حطمت مشروع فرنسا الاستعماري

مظاهرات 11 ديسمبر 1960 إرادة لِفَكِّ الحصار .. وتحقيق الإنتصار

بقلـــم أحمد بن السائح

مظاهرات الحادي عشر من ديسمبر الخالدة، هي محطة من المحطات الحاسمة في تاريخ الجزائر المكافحة، وهي فصل من فصول المجابهة والتحدي بين شعب مؤمن بقضيته ومصمم على انتزاع حريته بواسطة الإستشهاد ومواصلة الكفاح بشتى الوسائل، وبين استيطان إستدماري غاصب ومتغطرس، ليس له من وسيلة سوى القهر والقمع والتنكيل وإراقة الدماء، ولا يعنيه بعد ذلك إلا الاحتفاظ بالأرض وفرض هيمنته الطاغية، وتأكيد إرادته القائمة على المحو والإجتثاث والإبادة الشاملة لشعب بأكمله.
 تلك هي حقيقة حسابات أُمُّ الإستدمار فرنسا العجوز التى بدأت معالم مظالمها تزول وتندثر تباعًا، وتتلاشى من أمام عينيك، كما تختفي مظاهر السراب الخادعة كلما اقتربت منها. وقد تزامنت بدايات أفول سطوتها واستكبارها عقب فضيحة هزيمتها في الميدان العسكري أمام رجالات الجنرال جياب في ( ديان بيان فو )، حيث كان الدرس ـ قاسيا ـ الذي أسقط جبروت الإستكبار الذي كان يظن أنه لَنْ يسقط، وكان طعم مرارة الهزيمة ولا يزال ـ وسيبقى على مدى الدهر ـ تتجرعه ولا تكاد تسيغه إمبراطورية الشر والإحتلال، وصاحبة مشاريع الكولونيالية الحديثة ورائدة الاحتلال القائم على البطش وسفك الدماء على مدى القرنين التاسع عشر والعشرين.

ديان بيان فو الهزيمة المرة

وعلى ذكر (ديان بيان فو) فقد عرفت أُمُّ الإستدمار طعم الهزائم العسكرية قبل ( ديان بيان فو ) أثناء اجتياح الألمان لباريس في الحرب الكونية الثانية، وذاقت من نفس الكأس التي طالما أرغمت غيرها على أن يتقبلها صاغرًا في الظرف الأليم الذي يفرضه الإنكسار والإستسلام. وعلى الرغم من تلك التجارب والتقلبات، فقد صَمَّمَتْ فرنسا الإستدمارية على مواصلة سيرتها الأولى، وتَخَفَّفَتْ من بعض مُسْتَعْمَرَاتِهَا لتتفرَّغَ للقضاء على ثورة الجزائر المجاهدة، والإستقواء على شعبها الذي لَمْ يستسلم لكيدها ولَمْ يُذْعِنْ لبطشها وجبروتها، وقد خبر أساليبها وعَرِكَ خداعها ومؤامراتها ومَرَدَ على طرائق سياساتها التي لَمْ تتغير ولَمْ تتبدل .
وأمام حتمية هذا الواقع الإستيطاني كانت الثورة الجزائرية تشق طريقها بثبات وتحقق انتصاراتها الظافرة في الميادين العسكرية والسياسية والدبلوماسية، وراح قادة الإرهاب الفرنسي وعتاة السياسة الإستدمارية يراهنون على الإحتفاظ بـ «الجزائر الفرنسيية» حسب مزاعمهم وطموحاتهم التي لا تزال ترسمها تطلعاتهم الزائفة، وتمليها أجندة الفكر الكولونيالي الذي أقام أُسُسَ أطروحاته على الإغتصاب، ومَكَّنَ لمشاريعه الإستيطانية بالعنف والإرهاب .
واستطاعت القضية الجزائرية ـ بعزيمة مجاهديها البواسل وإرادة قادتها الذين صمموا على فَكِّ الحصار ـ أن تضع الزيف الإستدماري على المحك، وأن تفرض مشروعها التحرري بوساطة المجابهة المسلحة التي أصبحت هي الوسيلة المجدية، والسبيل الموصلة للإنتصار والاستقلال، ومن ذلك المنطلق كان الميدان هو محل الرهان، وكان على كل طرف أن يثبت تحدِّيهِ بالطريقة المناسبة التي يراها تخدم الغاية التي يتغياها. وكان رأس مال الثورة الجزائرية هو الإرادة والتصميم والعزيمة الصادقة على تحقيق النصر ودحر المستدمرين، وكانت إرادة الشعب من إرادة جيش التحرير الوطني الذي تَوَلَّى حمل المشعل، ولَمْ يُطَأْطِئْ رأسه للعاصفة وصَمَدَ برجولةٍ وثَبَاتٍ، وراح يدير المعارك الفاصلة، ويَدُكُّ حصون الإستدمار بضربات نوعية تمسه في الأرواح والعتاد، وتزلزل بُنَاهُ التحتية، وتعصف بمنشآته الصناعية وقواعده العسكرية التي لَمْ تُغْنِ عنه شيئا في عمليات الكر والفر أمام كتائب جيش التحرير الوطني التي عرفت كيف تتحكم في سير المعارك على الرغم من الفوارق الشاسعة في موازين القوة والإمكانيات المتوفرة لدى كل جانب.

