كانت التلفزة الجزائرية في الستينيات والسبعينيات، وبرغم امكانياتها المحدودة آنذاك، تقدّم باقة متميّزة من الإنتاج الفني والثقافي، وخصوصا تلك التي تهتم بالجوانب الوطنية والتاريخية، وهكذا تابعنا أفلاما جزائرية مثل معركة الجزائر ودورية من الشرق والليل يخاف من الشمس، ثم أفلام الأفيون والعصا وحسن التيرو ومجموعة أفلام المفتش الطاهر، وعددا من الأفلام المصرية، بالإضافة إلى أفلام أجنبية كلاسيكية وجديدة مدبلجة باللغة الفرنسية، كما تابعنا مسلسلات جزائرية لم نعد نرى لها مثيلا للغتها العربية ولجودتها التقنية، برغم أنّ معظمها لم يكن ملوّنا، كمسلسل الحريق وتمثيليات مثل شجرة الصفصاف وبرامج للأطفال مثل الحديقة الساحرة، بجانب باقة لا بأس بها من الأغاني الشعبية والعربية، تعرّف فيها جمهورنا على وديع الصافي وازداد تعرّفا بفيروز وعبد الحليم حافظ.
كانت التلفزة الجزائرية في الستينيات والسبعينيات، وبرغم امكانياتها المحدودة آنذاك، تقدّم باقة متميّزة من الإنتاج الفني والثقافي، وخصوصا تلك التي تهتم بالجوانب الوطنية والتاريخية، وهكذا تابعنا أفلاما جزائرية مثل معركة الجزائر ودورية من الشرق والليل يخاف من الشمس، ثم أفلام الأفيون والعصا وحسن التيرو ومجموعة أفلام المفتش الطاهر، وعددا من الأفلام المصرية، بالإضافة إلى أفلام أجنبية كلاسيكية وجديدة مدبلجة باللغة الفرنسية، كما تابعنا مسلسلات جزائرية لم نعد نرى لها مثيلا للغتها العربية ولجودتها التقنية، برغم أنّ معظمها لم يكن ملوّنا، كمسلسل الحريق وتمثيليات مثل شجرة الصفصاف وبرامج للأطفال مثل الحديقة الساحرة، بجانب باقة لا بأس بها من الأغاني الشعبية والعربية، تعرّف فيها جمهورنا على وديع الصافي وازداد تعرّفا بفيروز وعبد الحليم حافظ.
ثم بدأ عصر الهوائيات المقعّرة الذي تزامن مع هبوط مستوى الإنتاج الجزائري بعد أحداث 1988 المفبركة، حيث أخذ يعتمد بنسبة كبيرة على البرامج المستوردة وعلى برامج تافهة.
آنذاك انطلقت من لندن فضائية عربية كانت بردا وسلاما على كل المرتبطين بالانتماء العربي الإسلامي، حيث استطاعت مواجهة الفضائيات الأجنبية، والفرنسية على وجه الخصوص، وبدأ الجمهور الجزائري في متابعتها والارتباط بها، إلى درجة أنّ القلق أصاب مجموعات مستلبة، فراحت تشنّ حملة شعواء على الفضائية المشرقية، وتنصح المواطنين بعدم متابعتها لأنّها تنشر التخلف والرجعية، وتغرق الشعب في تفاهات المسلسلات المصرية التي تنافس الإنتاج الفني الجزائري.
وجرى تأجير بعض العاطلين لتخريب الهوائيات الموضوعة فوق أسطح العمارات السكنية، بالإدعاء أن الهوائيات تؤثر على صلابة السقف، ممّا دفع كثيرين إلى وضع الهوائيات في شرفات الشقق، حماية لها من عبث العابثين.
ثم تكاثرت الفضائيات، واستطاعت الفضائيات المصرية أن تنتزع أعدادا كبيرة من المشاهدين، بفضل مسرحيات وأفلام متعددة الألوان والمواضيع، من بينها أفلام ذكرتنا بشبابنا، يوم كنّا نحتشد على دور متواضعة للسينما لنتابع الأفلام المصرية، التي تعرفنا فيها ومنها على عبد الوهاب وفريد الأطرش وسامية جمال وليلى مراد وغيرهم.
وبرزت في العشرية الماضية فضائيات عربية جديدة وصل عددها في القرن الجديد إلى المئات، وتعرّفنا، عبر تلك الفضائيات، على الإنتاج السينيمائي العربي العالمي، من أمثال فيلم الرسالة ثم عمر المختار.
