مايو 1990، وبعد أن خان الرئيس مبارك الثقة، فطمأن الكويتيين بأنّ صدام لن يهاجم الكويت.
وهكذا كانت حرب التسعينيات التي قادتها أمريكا، وأطلقت عليها حرب تحرير الكويت، كانت الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الخليج العربي بفعل الخداع الأمريكي، زيادة في إنتاج البترول في البداية ثم قبولا للخرائط الأمريكية، والتي أكّدت المخابرات الفرنسية في برنامج متلفز تمّ بثّه مؤخّرا أنّها أعطت دلائل تتناقض تماما مع حقائق الأوضاع على الأرض.
لم يكن غزو الكويت أمرا يمكن قبوله أو تحمّل تبعاته، وخصوصا بالنظر لموقف الكويت القومي المتميّز، ومساهمتها في تحقيق النّهضة العربية، وتقديرا لاحتضانها الآلاف من أبناء فلسطين في انتظار عودة للوطن يتباعد توقيتها يوما بعد يوم، وكان الخلاف الرئيسي هو الأسلوب المطلوب اتّباعه، ولكن، ونتيجة للخداع الأمريكي، انقسم العالم العربي إلى شقين، أحدهما ينادي باستمرار امكانية الحل السلمي ويضمّ الجزائر، وآخر على رأسه مصر والخليج يُطبّل للحل العسكري بقيادة واشنطن ويتغنّى به.
وكنت ذكرت بأن قيادات مشرقية وقفت ضد جهود الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد من أجل حلّ سلمي، وإلى درجة أنّ طائرته مُنعت من الهبوط في أحد المطارات الخليجية، إشعارا بأنّهم لا يريدون بحث الأمر معه، وهذا بعد أن رفضت واشنطون زيارته، ولنفس السّبب.
وكان التّعامل مع اليمن أخطر الأخطاء التي ارتكبتها نفس المجموعة القابعة وراء اتخاذ القرار في الخليج، ولا أريد أن أسترجع تفاصيل كثيرة معروفة، تؤكّد كلها أنّ أهم دول الخليج كانت تتعامل مع اليمن كحديقة خلفية، حتى من قبل 1962.
وكان من طبيعة الأمور رفض دخول اليمن إلى اتحاد الخليج العربي، مع اتجاه نحو إدخال الأردن والمغرب، لأنّ الاتحاد نادٍ مغلقٌ للملكيات والإمارات، ولا مجال لوجود نظام جمهوري داخل أسواره، وبغض النظر عن أن ذلك النظام كان أكثر سوءا من أسوأ الملكيات.
لكن ما لم يكن طبيعيا هو تمكّن الرئيس اليمني علي عبد الله صالح من وضع أهم القيادات الخليجية في جيبه الصغير، فتناست تحالفه مع صدام، الذي أصبح العدو اللّدود بعد أغسطس 1990، ووضعت كل ثقلها لدعمه ورعايته، وأدّى الذعر من تأثيرات الربيع العربي على أوضاع بعض الدول الخليجية إلى مراهنة الخليجيين التامة على الرئيس اليمني، وبدون أن يتوقّف أحد عند الحقيقة الواضحة التي تؤكّد بأنّ الربيع العربي، وقد كان ربيعا حقيقيا، جاء نتيجة لمعاناة الشّعوب من حكام أصبحوا أسوأ من الإمبراطور بوكاسا، بعد أن حوّلوا بلادهم إلى ضيعة عائلية.
ولقد قلت في حديث سابق بأن نجاة علي عبد الله صالح من مصير القذافي كان بفضل الدعم الخليجي، وخصوصا بالأموال التي استطاع أن يحافظ بها على نفوذ عسكري وقبَليّ تجلّت قوّته في المواجهات الأخيرة، وبضمان الحصانة الكاملة له ضد أي متابعة أو محاسبة، وهو ما أعطاه الفرصة ليستجمع قواه ويعدّ عدّته في انتظار الفرصة السّانحة التي يُكشر فيها عن أنيابه، ويعضّ اليد التي أطعمته وعالجته ونولت حمايته من غضبة شعبٍ، كان يعاني من أمية بلغت أكثر من سبعين في المائة، ومن عادات اجتماعية شلّت قواه في كل المجالات.
ولن أتوسّع في استعراض ما أصبح معروفا حتى لدى رواد المقاهي الريفية وعند طيّابات الحمّامات الشّعبية، فالواضح أن واشنطن تعبث بالجميع، ولقد كان تراخيها في الإجهاز على بشار الأسد عبر دعم المعارضة السورية بشكل فعال، وبرغم التصريحات النارية لأوباما وكيري، كان صفعة للموقف الخليجي المناوئ للأسد، وأصبحت مأساة سوريا فضيحة حقيقية لجُلّ قيادات الخليج.
ولم يتوقّف الخليج ليقول لواشنطون: كفى، بل رضخت معظم قياداته لإملاءات المخابرات الأمريكية، حليفة الموساد، فضمنت التأييد المطلق للانقلاب المصري، في حين أنها كانت، منذ الخمسينيات، أول من احتضن الإخوان المسلمين، وكان الإسلام السني المُعتدل الذي يلتزم به رواد الإخوان هو قارب النجاة من الإسلام الجاهل المتطرف، الذي يوجّه جماعات مرتزقة، كانت أول من أيّد انقلابا ادّعى بأنه يحارب الفكر الرجعي الذي يقود إلى التطرف ويغذي الإرهاب، وكانت، منذ نشأتها الأولى، مخترقة من المخابرات، ومنفذة لإرادة رأس المال الطفيلي.
ولم تكن قضية اليمن وحدها هي نتيجة الخداع الأمريكي، بل كان إيجاد فائض نفطي في السوق الدولية قبل ذلك هدفا خطّطت له واشنطن لمعاقبة روسيا، وكانت جُل دول الخليج وسيلة الولايات المتحدة لتحقيق ذلك الهدف، الذي أدّى إلى انهيار أسعار النفط بنسبة خمسين في المائة.
ولم تدرك قيادات خليجية في الوقت المُناسب أنها تستعمل كمخلب قطّ لتصفية حسابات الأفيال، وأنّها حمّلت مسؤولية النتائج الكارثية على دول كثيرة، تشكّل مداخيل النفط ضمانا رئيسيا للتنمية الوطنية، بل ولاستيراد المواد الغذائية وحاجات الاستهلاك اليومي.
وأنا أعترف اليوم بأنّني تسرّعت في التّعبير عن تعاطفي مع عاصفة الحزم، وأقرّ بخطئي في دعم عملية نتيجتها اليوم هي حرب أهلية، بغض النّظر عن أنها صفعة لبلد شقيق، كنت أعقد آمالا كبيرة على قيادته الجديدة.
لكن خير الخطّائين هم التوّابون.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024