17 أكتوبر 1961: صفحة دامية من تاريخنا المجيد

بقلـــم أحمد بن السائح

وتكون بداية المظاهرة أثناء خروج العمال من المؤسسات التي يعملون بها. وكانت نقطة التجمع للإنطلاق (ميدان الأوبرا)، واستجاب للنداء حوالي ثلاثين ألف من مختلف الأعمار، وطَوَّقَ تلك المظاهرة ما لا يقل عن 7000 شرطي و14000 دركي، حيث أغلقوا كل منافذ الميترو والمخارج المؤدية لمواقف الحافلات، وأَحْكَمُوا المغاليق حتى لا يفلت أحد من المصيدة التي سوف تتحول بعد ساعة من الزمن إلى مجزرة دامية يُفْسَحُ فيها المجال لمحترفي القتل ورُوَّادُ الإبادة الذين راحوا يواجهون الْعُزَّلَ والتَّظَاهُرَ السِّلْمِيَ بالقمع والموت الزؤام، وإطلاق الرصاص بكثافة في كل الإتجاهات لصناعة مشهد رهيب من مشاهد الإبادة المبرمجة، وتحولت ساحة المظاهرة إلى كَرٍّ وفَرٍّ ومطاردة بالذخيرة الحية التي تصيب الناس، وتسقطهم قتلى وسط أدخنة الغازات المسيلة للدموع، والضرب المبرح للمتظاهرين بالهراوات ومؤخرات البنادق، واعتقال الآلاف واقتيادهم إلى مراكز الشرطة للتحقيق معهم وتصفيتهم هناك؛ وحتى الذين لم يشاركوا في المظاهرة وكانوا في طريقهم إلى مدن الضواحي تَمَّ إنزالهم من الحافلات وتعرضوا للقمع واقتيدوا إلى المخافر لتعذيبهم وتصفيتهم، والأبشع من كل هذا الحقد الأعمى الذي طال كل الجزائريين دون سواهم، هو إلقاء الجم الغفير من ضحايا المجزرة الرهيبة في نهر (السين) مِنْ على جسر (سان ميشال) وهم مكتوفي الأيدي.
وعلى الرغم من هول المقتلة الفظيعة التي تجاوزت حدود التصفية والإنتقام؛ فقد خرج النساء في اليوم المولي (يوم 18 أكتوبر) يطالبن بإيقاف المجزرة فورًا، والتنديد بما حدث وما جَنَتْهُ أيدي البطش والقمع من سفك للدماء وزهق للأرواح. وتعرضت مظاهرة النساء هي الأخرى للضرب والقمع، وقوبلت المواجهات الشرسة والعنيفة من طرف عناصر الشرطة الهائجة بوحشية وغطرسة، ترجمتا عن حقيقة الوجه الآخر للإحتلال الكولونيالي؛ ونالت مظاهرة النساء حظها من القسوة والإنتقام، وكان منهن القتيلات والجريحات، فضلا عن الإغماءات الكثيرة لهول الفاجعة التي لَمْ يسلم منها لا الكبير ولا الصغير. وفي تلك الأثناء سقطت الشهيدة ((فاطمة بيدار)) بنت الخمسة عشر ربيعًا، ورميت في قناة (سان دوي) كما يؤكد ذلك الأستاذ سعدي بزيان في كتابه: ((جرائم موريس بابون ضد المهاجرين الجزائريين في 17 / 10 / 1961)) . وكانت نتائج المجزرة كارثية إذ تراوح عدد الشهداء بين: 300 و 400 قتيل، واعتقال أكثر من 14000 متظاهر في تلك الأمسية الحزينة، وأزيد من 511 امرأة بمعية أطفالهن في يوم 18 / 10 / 1961، وما ينيف عن 2500 جريح، وترحيل 1500 إلى قراهم في الجزائر، وأغلب المرحلين كان مصيرهم التصفية الجسدية وأُعْلِنَ عن اختفائهم؛ فضلا عن 400 مفقود لا يعلم أحد بمصيرهم أو الوجهة التي اقتيدوا نحوها.