مسلسل عمر بن الخطاب..قفزة إلى الأمام
وعرفنا في العام الماضي مسلسل عمر بن الخطاب، والذي كان برغم بعض الهنات، قفزة إلى الأمام في الاتجاه الصحيح، وتمكّن من مواجهة زحف المسلسلات التركية وسابقتها، المسلسلات الجنوب الأمريكية، التي بدأت تسدّ الفراغ الفكري والفني الذي يعرفه الإنتاج العربي الجديد، المتأثر بمرحلة الانفتاح الاقتصادي والانبطاح السياسي.
ثم شرعت إم بي سي، بعد مسلسل عمر بن الخطاب، في تقديم مسلسل عربي سبقته دعاية متميزة، لكن قصة «المعيدي» تكرّرت.
فقد تابعتُ الانتاج الجديد باهتمام شديد، أخذ يتناقض يوما بعد يوم، عندما أحسست بأنّي أتعرّض لعملية خداع وتدليس، حيث بدا أنّ المهم هو إبهار المشاهد، ممّا ذكرني بالأوربيين الذي كانوا يمهّدون لاستعمار إفريقيا بتقديم الخرز الملون والأثواب فاقعة الألوان لملوك القبائل الإفريقية.
كان التأثر بالمسلسلات التركية واضحا، ولكنه بدا تأثرا بليدا ساذجا، يشبه تأثر قروية ساذجة بفاتنة باريسية رأتها يوما في فيلم سينيمائي، فراحت تبالغ في تقليد ما رأته من معالم جمال الحسناء، واستثمر المخرج نجاح امكانيات الكومبيوتر في مسلسل عمر بن الخطاب فراح يغرقنا بها منذ اللحظات الأولى في المقدمة الطويلة، والتي لم أفهم سر تقديمه فيها لمجسّمات القصر الملكي في وضع مائل، ولا أظن أنّ السبب أن نضطر لإمالة الرؤوس لكي نقرأ القائمة التي لا تنتهي من أسماء القائمين بالأدوار الأساسية أو الثانوية، وإلى درجة أنّ صديقا قال بأنه يخشى أن تحمل القائمة الطويلة أسماء مارة فضوليين، كانوا يتابعون تصوير مشهد ما.
وكان المزعج في المسلسل تضخّم حجم الإعلانات، والتي كانت الفترة المخصّصة لها تماثل تقريبا حجم فقرة المسلسل التي تسبقها أو تليها، وبحيث يمكن القول، ببعض المبالغة، أنّ حجم المقدمة والخاتمة والإعلانات هو أكبر من حجم مادة المسلسل الممطوطة بشكل مملّ، إذ لم يكن منطقيا أن يقدّم المسلسل مثلا صلاة جنازة كاملة بتكبيراتها الأربعة، تعاد بعض مشاهدها في الحلقة التالية (11).
وكان أسوأ ما في الإعلانات ما رأيت أنّه إساءة مجانية لشعب مصر، حتى كدت أظن، وبعض الظن فقط هو الإثم، أنّها أمر مقصود لإهانة شعب كريم يواجه أياما صعبة.
فكل حلقة تقدمّ مجموعة من الإعلانات تحثّ المشاهدين على التبرع لمشاريع، هي أولا وقبل كل شيء، مسؤولية أساسية لأي دولة تحترم نفسها.
وآتي هنا للمضمون، الذي يقدّم لنا المسلسل بصفته «دراما مستوحاة من قصة حقيقية»، لكنّني لم أرى اسما واحدا لمؤرّخين معروفين استعان بهم المسلسل لتوثيق الأحداث التاريخية، وإذا وجدت فالمؤكد أنّني لم أرها لأنها اختلطت بأسماء الخادمات والتقنيين والمساعدين، وكل من أخذ اسمه من قائمة أجور الكومبارس (Figurants).
صورة سياسية عن قصور السّلاطين العربية
وما رأيناه من المسلسل في الثلث الأول من الشهر عجز عن تقديم صورة مشرفة لحاكم عربي كان له فضل بناء القاهرة الحديثة، وارتبط اسمه بواحد من أعظم إنجازات القرن التاسع عشر، وهو قناة السويس، وكان ما رأيناه صورة سلبية عن قصور السلاطين العربية، بسخافاتها ومؤامراتها ودسائسها، ولم نجد من دلائل قيمة الوالي إلا جملا عارضة يتحدث فيها الممثل عن إرادته في جعل مصر قطعة من أوربا، لكن السيناريو لم يبين لنا حتى الآن اجتماعا عقده الخديوي مع مهندسين أو خبراء في العمران استعدادا لمشرعه الهائل، وبدت القصة عليلة والسيناريو كسيحا والعمق مفقودا، وتملّكني الشعور بأنّ هناك من أراد أن يغطي قصوره وعجزه بالبهرجة والألاعيب الإلكترونية.
وكان على المشاهد أن يقتنع بدقائق طويلة متتالية لغادة عادل، وهي تدلك ظهر الخديوي العاري، ليتمنى أن يكون يوما في مكانه.
