الحلقة4
من أهم المبادئ الإسلامية هي الدعوة إلى العمل والفعالية، “وَقُل اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ “ (صدق الله العظيم، سورة التوبة: الآية 104) لدرجة ربط العمل بالإيمان. تركزت الأفكار الفلسفية والأحكام البناءة لقادة الفكر بمختلف قناعاتهم ودياناتهم على العمل. يكفي التذكير بالمدارس والأفكار الكنفوشيوسية التي تُمجّد العمل، كما عبر عن ذلك الرئيس الصيني السابق مؤسس جمهورية الصين (1912) صن يات صان: “ما أسهل الكلام وما أصعب العمل”. وعبر عنه كذلك الفيلسوف الفرنسي فولتير (Voltaire : Francois Marie Arouet) بالمقولة: “الخطأ ليس في الفكرة بل في التنفيذ”.
سادساً: ما العمل؟: مقاربات واقتراحات في مضمون وآليات الدبلوماسية العامة للدول الإسلامية
من أهم المبادئ الإسلامية هي الدعوة إلى العمل والفعالية، “وَقُل اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ “ (صدق الله العظيم، سورة التوبة: الآية 104) لدرجة ربط العمل بالإيمان. تركزت الأفكار الفلسفية والأحكام البناءة لقادة الفكر بمختلف قناعاتهم ودياناتهم على العمل. يكفي التذكير بالمدارس والأفكار الكنفوشيوسية التي تُمجّد العمل، كما عبر عن ذلك الرئيس الصيني السابق مؤسس جمهورية الصين (1912) صن يات صان: “ما أسهل الكلام وما أصعب العمل”. وعبر عنه كذلك الفيلسوف الفرنسي فولتير (Voltaire : Francois Marie Arouet) بالمقولة: “الخطأ ليس في الفكرة بل في التنفيذ”.
نحن في عالم تسود فيه الفعالية، الواقعية، التنفيذ، الممارسة والعمل، وليس التفكير الرغـبوي والـطرح المثالي الذي هو في كثير من الأحيان صعب التجسيد ميدانياً. من السهل تقديم اقتراحات إيجابية ومنطقية ولكن عند التطبيق يظهـر الخطأ. فالتفكير الرغبوي (wishful thinking) سهل ولكنه ممتنع (السهل الممتنع) في التطبيق.
قبل تقديم الاقتراحات لابد من تغيير الذهنيات والابتعاد عن التمويه والدعاية وخطاب الاستهلاك الإعلامي. وقبل تحديد ماذا يجب أن نفعله يجب أن نعرف ماذا يريد الآخر، ليس من خلال الوثائق والتصريحات الرسمية بل من خلال دراسة الخلفيات والأبعاد من ذلك والتي أثبتت لنا باستمرار أنها كانت على حساب عالم الجنوب بصفة عامة والعالم الإسلامي بصفة خاصة. كما سبقت الإشارة إليه، العالم الإسلامي ومازال محطة تجارب وممارسات لاستفزاز التوترات وخلق النزاعات (الفوضى الخلاقة) خدمة للمصالح الإستراتيجية للدول الكبرى. في العالم الإسلامي، الكيان الصهيوني أحد آليات تجسيد هذه الخطط والاستراتيجيات.
يتطلب التفعيل العلمي والموضوعي والعملي للدبلوماسية العامة، توضيح وضبط المضمون والأهداف وتحديد الآليات والوسائل اللازمة لذلك. يمكن هنا على هذا المستوى ذكر البعض منها.
المضمون، لا يكفي تحديد المحتوى وإعلان الأهداف والمبادئ دون رصد وتحديد المشاكل والخلافات الدبلوماسية المتمثلة في منظور كل طرف للدبلوماسية العامة، وفق المصالح الخاصة، وارتباطات الدولة الثنائية والدولية. بالعالم الإسلامي، هناك مستويين لتجسيد الدبلوماسية العامة، المستوى الأول: منظمة المؤتمر الإسلامي، بأهداف ومبادئ وهياكل وآليات مشتركة: التعاون والتضامن بين الدول الإسلامية، دعم التعاون في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتنسيق مع الدول الأعضاء في المنظمات الدولية، العمل على محو التفرقة العنصرية ومقاومة كل أشكال الاستعمار، دعم السلام والأمن الدوليين القائمين على العدل، احترام سيادة الدول وقيم ومعتقدات الشعوب الأخرى بمختلف ثقافاتها وحضاراتها...(36)
والمستوى الثاني الذي هو الدول الإسلامية ببرامجها وهياكلها وآلياتها الدبلوماسية الفردية والخاصة، وضعها المحلي وامتداداتها الإقليمية والدولية. في كلا المستويين، المضمون يجب أن يكون موحداً أو مشتركاً خاصة في المواضيع الإستراتيجية المشتركة.
