من الأرشيف: سياسة الأمر الواقع

بقلم: الدكتور محيي الدين عميمور


 كان المشكل الحقيقي بين مصر والجزائر هو اتّخاذ القيادة في القاهرة أحيانا مواقف مصيرية تهم الأمة العربية كلها بصفة مباغتة أو بشكل فردي لا تسبقه أي مشاورات مع الأشقاء، الذين يعنيهم أمر التحرك المرتبط بذلك الموقف أو المترتّب عليه، ولعل هذا هو على وجه التحديد ما قام به نظام الرئيس المشير السيسي بإعلانه ما سمي مبادرة “لإيقاف الاعتداء المتبادل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبدا الأمر وكأنه محاولة من الرئيس الجديد إثبات أنه رجل الموقف في الشرق الأوسط، وهذا من حقه كما أنّ من حقنا أن نرفضه، حيث بدأ وكأنّه استنساخ لمبادرة الرئيس عبد الناصر بالدعوة لعقد قمة عربية، تضمّنها خطابه في مدينة بور سعيد يوم 23 ديسمبر 1964 بمناسبة عيد النصر، حيث طالب بضرورة عقد اجتماع للرؤساء والملوك العرب لبحث التهديدات الإسرائيلية بتحويل مجرى مياه نهر الأردن، وهي مبادرة سارعت إلى تبنيها جامعة الدول العربية التي كان يرأسها وزير خارجية مصر السابق عبد الخالق حسونة، وكان ذلك بداية الادعاء بأنّ الجامعة تتصرّف كذيل للنظام المصري.

وعرف المؤتمر الذي عقد في يناير 1965 أول إشارة ذكية من الرئيس أحمد بن بله للتصرف المصري، تعمّدت بعض العناصر الجزائرية تشويه معناها.
كان عبد الناصر قد قال في خطاب القمة، والتي كانت أيضا في شهر رمضان، بأنّ: حركة الجيش تحتاج لمال، وموارد البلاد المُطلة على إسرائيل محدودة ولكن لا تنقصها القوة والأفراد، وما تحتاجه هو دعم مادي يمدّ الجيش بطاقته الحيوية، وهي السلاح والعتاد والأجهزة المتطورة وتدريب أفراد قادرين وبناء حصون.
ويواصل ناصر قائلا: بما أنّ الدول التي أنعم الله عليها بنعمة البترول عدد سكانها قليل أو بعيدة عن جبهة القتال، فهي تستطيع أن تساهم بمبالغ مادية لدعم الصمود ولمواجهة هذا العدو الذي تدعّمه أمريكا والدول الغربية، وتساهم ولو بقليل من ميزانيتها السنوية لدعم المعركة الكبرى التي تخصنا جميعاً، وحدّد عبد الناصر ثلاث دول هي السعودية، الكويت وليبيا.
واندفع القادة يعلنون حجم مساهماتهم دعما للمعركة، وكان الأول الملك سعود الذي أعلن عن تقديم 40 مليون دولار، وتلاه الشيخ عبد الله الصباح، الذي أصر على أخذ الكلمة قبل أذان المغرب، ليعلن تقديم 15 مليون دولار، وفي اليوم التالي أعلن الحسن الرضا تقديم ليبيا مبلغ 55 مليون دولار.
ولم يكن من الممكن أن يسكت بن بله أمام هذه المساهمات، لكنه شعر بالحرج لأنّ وضعه كرئيس للجمهورية كان يحتّم عليه استشارة الحكومة أو إخطار أعضائها على أقل تقدير (وكان البرلمان الجزائري مجمدا نتيجة للغزو في أكتوبر 1963).
وقال بن بلة عن الدعم الجزائري بأنّ من سوف يحدّد حجمه هو الرئيس جمال، وكان هدفه مزدوجا، فهو من ناحية يسجّل أن القمة كانت مبادرة مصرية، ومن جهة أخرى أراد أن يكسب وقتا لإخطار زملائه في القيادة الجزائرية، ولعلّي أضيف إلى ذلك أنّه كان على يقين من أن عبد الناصر سوف يأخذ بعين الاعتبار المصاعب المالية التي تواجه الجمهورية الفتية في الجزائر.