مَنْ هو السفاح (موريس بابون)؟
 هو مجرم حرب له رصيد حافل بالدماء والضحايا، وله مسار طويل في القمع والتعذيب، وتجربة متميزة في العنف والإرهاب والإستبداد . تولى مناصب شتى في الإدارة وتَقَلَّبَ في المسؤوليات العليا والحساّسة؛ وفي مطالع حياته كان من السهل عليه أن يبيع وطنيته، ويكون العميل الخائن المتواطئ مع النازية. مَارَسَ (بابون) دوره المنوط به في كل المواقع بطريقته الخاصة؛ كان ميكيافيليا في مناشطه ووظائفه، لَمْ تكن المناصب التي تولاها هي التي تهمه بقدر ما كان يهمه الدور القذر الذي يؤديه بنجاح من خلال توظيف المنصب لأغراضه المستقبلية، وبناء مساره الذي عرف كيف يخطط له، دون أن يقع في المزالق والمطبات. وتُعًدُّ حياته المديدة ـ التي تجاوزت التسعين عامًا ـ واحدة من الظواهر الإجرامية التي فُطِرَتْ على القسوة وتصفية الآخر؛ وأمام هذا النوع من الظواهر الغريبة ينمحي الجانب الإنساني، ويبقى جانب الصعلكة الذي تتألف مادته من جماع السخائم والحقد والكيد والكراهية، والقابلية للمزيد من التقتيل والإبتهاج بتصفية الخصوم.
وقد عرفت الجزائر منذ بدايات الغزوة الكولونيالية الكثير من هؤلاء في المجالين العسكري والإداري. وسَجَّلَ تاريخ الإحتلال مئات المجازر والإبادات التي قام بها أمثال (موريس بابون) من الدمويين الذين احترفوا صناعة القتل والمحو والإجتثاث؛ ونذكر منهم: (بيليسييه) و(راندان) و(كلوزيل) و(سانت آرنو) و(بيجو) و(أوساريس) و(ماسو) و(لاكوست) و(بيجار) و(دوغول) و(صالان) و(سوستال) وغير هؤلاء من الملاعين.
وقد عُيِّنَ السفاح (موريس بابون) يوم 2 ماي 1956 من طرف (روبير لاكوست) في منصب المفتش العام لمنطقة الشرق الجزائري. واختيار (لاكوست) لـ : (بابون) هو اختيار لسياسة التصعيد والموجهة والقمع؛ لأن (لاكوست) أدرى باختيار رجاله، ويعرف أكثر من غيره الماضي الإجرامي لـ : (بابون) وما يتوفر عليه رصيده من ضحايا ودماء، ولذلك استقدمه من المملكة المغربية التي انتدب لها في مهمة خاصة بين سنتي: 1954 ـ 1955؛ وبمجرد تعيينه محافظًا لمنطقة الشرق (قسنطينة)، شرع في تنفيذ مخططه الرهيب ضد الجزائريين، وراح يحث الذين يعملون تحت إمرته على القسوة واستعمال السلاح لمجرد الإشتباه، وتشديد القبضة على كل الجزائريين، والإلتزام باتباع سياسة التضييق عليهم، وعدم التفرقة بين هذا وذاك، فكلهم أعداء ولا يستحق أي منهم الرحمة. وقد عمل مجرم الحرب (موريس بابون) في تلك المرحلة على استعداء المستوطنين الأوروبيين على الجزائريين؛ وجاء بسياسة عنصرية يطبعها التطرف، وأمر بعسكرة الحياة المدنية ، وحرض المستوطنين على التسلح، وتصفية الجزائريين.
 وبهذا النهج أطلق الإرهابي ((بابون)) العنان لأعماله الوحشية، وأعطى الضوء الأخضر لشرطته وزبانيته لارتكاب المجازر وممارسة التعذيب بحرية مطلقة أثناء التحقيق والإستنطاق، لإخافة الجزائريين ونشر ظاهرة الرعب في أوساطهم. ودشنت أعماله القمعية عهدًا جديدًا من الإرهاب الإستدماري الشامل؛ وفتحت طريقته بابًا من أبواب الشدة والفزع لَمْ يسبقه إليهما سابق.