تتطلب المرحلة الراهنة من العالم الإسلامي دولاً وشعوباً الاهتمام أكثر بالدبلوماسية العامة. التحديات كبيرة وتتطلب احتواء الاتجاهات المتطرفة للإساءة للإسلام، ومن خلالها الإساءة لصورة الدول والشعوب الإسلامية وإبعاد سوء الفهم الذي هو أصلاً نتاج أهداف وأبعاد سياسية للأطراف الفاعلة في العلاقات الدولية (خلق عدو بديل بعد تفكك المعسكر الاشتراكي) وليس نتاجاً لصراع حضارات أو ثقافات(37). هنا تظهر الأهمية الكبرى للدبلوماسية العامة لدول العالم الإسلامي، التي يجب أن تركز على احتواء التطرف في العالم الآخر.
العالم الإسلامي بحاجة أكثر من وقت مضى للدبلوماسية العامة، لأن له قضايا جد حساسة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، قضية الوحدة الوطنية، موضوع التنمية، مواضيع المس بالسيادة للدول الإسلامية باسم القانون الدولي، حقوق الإنسان والديمقراطية، وحدة الدول الإسلامية المهددة بالتقسيم. وقبل أسابيع عاش العالم الإسلامي ذلك في السودان، وكثير من الدول الإسلامية مرشحة لمثل ما حدث للسودان.
دول العالم الإسلامي بحاجة إلى تنسيق سياساتها الخارجية، من خلال توظيف آليات الدبلوماسية العامة، بهدف توفير مناخ لعلاقات تعاون اقتصادي واستراتيجي، والبحث عن بدائل للعلاقات الاقتصادية التقليدية. طبعاً أهداف السياسات الخارجية للدول الإسلامية تختلف من دولة إلى دولة، ومن منطقة إلى منطقة، كل حسب وضعها الخاص، ووضعها الجيو- سياسي ومصالحها الاقتصادية والتجارية، وتصوراتها الأمنية وأهدافها الوطنية والإقليمية، بالإضافة إلى ارتباطاتها الجهوية والدولية. ولكنه مهما كان مستوى الخلاف، فإن التحديات لدول العالم الإسلامي هي أكبر ووحدها يجب أن تكون سبباً كافياً لتفعيل المصالح الاقتصادية المشتركة والدفع بها إلى التكامل المكثف والمخطط، خاصة وأنه في المرحلة الحالية توجد نماذج وتجارب هامة (تركيا مثلاً) ومكاسب صناعية وحتى تكنولوجية جد هامة في الدول الإسلامية، التي يمكن استغلالها لذلك الهدف.
لقد أثبتت التجارب أنه مهما كانت قوة الطرح وموضوعية السياسة وشعبية التوجه، فإنها لن تستمر أمام التحديات الأكبر التي كانت ومازالت تواجه العالم الإسلامي. يجب أن تشجع الدول الإسلامية التي هي في وضع وموقع أكثر تأهيلاً للتعامل مع الغرب، تركيا نموذجاً لذلك. مقاربة أقرها الرئيس الأمريكي أوباما في خطابه أمام البرلمان التركي خلال زيارته إلى تركيا (06 أفريل 2009)، معتبراً تركيا نموذجاً مثالياً للديمقراطية والدولة الحديثة، واصفاً ديمقراطية تركيا بالقوية والنابضة والحيوية، والتي كانت (مخاطباً نواب البرلمان) “من صنع أيديكم ولم تفرض عليكم من قبل قوة خارجية ولم تتحقق بدون تضحيات ونضال. وتستمد تركيا قوتها من نجاحات الماضي ومن جهود كل جيل من الأتراك يحقق تقدما مستجدا لشعبكم” (38)
ومن هذا المنطلق أكد الرئيس أوباما كذلك موقف بلاده المدعم لدخول تركيا بالاتحاد الأوروبي:
إذن دعوني أقولها بوضوح: الولايات المتحدة تؤيد محاولة تركيا الإنضام إلى الإتحاد الأوروبي، ونحن نتكلم لا كعضو في الإتحاد الأوروبي بل كصديق حميم لكل من تركيا وأوروبا. فقد كانت تركيا ولا تزال حليفا مثابرا وشريكا يضطلع بالمسؤولية في مؤسسات أوروبية وعبر المحيط الأطلسي. وتركيا ترتبط بأوروبا بواسطة أكثر من جسور عبر البوسفور. فهناك قرون من التاريخ المشترك والثقافة والتجارة التي تجمعكم معا. وأوروبا سوف تكسب من تنوع الإثنيات والتقاليد والأديان ومكانتها لن تنتقص بسببها. كما أن عضوية تركيا ستوسع من أسس أوروبا وتقويتها مرة أخر(39).
