في أبجديات الديمقراطية نظريات وتطبيقات

مساهمة أولية في الحوارات الحالية

بقلم: د. محمد العربي ولد خليفة

الحلقة الأولى

تمهيد: لماذا تكتب؟ ولمن؟
قد يتساءل البعض عن الجدوى من تفكير الشخص في شؤون وطنه والاهتمام بما يحدث في العالم من حوله؟ وما الفائدة من تسجيل أفكاره واهتماماته في صورة مكتوبة أو فيلم سينمائي أو مقطوعة موسيقية... وماذا يساوي فرد واحد داخل جهاز إداري أو تنظيم حزبي أو جمعية محلية، مهيكلة كلها غالبا من أعلى إلى أسفل ...؟ وأن في كثير من بلاد العالم هناك مسافة بين من يعلم ومن يسيّر ويدبّر، يرجع ذلك أحيانا إلى تفضيل النزعة العملية أو البراغماتية وعدم إضاعة الوقت في الدراسة والاستشارة، فقد نصح أحدهم مسؤولا كبيرا في الدولة بحذف كلمة مستشار في محيطه والاكتفاء بكلمة مدير.
ولكن ماذا يبقى من الأشخاص في أي موقع كانوا سوى الأفكار والمواقف التي قد تعبر المكان والزمان، وتبلغ إلى أجيال أخرى فتحظى بالقبول أو تواجه بالرفض أو الإضافة والتحوير؟ وعلى أي حال فإن مثل هذه الأعمال لا تبدأ أبدا من الصفر Ex Nihilo Nihil، إنها تكمل ما سبقها، فهي من كونفشيوس وهوميروس وما بعده سلسلة في متصل يؤدي انقطاعه إلى التخلف والجمود وخاصة في عالم اليوم ويخطئ من يظن أنه البداية والنهاية، أي لا أحد قبله ولا أحد بعده.
إن تشخيص واقع المجتمع واكتشاف جوانب القوة والتماسك وأعراض الخلل والضعف، هو مرحلة ضرورية، ولكنها ليست كافية إذا لم ترفق بالأفكار -المفاتيح التي تسبق أي فعل مهما طالت المدّة الفاصلة بينهما، غير أن طول المدة علامة لا تخطئ على الغفلة وإنذار بأن الأمة قد دخلت في سبات عميق.
لقد أجاب الكاتب البريطاني “إزرا باوند” 1885- 1972 “EZRA Pound” على تلك التساؤلات الهامة ماذا نكتب ولماذا نكتب؟ ماذا نقرأ ولماذا نقرأ؟ يقول في أحد أهم كتبه “ردود” “Ripostes” : ماذا يبقى في الإنسان إذا التزم الصمت وتجاهل ما تنبض به القلوب من آلام وآمال، وعطّل عقله وعواطفه، إنه ميت قبل إعلان وفاته.
إن المواهب والاستعدادات موجودة عند كل الناس، أسوياء أو معوّقين حسيا أو حركيا، ومهما كانت الطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، وبالتالي فإن بذرة الموهبة، عند اكتشافها وتعهدها تكون منصة لانطلاق الشخص ، وربما التحليق في سماء الإبداع والإتقان في مجتمعه وبمقاييس عصره، فالجزء الخام أو الوراثي عند البشر ضئيل مقارنة بقوة الإرادة ومدى الاستفادة من التجربة والخبرة، لا ينكر هذه المسألة إلا أنصار التفوق العنصري ودعاة التمييز الطبقي.
1-التغيير والبديل
تتردد في السنوات الأخيرة دعوة إلى التغيير تظهر في الخطابات السياسية وفي عدد من وسائط الإعلام، وقد تزايدت تلك الدعوة أثناء وبعد ما يسمّى في الغرب الأرو أمريكي بموجة الربيع العربي على غرار ربيع براغ في تشيكو سلوفاكيا قبل الانفصال، وقد تسرّعت بعض الأوساط ووصفته بالثورات، قبل أن تعرف نتائجها، فهي توشك في بعض أجزاء من المنطقة إلى العودة إلى أسوأ مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات.