وكان المؤسف أنّ خصوم بن بله راحوا يعايرونه بأنه تصرف كتابع للرئيس المصري، وكان عليه أن يتّخذ القرار بنفسه، وأنا أقول، برغم أنّني كنت في الجانب المتناقض معه، بأنه أحسن صنعا، وكان موقفه مشرفا ومفيدا من كل الوجوه.
ويُعزل بن بله ويتولى القيادة الراحل هواري بو مدين، وتصفو المياه بين الجزائر والقاهرة تدريجيا بعد أن تكدّرت لشهور، كما سبق أن ذكرت.
ويحدث عدوان 1967، وتقف الجزائر وقفة رجولة مع مصر، امتزج فيها ما هو سياسي بما هو عسكري واقتصادي بل ووجداني، ولم يكن عبد الناصر يخفي اعتزازه بالموقف الذي صحح من علاقة مصر بالجزائر، خصوصا وأنّ الجزائر لم تحاول المتاجرة بمواقفها أو اجترارها بمناسبة وبغير مناسبة، ولم تشر صحفنا حتى إلى عدد الشهداء الجزائريين على جبهة الصراع مع إسرائيل، ناهيك عن أي صورة من صور الدعم التي كانت ترى فيه ردّا لخير مصر على الوطن العربي كله، والجزائر في المقدمة، وكانت هناك صور رمزية تستحق التنويه.
فعندما اتّصل سفيرنا في مصر الأخضر الإبراهيمي بالرئاسة في الجزائر ليبلغها بأن مصر قررت قطع علاقاتها مع الولايات المتحدة احتجاجا على دعمها المطلق للعدوان، أصدر بو مدين تعليمات بأن يستدعى السفير الأمريكي في الجزائر لوزارة الخارجية ليبلَّغ بقطع العلاقات الجزائرية مع واشنطن في نفس اليوم والدقيقة التي يُبلّغ فيها السفير الأمريكي في القاهرة بالأمر.
واعترف أنّ الأستاذ هيكل كان هدفا دائما لكتاباتي آنذاك، حيث سفهت مقولاته من أن وضعية الأرض في مصر لا تسمح بالحرب الشعبية، وأتذكّر أنّني كتبت آنذاك، وقبل أن ينتهي العام، أقول بأنه: “كان من الممكن أن يتغيّر الوضع في سيناء لو أقيمت فيها مستعمرات ذاتية الاكتفاء على غرار الكيبوتزات، التي استطاعت إسرائيل بفضلها أن تخترق الخطوط الخلفية للجيش المصري في 1948”.
لكن هناك من نظر إلى هذا المنطق بتعالٍ عجيب، وظل التعامل عسكريا وأمنيا مع الأرض المقدسة الرئيسية في التراب المصري، والتي قال عنها المولى عز وجل لرسوله موسى، وللمرة الأولى والوحيدة: اخلع نعليك إنك بالوادِ المقدّس طُوى.
وطرحتُ يومها في مجلة الجيش لشهر فبراير 1968 الفكرة التي تقول بأنّ “القضية هي فلسطينية أولا وعربية ثانيا، وكل محاولة لعكس هذا الترتيب سيُنظر لها كمحاولة لسلب الشعب الفلسطيني حقه في تقرير مصيره وكإرادة لفرض الوصاية عليه”، وأطلقت آنذاك فكرة “إقامة دولة فلسطينية تجمع المسلمين والمسيحيين واليهود، الأصليين بالطبع، أي السابرا وحتى السفارديم، ولكن دون الأشكيناز المستوردين من أوربا الشرقية، ويلتقي الجميع داخل الأرض المقدسة في إطار المحبة والإخاء، لتكون واحة للسلام في العالم كله، وكانت هذه هي الفكرة التي سطا عليها العقيد القذافي فيما بعد باقتراحه إقامة دولة “إسراطين” .
وأذكّر من جديد بأن كلّ كتاباتي كانت، وما زالت، بدافع شخصي وبدون أي توجيهات من أي مستوى كان، لكنني كنت أدرك أن مجرد عدم إيقافها، وهي تصدر في مجلة الجيش التي يتابعها الرئيس بو مدين باهتمام كبير، هو ما يطمئنني بأنني كنت على الطريق الصحيح، وهو ما أكّده لي الرئيس بعد سنوات عندما استدعاني للعمل إلى جواره.