تركيا وخاصة في السنوات الأخيرة أظهرت انسجاماً وتوافقاً واهتمامات إقليمية أكثر لدرجة الانتقاد وأحياناً التهجم عليها من أطراف غربية متحالفة مع الكيان الإسرائيلي بسبب المواقف التركية القوية بجانب الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. اختلاف وتباين أفصح عنه الرئيس أوباما خلال زيارته إلى تركيا:
صحيح أن الولايات المتحدة وتركيا لم تتفقا دائما حول كل مسألة وهذا أمر متوقع، إذ لا تتفق دولتان معا (على الدوام). إلا أننا وقفنا صفا واحدا خلال التحديات العديدة على مدى الأعوام الستين الماضية. ونتيجة لقوة حلفنا واستدامة صداقتنا أصبحت كل من أميركا وتركيا أقوى والعالم أكثر أمانا.
وأعلم ان الثقة والعروة الوثقى بين تركيا والولايات المتحدة تعرضت للتوترات، وأعلم أن هذه التوترات برزت في كثير من الأماكن حيث يمارس الدين الإسلامي. لذا دعوني أقول بمنتهى ما أستطيع من الوضوح: إن الولايات المتحدة ليست، ولن تكون أبدا، في حرب مع الإسلام (تصفيق). فالحقيقة هي إن شراكتنا مع العالم الإسلامي حاسمة وهامة جدا ليس فقط في صدّ معتقدات العنف التي يرفضها الناس من جميع الأديان بل أيضا لتعزيز الفرص لجميع بني البشر(40)
على دول منظمة المؤتمر الإسلامي أن تكون سنداً فعالاً للدول الإسلامية المرشحة لأن تكون قطباً إيجابياً في تفعيل البعد الإقليمي الإسلامي في مواجهة التحديات والمخاطر. هنا يجب الابتعاد عن الدعاية ومحاولة الكشف عن النوايا والأهداف للدول الإسلامية القطب في تبني توجهات إقليمية لمصالح خاصة. فمهما كان الاختلاف في تفسير النوايا والأبعاد فإنها لا يمكن إلا أن تصب في إطار احتواء المد الصهيوني واحتواء التهديد للشعوب والدول الإسلامية. على الدول الإسلامية أن تتعلم بأن قوة التأثير في العلاقات الدولية، والتكيف مع استراتيجية الدول الكبرى، لا يتم بالتفكير الرغبوي، أو بالخطابات الدعائية، بل يتم بالتكتيك والتفكير الاستراتيجي البناء.
يتطلب تجسيد مضمون الدبلوماسية العامة على المستويين الأول والثاني، المشار إليهما أعلاه:
١ . ترتيب البيت من الداخل. يجب ترتيب الوضع والأولويات والأهداف داخل دول العالم الإسلامي وتسوية المشاكل الداخلية على الأقل ذات المصالح والأبعاد الاستراتيجية المشتركة، وخاصة التي تتطلب التنسيق مع العالم الخارجي. يجب تجاوز سياسة التظاهر أمام شعوب الدول الإسلامية بانسجام الأنظمة والحكومات في لقاءات قمم أو ندوات وتجاوز الشفافية في الإفصاح عن الخلافات والصراعات. إن الشفافية والمصارحة والمكاشفة هي الوسائل والعوامل لتوفير أسباب التقارب وتسوية المشاكل، خاصة في المرحلة الراهنة التي تتطلب تكامل وجهات النظر لمواجهة المخاطر التي تهدد كياناتها (الوحدة الوطنية ومصالحها الاقتصادية) والتوافق في المقاربات تجاه التحولات السياسية السريعة التي تعيشها كثير من الأنظمة السياسية لدول العالم الإسلامي وخاصة هذه الأيام.