إن التغيير عملية متواصلة في كيان الأمة قد تتباطؤ وقد تتسارع وتشبه عمليات الهدم والبناء catabolisme métabolisme، أي تعويض خلايا بأخرى التي تحدث في جسم الإنسان، وبالنسبة للشعب فإنه مرتبط بإرادة مجتمعية تناصرها أغلبية تقبل تكاليفها كأفراد وجماعات ولا يكون الوصول إلى السلطة أو استعادتها غاية في حدّ ذاتها، وأبرز مثال على الإرادة المجتمعية للتغيير الثوري هو ثورة نوفمبر 1954، ونحن لا نزعم أنها النموذج الوحيد في قائمة الثورات التي خاضتها شعوب العالم، ولكنها الأقرب إلينا مقارنة بما جاء بعدها في السنوات الخمسين الأخيرة، إنها ثورة لا شبهة فيها، ولذلك كلّفت الجزائريين تضحيات باهضة، فهل كان بالإمكان أن تتواصل بمشروع ثقافي يؤسس تحديثا يحرّر الفرد والمجتمع من تراث الكولونيالية المغشوش، ويعيد بناء الشخصية الوطنية بكل روافدها من نوميديا إلى معطيات العصر الراهن؟، لقد أجبنا جزئيا على هذا السؤال في مقاربة بعنوان “الثقافة الجزائرية من الاقتلاع إلى الاستقطاب” نشرت في سنة 2005، وفي دراسة منشورة في صحيفة مساء الجزائر بعنوان: “الحداثة كيف؟ الركود لماذا؟”، ماي 2014 Modernité comment? Stagnation pourquoi?”“
لا يمكن إنكار أن بعض تلك الانقلابات الموصوفة بالثورات من 1950 إلى سنة 2000. قد حققت لشعوبها بعض المكاسب وأحدثت تغييرات في مجتمعاتها، ولكنها تحمل رائحة صراعات الحرب الباردة وامتداداتها الإيديولوجية والتنافس عل مناطق النفوذ وخرائط التشكيل المتواصل لما يسمى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA والخريطة الجديدة لما بعد سايكس بيكو، أي عودة الكولونيالية والتدخل العسكري المباشر والابتهاج بالاحتلال الأجنبي بعد انسحاب مؤقت ترك وراءه قيادات من النخب في الحكم أو في المعارضة تعمل لصالحه خفية أو علنا وراء قناع الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير، وهي كلها قضايا حق ولكنها في حالات كثيرة مجرد سيناريو لتنصيب أنظمة وقيادات أكثر موالاة وقابلية للخدمة الطوعية لمصالح القوى المهيمنة.
يضاف إلى المسائل السابقة حكم متداول، يزعم أن الشعب الجزائري غير مسيّس، وأن شؤون السياسة من اختصاص الخبراء وما يسمى النشطاء في الطبقة السياسية، ولكن إذا كان الجمهور الواسع غير مسيّس فمن أين يأتي المناصرون والمناضلون على اختلاف دوافعهم وكفاءاتهم الأخرى؟ إن عامة الناس معنيون بشؤون بلادهم سواء أكانوا في داخل الوطن أو في الهجرة، يظهر ذلك فيما يدور من أحاديث وتعاليق وتظاهرات ساخنة أو هادئة وتقييمات للأوضاع في الجزائر وما يجري في العالم من أحداث، يظهر فيها الحسّ السليم le bon sens بحكم تجارب الشعب الجزائري منذ الاحتلال وخاصة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. فقد أشار أرسطو في كتابه السياسة إلى أن الإنسان سياسي بالغريزة، إن كلمة بوليتيك التي تحمل تصغيرا وحتى احتقارا للمجادلات العقيمة بين الأحزاب خلال خمسينيات القرن الماضي، تعني أن الزعامات السابقة لا تملك حلا لتحرير الوطن، وأن المفتاح كان بيد المنظمة الخاصة OS”“. أي خوض معركة التحرير بالصمود والتضحية.
الإجماعيّة نزعة قائمة
هناك مسألة ثانية تتعلق بالنزعة إلى الإجماعية unanimisme وهي ترجع إلى تراث ثورة التحرير، بعد أن فشلت الأحزاب والجمعيات الأهلية في الحصول على أي مكسب للشعب الجزائري المقهور، ولولا توحّد الجزائريين تحت راية وقيادة جبهة وجيش التحرير الوطني لما تحقّق النصر الأكبر سنة 1962، لقد كان الهدف واحدا، ولذلك لم تؤثر الخلافات الجزئية بين القيادات على المسار العام للثورة، كما بقيت السرية الموروثة أيضا عن فترة الكفاح المسلح ممارسة لدى مختلف التنظيمات فإفشاء السر عن تحركات جيش التحرير الوطني ومحاضر الخلايا السرية لجبهة التحرير يعتبر جريمة لا تغتفر.
