ربما كان من حق الشباب أن يلعن جدودنا وهو يتابع نقاشنا شبه البيزنطي حول أخطاء «سرايا عابدين»، في الوقت الذي يتساقط فيه كل دقيقة عشرات الشهداء تحت القصف الإسرائيلي الإجرامي، الذي لا يمكن أن يبرره مقتل ثلاثة يهود استنكرته السلطة الفلسطينية نفسها، ويعيش ملايين من أشقائنا تحت رحمة حصار خانق يتعاون في إحكام قبضته العرب مع الصهاينة، بينما يتابع جلّ القادة ما يحدث كقطيع من الماشية يتابع قطارا يجتاز من بعيد خط الأفق، بدون أن يوقفه النظر عن الاجترار.
ربما كان من حق الشباب أن يلعن جدودنا وهو يتابع نقاشنا شبه البيزنطي حول أخطاء «سرايا عابدين»، في الوقت الذي يتساقط فيه كل دقيقة عشرات الشهداء تحت القصف الإسرائيلي الإجرامي، الذي لا يمكن أن يبرره مقتل ثلاثة يهود استنكرته السلطة الفلسطينية نفسها، ويعيش ملايين من أشقائنا تحت رحمة حصار خانق يتعاون في إحكام قبضته العرب مع الصهاينة، بينما يتابع جلّ القادة ما يحدث كقطيع من الماشية يتابع قطارا يجتاز من بعيد خط الأفق، بدون أن يوقفه النظر عن الاجترار.
لكن هذا الهروب الفكري من مواجهة الواقع يكشف إلى أي مدى يشعر المثقف العربي بالإحباط والخذلان لأنه يرى نفسه مكتوف اليدين، لا يملك أن يغير من الأوضاع قيد أنملة، خصوصا وقد وصل إلى اليقين بأن معظم قياداتنا ليسو مصابين بمرض القراءة، ولعل كثيرين لم يقرءوا كتابا كاملا طوال حياتهم، وهم يكتفون ببعض الملخصات السطحية التي يقدمها لهم مستشارون منافقون يحرصون على عدم إزعاج أصحاب الجلالة أو السمو أو الفخامة أو السعادة أو.....السماحة.
ويعيش المثقف، الذي لا يملك أي سلطة فعلية أو حتى معنوية، أسير الخزي والعار، وهو يتابع الموقف العربي العام من العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي كان أقل ما يمكن أن يتم القيام به لمواجهته الإعلان عن سقوط ما سُمّي بالمبادرة العربية، التي ولدت في قمة فاس، كنتيجة لحوار مطبوخ بين كاتب أمريكي معروف باتجاهاته الصهيونية وولي عهد عربي.
والذي حدث هو أن جامعة الندامة والندامى تبنت المبادرة الكسيحة، رغم أن إسرائيل بصقت عليها منذ الأيام الأولى، وأصبحت القاعدة أنه ما لجرح بميت إيلام.
وإحباط المثقف يتزايد وهو يرى أن الشارع العربي في مجمله ضائع بين متطلبات الحياة اليومية ومستجدات الضغوط الاقتصادية، وردود فعله، في معظمها، ينقصها الوعي العميق بخطورة ما يحدث، بحيث أصبح الجمهور غالبا مجرد أداة في يد تجمعات حزبية تحاول التموقع على الساحة السياسية، وتجعل من القضايا الوطنية تجارة من لا سلعة عنده ولا ميزان.
وأتذكر صديقا قال لي يوما، «كنت أظن أننا في الحضيض، لكن الجديد هو اكتشافي بأن هذا الحضيض تحته أكثر من حضيض وحضيض».
وذكّرت نفس الصديق بأنه هو الذي لامني على تشاؤمي عندما كتبت في 1985 سطورا (نشرتها ثانية في الجزء الثالث من الانطباعات) وقلت فيها، بعد استعراض للأحداث آنذاك:
بدأت أشعر بخوف حقيقي من خطورة الاستنتاجات التي قادني إليها استقراء الأحداث، فلم يكن ما حدث هو وحده الذي يثير الخوف، بل ما هو متوقع الحدوث، والنظرة السريعة للزمن الرديء الذي نعيشه، بعد آمال السبعينيات وأوهامها، تؤكد أن جلّ الأهداف التي يعمل لها أعداء الأمة قد تحققت أو هي في طريق التحقيق، وأخطر ما حدث هو حالة التبلد واللامبالاة التي نعيشها، أكاد أقول ...جميعا، والتي لا مثيل لها في الحالات المرضية إلا حالة البرود الجنسي.