٢. يجب على الدول الإسلامية التكامل والتعامل مع العالم الآخر من منطلق التعاون البناء والمنفعة المتبادلة، وتوظيف قدراتها وعلاقاتها الدولية لاستغلال التنافس بين الدول الكبرى حول من يستفيد أكثر. البدائل لذلك متوفرة. يجب على الدول الإسلامية أن لا تبقى سجينة لعلاقاتها الدولية التقليدية مع الدول الغربية الكبرى. هناك دول صاعدة ولها مقاربات في المنظومة الدولية، ليست متباعدة كثيراً مع الدول الإسلامية خاصة على مستوى ملفات دولية مشتركة، مثل إصلاح منظمة الأمم المتحدة (يمكن استغلال وتوظيف عضوية الصين بمجلس الأمن)، ومن الإمكانيات الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية ما يتجاوز حتى الدول الغربية. مقاربة يمكن أن تعزز أكثر الدول الإسلامية في إدارة مصالحها ضمن المنظومة الدولية السائدة.
٣. توجيه محتوى الدبلوماسية العامة لخدمة التنمية والاستثمار المحلي والإقليمي، من خلال تقديم الإمكانيات الفردية والجماعية لدول العالم الإسلامي، وتحديد ورصد القدرات الصناعية والتكنولوجية بها، والدفع بذلك لتعاون تكاملي في إطار على الأقل التخفيف من التبعية والارتباط التقليدي مع الدول الصناعية بالغرب. هذا لا يعني الاستقلالية التامة، واتباع سياسة المقاطعة، بل المقصود هو التعاون على الأقل بالإمكانيات المحلية التي الجزء الأكبر منها هو شركات عالمية كبرى للغرب، ولكنها متواجدة بالعالم الإسلامي. التعاون والتكامل من الداخل، سوف على الأقل يؤدي إلى مضاعفة فرص العمل والخدمات الاجتماعية ويؤسس لعلاقات تكامل أولية بين الدول الإسلامية.
٤. تكييف وانسجام مصالح دول العالم الإسلامي الفردية مع التجمعات الإقليمية (منظمة المؤتمر الإسلامي، جامعة الدول العربية، الاتحاد الإفريقي) أو الجهوية (تعاون الجمهوريات الإسلامية بآسيا الوسطى والغربية، مجلس التعاون لدول الخليج، اتحاد المغرب العربي...)، والتكييف والتنسيق مع المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى.
٥. تصنيف وترتيب أولويات المحتوى القيمي (الاتفاق حول المفاهيم والمرجعيات الأولية للإسلام الحقيقي) لمواجهة التطرف والتأويلات في تفسير المذاهب الإسلامية التي تؤدي للتفرقة والمس بالدين الإسلامي في حد ذاته.
٦. تفعيل الشراكة والمساهمة والفعالية الإسلامية في العالم خاصة في المواضيع التي تهم الطبيعة والإنسان مثل البيئة، الفقر، التلوث، الأمراض...
٧. الدبلوماسية العامة يجب أن لا تتضمن فقط المرجعية والبعد الإنساني والسلمي للإسلام، بل يجب كذلك أن تتضمن تكثيف التوجه نحو فهم المسلمين لثقافات وأديان الآخرين. الدبلوماسية العامة لها رسالة حضارية ومصيرية، يجب أن تؤسس ليس فقط للحوار بل للتكامل بين الشعوب بغض النظر عن الاختلاف في الأديان والثقافات(41) والتأكيد على أن أسباب الصراع وأهدافه ليست ناتجة عن صراع حضارات بل هي ناتجة عن صراع إرادات سياسية وتوجهات إستراتيجية لدولة أو مجموعة دول وليس الشعوب. يجب دعم التأسيس لإبراز القيم الإنسانية المشتركة بغض النظر عن التباين في الثقافات والاختلاف في الأديان. البشر يثقون في بعضهم ويتعاملون بالقيم المثلى العليا الإنسانية (العدالة، الحرية، الكرامة، الأمانة، الصدق، الخير العام...).
٨. يجب أن يتضمن التعليم تدريس الطفل على مختلف الأديان والتباين في الثقافات وعلى كيفية التعامل معها انطلاقا من مبدأ احترام عقائد وثقافات الغير وتمكين الأطفال في القدرة على التواصل مع الغير، بغض النظر عن الحواجز الدينية بهدف أسمى وهو التفاهم بين الثقافات والديانات(42). (يتبع)