وتعرف العلاقات المصرية الجزائرية توترا جديدا في السبعينيات، ودائما نتيجة لمبادرة اتخذها الرئيس عبد الناصر بدون التشاور مع أحد، وذلك عندما فاجأ الرئيس المصري أشقاءه بقبول ما سُمّيت مبادرة روجرز، والغريب أنّ رد الفعل الجزائري كان هو نفسه رد فعل أنور السادات في القاهرة، الذي سارع برفضها في خطاب جماهيري، لأنّ ذلك كان منطق الأمور الظاهري.
فلم نكن نعرف يومها، لغياب التنسيق، أنّ قبول مشروع “روجرز” كان مناورة رائعة من الرئيس عبد الناصر، الذي كان يستثمرها لإقامة الصواريخ غرب قناة السويس، والتي ضمنت انتصار العبور يوم “الكيبور”، ولولا حائط الصواريخ لما أمكن أن يتم العبور بتلك السرعة والفعالية وبأقل حجم من الشهداء والخسائر.
وتلاشى ما نتج عن موقف عبد الناصر المفاجئ بعد أن عٌرفت الخلفيات، وخصوصا عندما تأكّد أنّ قصورا عربية احتضنت مؤتمرات القمة كانت مليئة بأجهزة التنصت الإسرائيلية، وهو ما يعني أنّ شاغل ناصر الرئيسي كان الهمّ العربي العام والحفاظ على عنصر المفاجأة لدى الأعداء والخصوم.
لكن، وموضوع اليوم هو غزة المجاهدة، هناك أمر لا يمكن تاريخيا أن ننساه أو أن نتجاوزه، وهو أنّ غزة كانت أمانة في يد مصر.
وغزة، أو غزة هاشم كما تسمى لأنّ هاشم بن عبد مناف جدّ الرسول عليه الصلاة والسلام مدفون بها، هي مدينة عريقة على البحر الأبيض المتوسط تعود إلى نحو ثلاثين قرنا قبل الميلاد، وتعطى اسمها لقطاع مساحته نحو 378 كم مربع، وكانت مدينة مهمة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد حيث جعلها الملك المصري ثيتموزي الثّالث قاعدة لجيشه في الحرب ضد الشمال.
ولقد كانت غزة مسؤولية مصرية كاملة منذ أجهضت فكرة إقامة دولة فلسطينية بعد هزيمة 1948، وأقيمت يومها حكومة أحمد حلمي باشا التي لم تكن تملك أو تحكم، وكان الآمر الناهي هو الحاكم العسكري الذي عينته مصر، وكنت تناولت قصة زيارة العقيد الشاذلي بن جديد للقطاع، وظلت غزة مجرد ملحق إداري لمصر.
وضاعت غزة للمرة الأولى في عدوان 1956، ولم يكن الجيش المصري بقادر على حمايتها، لأنّ الانسحاب من شرق القناة كان هو السبيل الوحيد لإنقاذ القوات المسلحة المصرية نفسها، وكان قرار القيادة المصرية قرارا شجاعا وحكيما بالرغم من مرارته.
لكن درس 1956 لم تتم الاستفادة منه عسكريا وبشريا بعد جلاء القوات الغازية وعودة غزة إلى الوضعية المحررة، وكان المفروض آنذاك أن تعلن فيها دولة مستقلة ينتزع الاعتراف بها من العالم أجمع، بغض النظر عن الوضعية المرحلية للضفة الغربية، التي كانت قد ضمت للملكة الأردنية.
ولم تكن المساحة المحدودة عائقا ضد إقامة الدولة في غزة لأن دولة جيبوتي أصغر منها (23 كم مربع) بدون الحديث عن موناكو والفاتيكان وغيرها من الدول المجهرية.
وهكذا ضاعت غزة مرة ثانية في 1967.
والباقي كله معروف، بما في ذلك النتائج التي تمخّضت عن الانتخابات التشريعية التي فازت بها حماس، والتي أزعجت من الأعراب أضعاف أضعاف من أزعجتهم من الإسرائيليين.
ولست أدري من الذي يتحتّم عليه اليوم أن يشعر بالخجل أمام أبطال غزة.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024