كان يكفي في الخمسينيات أن يُلقى القبض على مناضل في أي مكان لكي يلتهب العالم العربي ويُلهب العالم معه، وفي الثمانينيات (الثمانينيات) لم يعدْ مئات الضحايا من الأطفال والنساء والعجزة يستثيرون شارعا واحد في جلّ عواصمنا.
لذلك، كما قلت يومها، لا أعتذر عن استعمال تعبير البرود الجنسي (علما بأنني طبيب) الذي هو أساسا حالة نفسية، أي غير عضوية، لكنها تؤدي إلى نتائج عضوية، حيث أن الأنثى في سن الخصوبة يستثيرها من تعشقه فتتفاعل معه، وقبل أن تصل إلى القمة يتخلى عنها الرفيق، ضعفا وخورا، أو أنانية وجهلا، أو اضطرارا وخوفا.
وتكبت الأنثى شعورها، حياء وعفة، وتأتي محاولة أخرى، لكن الأمر يتكرر...مرتان ...ثلاث...عشر ....
وفي لحظة معينة يتجمد تفاعلها وتموت مشاعرها وتتبلد أحاسيسها، وتتحول إلى رخام بارد كرخام القبور في ليلة شتاء قارصة البرد.
كان هذا في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، فماذا عن منتصف العشرية الثانية من الألفية الجديدة.
النظرة التحليلية المتعجلة تقول أن قياداتنا السياسية تتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه، فالآمال التي زرعت فينا تحولت، في معظمها، إلى أوهام، والأحلام التي كانت تراودنا أصبحت غالبا أقرب إلى الكوابيس، ربما لأنه عُهد بالتشييد لغير المختصين، ممن لا يدركون الفرق بين العمران والبناء، وممن لا يعرفون أن الحيّ السكني ليس مجرد مكان للنوم ولكنه ساحة يقضي فيها الإنسان نحو ثلثي عمره مع آخرين يشكلون المجتمع الحيّ المتكاتف، وهو قاعدة الوطن المتقدم المزدهر والمستقر.
وحقيقي أن المسؤولية التدميرية المباشرة يتحملها تحالف الرأسمالية الطفيلية مع أجهزة المخابرات المحلية والشركات الأجنبية عابرة الحدود، ويعود زمنيا إلى انطلاق ما سمّي عصر الانفتاح، والذي تجاوبت معه قيادات سياسية آنذاك، بل وشجعته لأنها تصورت، أو صُوّر لها، أنه ضمان للهدوء الاجتماعي والاستقرار السياسي.
لكنني أحس أن هذا القول يمكن أن يكون ظلما لكل الوطنيين الشرفاء الذين تصدروا عمليات النضال ضد المستعمر القديم، فهو يتجاهل حجما هائلا من الإنجازات التي تمت في الوطن العربي منذ عقود، وبالتالي هو يعتبر نجاحا لثورات مضادة بدأ فحيحها يتحول شيئا فشيئا إلى نعيق، يهيل التراب على كل ما أنجزته الأمة ويسخر من ثورة الجزائر ويتحسر على أيام الاستعمار، أو يندد بتأميم نفط العراق أو استعادة قناة السويس.
هذا يجعلني أغير اتجاه حديثي بنسبة 180 درجة، وأقول بكل ثقة، ومع كل الإحباط الذي أعيشه، يجب أن نلقم الناعقين، لا مجرد أحجار تجعل الصخر مثقالا بدينار، ولكن كتلا صلبة من روث البهائم، لأن هذا الردّ واحد من سبل خروج الأمة من مستنقع الركود والانهيار.
ولقد سألني مخلوق متأنق اعترض طريقي إثر محاضرة لي عن الثورة الجزائرية ليقول بفرنسية عرجاء، معتذرا بأنه لا يعرف العربية: ألم يكن من الأحسن أن نطالب بحقوق شعبنا بدون أن ندفع ذلك الثمن الكبير من الضحايا، وحتى لو لم نحصل على شيئ، أما كانت فرنسا أرحم بنا من الحكام الحاليين؟.