وقد بقيت هاتان النزعتان بدرجات متفاوتة في الذهن أكثر منها في الواقع، وخاصة في وريث الحركة الوطنية وهو حزب جبهة التحرير الوطني ويعرف من شارك في مؤتمراته ولجانه في مختلف المستويات أن الإجماعيّة تظهر في الخطاب العام أكثر منها في المداولات والحوارات التي تجري أحيانا وراء الأبواب المغلقة، كما تفعل أحزاب أخرى في الشرق والغرب، وهي تترك للمناظرات وللإعلام وقياسات الرأي العام مهمة المرافعة والشرح والتأويل، إن المشكلة الحقيقية لمعظم الأحزاب في بلادنا هي الممارسة الديموقراطية داخلها بحيث يكون هناك اتفاق على النظرية السياسية العامة والسماح لمنابر داخل التنظيم بالاجتهاد فيها وهو ما يضيف للنظرية حيوية وتجددا ويبعدها عن الدوغماتية Dogmatisme والتكلّس.
إن الاختلاف في الرأي ليس من المحرّمات، ولكن الاختلاف يمكن أن يتوصل إلى توافق ترجحه كفّة الأغلبية داخل كل حزب وفي المؤسسات المنتخبة الأخرى، ومن الواضح أن رفض التوافق حول القضايا الأساسية قد يتجاوز الاختلاف في الرأي إلى أشكال أخرى من الصراع والاتهام بالتعصب والتطرف، والحل إما الخسارة أو العودة إلى طريق التوافق المفيد للجميع، وبالتالي فإن الاختلاف داخل التنظيم السياسي الواحد علامة صحية تمنع التفرد بالقرارات والمعارضة من خارج التنظيم، ثم انقسام الأحزاب وليست السلطة هي دائما المتهم، كما أن الأحزاب ومنظمات أخرى هي جزء من الدولة وعين أخرى للمتابعة والرقابة داخل المؤسسات الدستورية ينبغي أن تدافع على بديل أفضل في نظرها، ولا توظفها أي جهة خارجية للضغط والإضعاف، ومن المهم جدا أن تكون المعارضة داخل الوطن وليس في الخارج، فالضيافة في الخارج لا تكون أبدا لوجه الله.
أما المسألة الثالثة فهي تتعلق بمرجعية الأحزاب المتنافسة أو المتحالفة والبدائل التي تقدمها والبرامج التي تقترحها للدفاع عن حصيلتها أو تطوير الأوضاع وفق رؤيتها للحاضر وما هو منتظر في المستقبل، فلا يكتسب الحزب أو المنظمة الاجتماعية مصداقية إذا لم تكن له مرجعيه فكرية سياسية وبرنامج يلبي رغبات شرائح من المجتمع وبالطبع ليس كل المجتمع.
التغيير أهداف ومطالب
مهما كانت دوافع وأهداف المطالبين بالتغيير في الجزائر فإن المطلبية الثلاثية المتمثلة في الحرية والعدل والتقدم هي التحدي الأكبر لجزائر اليوم والغد، مع مطلب آخر هو في الحقيقة شرط أولي وهو المحافظة على أمن الجزائر واستقرارها ووحدة شعبها، وهذا الشرط لا يكون محل خلاف بين الأغلبية والمعارضة لأن إضعاف الدولة الوطنية خسارة للجميع - وليس ذلك ذريعة للتأجيل- وبناء اقتصاد ينمّي الثروة بتوزيع عادل لقيمتها المضافة كما تدعونا إليه قيم المجتمع الجزائري والحرص على تجانس مجتمع تعددي سياسيا وثقافيا في إطار ولاء للوطن يسبق كل الخصوصيات والولاءات المحلية الأخرى، وهي في رأينا مسألة ذات أهمية بالغة فالزعزعة تبدأ بالإضعاف من الداخل وتفكيك المجتمع إلى فصائل متصارعة باسم المذهب أو العرق وأشكال التطرف الديني الأخرى.
ينبغي أن لا ننسى أن الكولونيالية الفرنسية قد حاولت زرع بذورها لأكثر من قرن، وقد خصص الباحث “ ش.أ. أجرون” “Ch. A. Ageron” لهذه المسألة فصولا كثيرة من أطروحته الضخمة بعنوان: المسلمون الجزائريون وفرنسا Les Algériens musulmans et la France T.1- 1967 قدمنا مختارات منه مرفوقة بتعليقات من واقع المجتمع الجزائري كما هو في العائلة الممتدة إلى العرش، والأسرة كما بدأت تظهر في المدينة التي تحمل الثقافة الريفية في السلوك والعلاقات مع المحيط كما يراه الملاحظ على سبيل المثال في منطقة زواوة أو القبائل، وذلك بعنوان: المجتمع الجزائري في مخبر الكولونيالية الفرنسية ط-2- 2013.
يتبع

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024