وعلى إثر مجيئ (دوغول) إلى السلطة في فاتح جوان 1958 استقدم (موريس بابون) وعينه محافظًا لشرطة باريس للقيام بأبشع المهام، وارتكاب أخس القذارات التي لا يضطلع بها إلا الشياطين؛ وراح يعمل على تشيكل شرطة جديدة من (الحركة) خاصة بمشروعه الذي يدور في رأسه، والذي يتوافق مع طريقة تفكيره المتخلِّفة القائمة على المكر والخداع، والتي تعتمد على الظن والتأويل واستباق الأحداث قبل أن تقع !!! وكانت خطته التي أراد أن ينفذها هي المراهنة على مسح باريس وضواحيها من كل أثر لجبهة التحرير الوطني؛ بعد أن تَجَذَّرَتْ هذه الأخيرة وأصبحت واحدة من التحديات التي لا يستطيعها أمثال (بابون) الذي لا يحلو له العمل إلا في الأوساط التي يمارس فيها القمع والتعذيب بشراهة؛ لأنه متعطش بطبيعته للدماء. ولتصفية نشطاء فيدرالية جبهة التحرير الوطني جلب عناصر (الحركة) من (قسنطينة) و(الجزائر) ووَفَّرَ لهم كل الضروريات والمرافق، وأغراهم بالمال والسلاح، وجعل منهم عيونا خاصة به، وكانت بمثابة الركائز التي تقوم عليها مشاريعه الأمنية. وانزرعت تلك الجيوش من (الحركة) في الوسط الباريسي وفي بعض مدن الضواحي وغيرها؛ واندست بين جموع المهاجرين، وبدأت عملها بالتخابر والوشاية وتصفية الحسابات بالإفتراء والتحرش واستغلال السلطة التي خولها لها مشروع (بابون) الظالم؛ ونتج عن ذلك الوضع البئيس تجاوزات شتى خلفت ضحايا كثر، ومما سهل من مهمة (الحركة) أنهم يفهمون العامية الجزائرية ولغة العمال اليومية، ورغم ذلك فقد استطاعت جبهة التحرير الوطني أن تجعل خطة (بابون) على المحك، وتكسر قبضته الحديدية وتتحداه بفضل إيمان عناصر الفيدرالية بعدالة القضية المقدسة للشعب الجزائري. وتمكنت جبهة التحرير الوطني في نهاية المطاف من إسقاط خطط (بابون) ومشاريعه الإنتقامية، ولَمْ يستطع هو مسح جبهة التحرير الوطني من فوق التراب الفرنسي، ولَمْ ينجح في تفكيك خلاياها ومتابعة تنظيماتها التي تحتضنها أفئدة المهاجرين.
الموقف الفرنسي والإعتذار:
 فرنسا الكولونيالية كعادتها لا تريد الإعتراف بجرائمها الحربية المرتكبة ضد الإنسانية؛ وهي لا تزال تتنصل من ماضيها الأسود الملطخ بالدماء والمدنس بالمجازر العنصرية الجماعية؛ بل هي ماضية في ضلالها القديم ولا تعنيها أفعالها المثقلة بالفظائع والقتل. والغريب أنها تُصِرُّ على أن ماضيها الإجرامي ضرب من المشروعية التي تدافع عنها ولا ترى في وحشيتها وإبادتها للجنس البشري، ما يضيرها أو يحرجها، ويدفعها إلى مراجعة ما حدث أو تصحيح ما جرى، والإعتراف بالحقيقة التاريخية، وتحمّل المسؤولية الكاملة عن كل تلك البشاعات الهمجية وما خلفته من فجائع وأرزاء.
وفرنسا التي سَنَّتْ قانون 23 فيفري 2005، لتمجيد ماضيها الكولونيالي، وادعت أن استعمارها يطفح بالإيجابيات والحضارة، وتتبجح في غير خجل أن احتلالها للشعوب قد ساهم في النهوض والإرتقاء، وانتشل تلك الشعوب من طور بائد متخلف وانتقل بها إلى طور جديد يتسم بالحداثة وثقافة العصر، كما تزعم أُمُّ الإستدمار !!!
ولا شك أن هذا الضرب من التفكير الْمُوَرِّثِ للخبل، والذي راح يستهزئ بالذاكرة الجزائرية، ويحتقر تاريخنا ويضحك على واقعنا من خلال المواقف الفرنسية التي تطالعنا بالهمز واللمز؛ كلما قلَّبنا صفحات الذاكرة وتأملنا جيدا في المشترك العام المتمثل في الماضي (التاريخي) بيننا وبينها. ولا تفسير للإستهزاء بالذاكرة واحتقار التاريخ، والضحك المبرمج في كل المناسبات سوى أن فرنسا لا تزال تعتبرنا قطعة منها، ولا تزال تعتقد في طوايا نفسها بأن وصايتها الكولونيالية لا تزال قائمة وسارية المفعول؛ وأننا بفضل إيجابيات إستدمارها الذي أخرجنا من ظلمات البداوة إلى أنوار حضارتها لا نزال نحيا، وبفضله يطلع علينا قرن الشمس!!!