وأجبته بنرفزة لم أحاول إخفاءها بأن عليه أن يقرأ التاريخ ككل متكامل، لأن مذابح مايو 1945 التي ارتكبها الفرنسيون يوم إعلان الهدنة العالمية قضت على كل تفكير في حلول سلمية، كنا سعينا لها خلال أكثر من قرن من الزمان.
وهمس صديق في أذني بأن السائل موظف في إحدى الإدارات، فواصلت قائلا: لو لم يكن الاستقلال لكنتَ أنت اليوم مجرد خادم في مقهى أو ماسح لأحذية «الكولون»، ولكانت أمك مجرد «كونسييرج» ( بوابة) عند موسيو دوبون، مهمتها الرئيسية مسح سلالم البيت وجمع نفاياته، ولكانت أختك بونيشة (خادمة ) في بيت معمر آخر، لعله يحاول ليلا التسلل إلى عفتها، ولكان ابنك يحمل صندوقا لمسح أحذية أسيادك المتربعين على مقهى «طانطانفيل».
وقلت للمتفرنس المُدّعي:أنت تدّعي أنك لا تعرف العربية، وأنا أتصور أنك درست مجانا في المدرسة الجزائرية ثم في الجامعة، وأنت بالتالي تعرف العربية كالآخرين، ورفضك الحديث بها يكشف أنك من أصحاب النزعة البربرية أو من أبناء أو أحفاد من صوتوا ضد الاستقلال في 1962، ولقد أخطأنا عندما طبقنا عليكم سياسة: عفا الله عمّا سلف، وقلنا لكم : اذهبوا فأنتم الطلقاء.
أخطاء تقترب من الخطايا
لكن أخطاء القيادات تبقى هي الأخطاء، وبعضها يقترب من الخطايا، والدفاع عنها موقف لعله يرتبط بنوع من الحنين لمرحلة معينة في ماضينا، لكن واجبنا اليوم هو أن نتجاوز تلك النوستالجيا نحو تفكير إيجابي يعرف الفرق بين المنطق الوطني ولغة الخشب.
وما أريد أن أقوله باختصار شديد هو أن علينا التصرف كمجموع متكامل التفكير لا كمجرد أفراد مبعثري التوجه، والبحث عن أسلوب قد يختلف تماما عن الأسلوب الذي ألفناه في التوعية الجماهيرية خلال العقود الماضية، وهو ما يعيدني إلى قصة سرايا عابدين ومثيلاتها، التي جعلت قنواتنا الإعلامية أقرب إلى قنوات الصرف الصحي، ومن هنا أعتبر الموقف من تلك النفايات الفنية نموذجا يجب أن يحتذى في حالات أخرى مماثلة.
ومن هنا يجب أن ندرك أن كل من يطالبوننا في الغرب بممارسة الديموقراطية هم منافقون باحثون عن مصالحهم، وأن طريقنا يجب أن ينبع من داخلنا، وينطلق أولا من المواطن، وهو الخلية الأساسية في كل مجتمع، وهو ما يعني أن الديموقراطية، وهي ضرورة حيوية لا بديل عنها، يجب أن تبدأ من الفرد، في تعامله اليومي مع فرد آخر، قد يكون زوجه أو ابنه أو أباه أو جاره.
هذا هو، في نظري، مربط الفرس وحقيقة الأزمة.
وهنا أيضا نفهم لماذا قال المولى عز وجل: وأوصينا الإنسان بوالديه إحسانا، ولماذا قال عليه الصلاة والسلام بأن «الدين المعاملة»، و»المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، والمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ومازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورّثه.
هو صلة الرحم والتكافل الاجتماعي والتعاون على البر والتقوى، والإيمان الذي يصدقه العمل، وكل هذا يبدأ من المواطن وينتهي إليه.
وهنا أيضا نفهم القاعدة التي تقول بأن هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله.
وأتذكر حكاية رُويت عن رجل طيب يُسمّى : عويس.
ذهب عويس إلى باريس وقضى فيها أياما ثم عاد ولسانه يتغنى بعاصمة الجن والملائكة، وراح يردّد لأصحابه في المقهى وهو في قمة النشوة: باريس...آه من روعة باريس وسحر باريس وجمال باريس وليالي باريس وعطور باريس....آه لو كنت ذهبت إلى باريس منذ أربعين سنة.
ويعاجله أحد جلسائه متسائلا: عندما كانت باريس ....باريس.
ويئن عويس صارخا: لا....عندما كان عويس....عويس.