وربما كان قصيّ خوري ممثلا متميزا، لكنني لم أقتنع بأدائه في سرايا عابدين، حيث أنّ «الدراما» التاريخية تفترض أن يكون أداء الممثل أقوى حتى من الشخصية التي يلعب دورها، وهو ما رأيناه مع «بيتر أوتول» في «لورنس»، وجيمس «ماسون» في «ثعلب الصحراء» (روميل) و»شارلتون هستون» في «السيد» و»أنتوني كوين» في «عمر المختار»، وعلى أقل تقدير، «أحمد مظهر» في «الناصر صلاح الدين» أو «أحمد زكي» في «ناصر 56» أو «محمود عبد العزيز» في «رفعت الهجان» أو «تيم حسن» في «الملك فاروق».
وكانت الموسيقى التصويرية من النقاط السلبية لأنّها كانت، برغم جمالها، «أي كلام»، فلم تكن فيها نكهة مصرية أو تركية، ترتكز على «القانون» أو «الفلوت»، وكان أسخف ما في الأمر أنها لم تحترم الحوار، فقد كانت أقوى منه في درجة «الديسيبل»، بحيث ضاعت جمل كثيرة لم أتمكن من فهمها.
لكن الأخطاء التاريخية كانت أقرب للخطايا.
فقد كان الخديوي إسماعيل هو فعلا من أمر ببناء قصر عابدين، لكن البناء تمّ في 1830، أي نفس التاريخ الذي غزت فيه فرنسا الجزائر، ومن هنا فإنّ احتفال الخديوي بعيد ميلاده الثلاثين في 1860 ما كان من الممكن أن يكون في قصر عابدين، ولم يكن من المنطق أن يشترك الأمير فؤاد في الحفل لأنه لم يكن قد وُلد بعد، فهو مولود في 1868.
وكان لقب الوالي هو اللقب الذي يُنادى به إسماعيل، الذي لم يحصل على رتبة الخديوي إلا عام 1867، وعندها لم يكن يستعمل تعبير جلالة الخديوي، بل عظمة الخديوي، لأن لقب «جلالة» مرتبط بالمملكة المصرية ولم يستعمل إلا بعد عام 1922، ولم تكن قلادة محمد التي كان يتوشّح بها الوالي إسماعيل باشا في عيد ميلاده قد اعتمدت بعد.
أما الأميرة الأم، خوشيار خانم أفندي، فقد كانت تقيم في سراي «الزعفران» في العباسية، والتي أصبحت اليوم، على ما أعتقد، جزءا من مباني جامعة عين شمس.
وتضمّن السيناريو أشياء درامية مضحكة مثل قضية الطباخ الأعمى، الذي انفضح أمره لأنّه وضع السكر في الطعام بدلا من الملح، في حين أنّ ملمس السكر الجاف مختلف تماما عن ملمس الملح الرطب نسبيا، وفاقد البصر يتمتّع بحاسة لمس قوية.
ووجدنا من يعدم بالمقصلة وقد وضع رأسه داخل كيس أسود، وهو خطأ غريب، يدل على الجهل بالتاريخ.
وتصوّرت الكاتبة أنّ الدراما تبيح لها العبث بالتاريخ، وهكذا عرفنا منها ما لم يأت به أي مرجع تاريخي وهو تسميم الأمير فؤاد وموته (وهو والد الملك فاروق).
الأموال لا تصنع العظمة
ويبقى أنّ الأموال «لا تصْنَعُ» العظمة والريادة بل «تستخدَمُ» لصنعها، والقاعدة في أي عمل تاريخي جدير بالاحترام هي اللجوء إلى المختصين، وهم أكثر من الهمّ على القلب.
والغرور الذي يجعل كاتبا يظن أنه جمع فأوعى يؤدي إلى عكس الهدف المرجوّ، حيث يتنامى شعور قطاعات كبيرة من المشاهدين بأن هناك من يعبث بهم لمجرد أنه يملك المال الكثير.
وهذا هو الفرق بين رجال المال والأعمال في الغرب وتجار الترابندو عندنا، فرجل المال يجب أن يتّصف بالذكاء وحسن التصرف واحترام الآخرين، لأنهم هم مصدر أمواله.
وليتنا كمشاهدين ننجح في إقامة تجمّع ما، يمكننا من وضع المنتجين الفنيين عند حدّهم، لكي نفرض عليهم احترام المشاهدين والتاريخ، لأنّ مقاطعة البائع، ولا أقول التاجر، هي أمضى الأسلحة في تقويمه.
ولعل تجمعا لحماية المواطنين من السفه الفني يكون طريقا لتجمّعٍ مماثل يستهدف أنواعا أخرى من السفه الذي نعاني منه في أكثر من مجال.