وطالما أن عقدة التاريخ ستظل صادمة بسبب دحر فرنسا وإخراجها صاغرة من الجزائر، وانتصار جيش وجبهة التحرير الوطنيين عليها في الميدانين العسكري والسياسي، وإنهاء دجلها واستكبارها، فإن فرنسا الإستعمارية لن تتوب ولن تعتذر ما دامت ترى في استعمارها الآفل إيجابيات تستحق التمجيد والإحتفاء، وإقامة النصب التذكارية في كل مكان لتخليد تلك المآثر التي رَسَّخَتْ فينا الأمن والسكينة والرفاه!!!
وتمجيد الإحتلال معناه تبييض الإبادة والإجرام، وتعريفهما بغير معناهما الذي يَدُلُّ عليهما؛ وفرنسا تريد مِنَّا أن نطلق كلمة ((الرحمة)) على ((المجزرة)) !!! وحسب هذا الفهم السقيم هو أن نسلك مسلكا آخر في تسمية الأشياء بغير مسمياتها، ونعيد النظر في كل المصطلحات حتى نستطيع مسايرة المنطق الفرنسي الشاذ الذي غدا يخاطبنا بـ: (لغة خاصة ـ  Langage specialisée)، ومن هنا وجب علينا أن نستيقن أن الذي يُمَجِّدُ إستعماره لا يمكن أن يعتذر ويتبرأ منه، لأنه لو فعل فقد وقع في التناقض، والجلاد المفطور على الجريمة والإبادة الجماعية لا يعتذر للضحية؛ ولربما هو الذي يطلب من هذه الأخيرة أن تعتذر إليه !!! لأنها استفرغت جهوده وقواه، وبذل لها ما في جعبته من مزايا وإيجابيات، أثناء ممارسته لفعلته التي من حقها التمجيد والإعتراف بالجميل!!!
وإذا نظرنا إلى العلاقة بيننا وبين الْمُمَجِّدِينَ لجرائمهم العنصرية وتَأَمَّلْنَا فيها بِعَيْنٍ مُفَتَّحَةٍ، فنلاحظ أن إدارة الإليزيه  ـ سواء كانت يمينية أَوْ يسارية ـ تريد منا أن نكون آلة استماع لتصدع علينا بإملاءاتها التي تتطلب منا التنفيذ على الفور، وتطبيق ما استمعنا إليه من إملاءات واستفزازات. وإهانات (كوشنير) ليست منا ببعيد، فقد سبق له أن تطاول على معالي وزير المجاهدين  ـ السابق ـ محمد الشريف عباس الذي يمثل قطاعه (رمزية) الجهاد والمجاهدين والأسرة الثورية عامة، ومَرَّ ذلك التطاول لدواعي واعتبارات أوجبتها أخلاق الجهاد، ثم أعاد هذا الـ : (كوشنير) استفزازه الذي مَسَّ ذاكرتنا الوطنية، وأهانها بتصريحاته المؤذية التي اعتبرت جيل الثورة هو العقبة في طريق تسوية كل الخلافات، ونص عبارته المهينة : (( ... ذهاب جيل نوفمبر يجعل مسقبل فرنسا بالجزائر أكثر إشراقا . )) . أ . هـ . !!! وتصريحات وزير الداخلية الأسبق (كلود غيون) الذي أعلن من تركيا : (( ... أن ملف الذاكرة قد طوي من طرف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي خلال زيارته للجزائر نهاية 2007 . )) . أ . هـ . !!! في حين أن فرنسا لم تسكت بعد عن مطالبة تركيا للإعتراف بإبادة الأرمن، فضلا عن الموقف السلبي وغير المسؤول لسفير فرنسا عند زيارته لسجن (سركاجي) سنة : 2011، والواقع أن هذا اللون من المنطق المأفون الذي تعكسه إرادة الإستعلاء والإستكبار، هو الذي يشتغل على بناء العلاقة القائمة على خضوع التابع للمتبوع؛ والجزائر التي حرّرها المجاهدون والشهداء لن تكون تابعة لأم الإستدمار أو لغيرها سواء اعتذر المستكبرون أم عقدوا خناصرهم على عدم الإعتذار.                     
«انتهى»

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024