سقوط الجمهورية الرابعة

وفي غمرة ذلك التدافع بين الحق والباطل سقطت الجمهورية الرابعة، وكان لتسارع الأحداث على وقع تصاعد موجة البطولة والمفاداة التي تسجلها الثورة الجزائرية بشكل يومي الأثر البالغ في ذلك السقوط الذي يدل على خلاصة الفشل الذريع لتوجهات السياسة الفرنسية المتبعة في الجزائر، بما فيها من عنف وتفاقم للمظالم المتواصلة التي يمارسها غلاة المستدمرين ضد الجزائريين العزل، وازدادت حدة تلك الممارسات عقب اندلاع الثورة، وكثرة الإغتيالات من طرف المستوطنين، وأصبح للباطل دولة أخرى ـ هي دولة أوروبيي الجزائر ـ بالموازاة مع دولة الإحتلال القائمة على الأرض. وصَاحَبَ ذلك الواقع المزري تحولات جديدة، ارتفعت فيها وتيرة التجني والتحرش بالجزائريين بدون مبرر أَوْ سبب، واتسعت ظاهرة هضم حقوق الجزائريين بشكل ملفت، وغدا الإستفزاز والعدوانية ـ بمظهرهما السافر ـ من الصور المألوفة التي تطبع حياة الجزائري في بلده.
وبسبب حرب التحرير الجزائرية سقطت الجمهورية الرابعة على إثر سقوط حكومة ( فيليكس لاغايار ) بتاريخ : 15 /  04 / 1958، ولَمْ يستطع خلفه ( بيير فليملان ) أن يعرض حكومته على البرلمان يوم 13 / 05 / 1958 .
وعلى مدى سِتِّ سنوات كاملة من اندلاع الثورة، ظلت فئة أوروبيي الجزائر المنادية بشعار (( الجزائر فرنسية )) تصب الزيت على النار، وظلت هي مصدر التطرف والمحرض على تأجيج العنصرية والفتن بمواقفها العدائية المتشنجة، ومطالبتها بجعل حد نهائي للثورة الجزائرية، فضلا عن كونها الحليف الطبيعي والداعم المباشر لسياسة الإستيطان، وكانت في كل وقت وحين وراء أي تمرد للجنرالات، وضجت تلك الفئة المجرمة من انتصارات الثورة الجزائرية في الداخل، وتسجيلها للعديد من الإنتصارات في الخارج، فما كان من طائفة الكولون إلا التعجيل بتحقيق ذلك التمرد الذي أتى بـ ( دوغول ) إلى الحكم ظَنًّا منها أنه المنقذ الذي سوف يخلصها من جيش وجبهة التحرير الوطنيين، ويضمن لها الإحتفاظ بفردوسها الذي لا تقو على الإبتعاد عنه، فكيف بمفارقته المفارقة الأبدية التي لا لقاء بعدها !!!
 وبعد مجيء ( دوغول ) للحكم حاول بمكره وخداعه أَنْ يُصِمَّ أذنيه، واستخدم المنطق غير المجدي الذي استخدمه سابقوه، وقرر المضي في الدرب الذي ساروا عليه، وأراد أن يُقَدِّمَ طرحه المفخخ (( الجزائر جزائرية ))، وهو تَصَوُّرٌ مسرف في الخداع، ومسرف في التآمر ـ أيضا ـ في محاولة سحب البساط من تحت أقدام جيش وجبهة التحرير الوطنيين وعزلهما عن مجرى الأحداث، محاولة منه للإحتفاظ بالجزائر الجديدة، كما كان يتوهمها بعيدا عن تطلعات وطموحات شعبها، وإرادة جبهة وجيش تحريرها الوطنيين، وانقلب ـ في نهاية المطاف ـ السحر على الساحر، وانفضحت على الملأ جميع خداعات ( دوغول ) التي لَمْ تستطع أَنْ تسترضي لا أوروبيي الجزائر المطالبين بالإبقاء على (( الجزائر الفرنسية )) ولا أَنْ تُقْنِعَ المسلمين الجزائريين الذين فوضوا أمرهم لجبهة وجيش التحرير وراهنوا على انتزاع حريتهم بالإستشهاد والتحرير الشامل والكامل المفضي لتقرير المصير والإنفصال التام عن فرنسا .
«يتبع»

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024